مقالات رأي

أفغانستان والاستدعاء الغربي للاعتبارات الإنسانية

على مدار الأيام الماضية حاصرتنا محطات الأخبار ووكالات الأنباء العالمية بمشاهد وصور أقل ما يمكن أن تُوصف به أنها صادمة ومخزية ومحزنة جدًا بل وغير مسبوقة لتداعيات الاحداث السياسية في أفغانستان في أعقاب سيطرة حركة طالبان المسلحة على السلطة تزامنا مع بدء تنفيذ انسحابٍ للقوات الامريكية من هناك بحسب خطتها المعلنة مسبقًا.

مشاهد مؤسفة لحالات الهروب والفرار الجماعي العظيم لآلاف المواطنين الأفغان ممن توافدوا (ولازالوا) على مطار العاصمة كابول مقتحمين مدارج طائرات الإجلاء العسكرية الأمريكية والأجنبية ومعرقلين انسيابية حركة الطيران الدولية في المطار أملًا في اللحاق بطائرات “الخلاص” أو التشبث بآخر فرصة للإقلاع والفرار مبكرًا قبل ما اعتبروه مستنقع الدولة المنهارة والتي أصبحت الآن في قبضة الإرهاب والتشدد والقمع والفقر والمرض والعنصرية وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتدهورة أصلًا.

الأفغان فضّلوا قرار الرحيل الطوعي بعيدًا عن أرض الوطن المُنهك الضعيف المحتل (في كل العهود) مُتيممين برئيسهم الهارب “أشرف غني” الذي كان عرّابًا لشعبه على الفرار والنجاة بنفسه ومن معه لاعتبارات “إنسانية حقنًا لدماء الشعب الأفغاني ” كما ردد!!!

المشاهد التي تم تصويرها بعناية فائقة واحترافية متناهية عكست بالطبع حالة الذعر الهلع التي نقلتها لنا المجموعات التي كانت موجودة داخل وفي محيط مطار كابول من الشباب والعائلات الحديثة من الشعب الأفغاني الذين اقتحموا المطار وهرولوا بعشوائية إلى حيث طائرات الإجلاء الأجنبية مخاطرين بأنفسهم وأرواحهم وحياة أبنائهم أمام عجلات الطائرات العسكرية الأمريكية التي لم تأبه بنداءاتهم المترجيّة في اليومين الأوليين من الأزمة ومضت في طريقها بعد ضمان إجلاء الدفعات الأولى من رعاياها وبعض الأفغان “المتعاونين مع قواتها” إبان سنوات احتلالهم العسكري على مدار عشرين عامًا والتي أعقبت إقصاءهم لمقاتلي طالبان عن السلطة في عام 2001م بعد تجربة فاشلة لهم في حكم البلاد استمرت خمس سنوات (1996-2001).

مشاهد استحقت أن تكون صورًا مخلدة للتاريخ، ولكن عن أي تاريخٍ يمكن أن تتحدث هذه المشاهد في المستقبل؟؟ ماذا سوف يستذكر الأطفال والشباب والرجال والفتيات ممن فرّوا من بلادهم مُكبلّين بالأمل المجهول داخل طائرات شحن عسكرية أجنبية بعد جولات من البكاء والصراخ والعويل والاستجداء للصعود على أولى درجات سلّم اللجوء والشتات تاركين خلفهم ما تبقى من جذورهم المتيبسّة؟

ترى ماهي القصص التي سيرويها اللاجئون وستُخلّد في ذاكرة الأجيال بعد أن استجاروا بقوات أجنبية احتلتهم واستنزفت قواهم ونهبت مواردهم وأفقدت جيشهم القوة والعقيدة القتالية والولاء والكرامة، وساهمت في خلق واستمرار العنف والفوضى والاقتتال والحرب والانقسام والفقر والإرهاب في بلادهم المضطربة وصولًا إلى إعلانها (إمارة أفغانستان الإسلامية)! واللافت أن اختيار قادة طالبان لاسم دولتهم الجديدة لربما يَشي بدولة خلافة إسلامية كبرى جديدة قادمة على غرار ما يسمى بدولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام “داعش” ومن ثم قد تتبعها إمارات وولايات إسلامية أصغر وهكذا!!!

من خلال متابعة الخطاب الإعلامي المُستنسخ في معظم محطات الأخبار العربية والعالمية المتلفزة والورقية والإلكترونية سنلاحظ تعمد توجيه الجمهور والرأي العام للتركيز على الجانب الإنساني للأزمة بشكل أكبر، وتقديم الشعب الأفغاني على أنه يمر بأكبر كارثة إنسانية على وجه الأرض تستدعي تكاتف المجتمع الدولي برُمته لإنقاذه من حكم طالبان وتسخير كافة الجهود لسرعة إجلائه عن وطنه وتوفير الملاذ الآمن له في عدد من الدول العربية والأوروبية بناء على طلب أمريكي!

الرسائل الإعلامية الموجهة بعناية على يد صنّاع الإعلام الغربي والأمريكي تحديدًا لم تغفل شيطنة وتعظيم الخطر القادم لحركة طالبان على الدولة الأفغانية والمبالغة في توقع أفعالهم الانتقامية المترقبة بعد هدوء العاصفة، مع الإبقاء في الوقت ذاته على “منح فُرصٍ” موازية لهم لتصحيح وجههم النمطي القبيح وتقديمهم لمجتمعهم والمجتمع الدولي بصورة أقل تشددًا وأكثر مرونة وتسامح سواء مع أعضاء الحكومة السابقة أو الجيش أو المعارضين أو أولئك المذعورين من حكمهم من عامة الشعب وهم بالأخص مَن حرص قادة طالبان على مخاطبة ودهم وتطمينهم بمستقبل أفضل لاسيما فيما يتعلق بحقوق المرأة في التعليم والعمل، والأقليات العرقية والدينية والحريات العامة في إطار تطبيق الشريعة الإسلامية في الإمارة الجديدة التي تحتاج سواعدهم للبناء والإعمار!! 

التسارع الدراماتيكي للأحداث لم يستغرق (ميدانيًا) كما سوّق الأمريكيون أكثر من 11 يومًا منذ بدء استيلاء مسلحي طالبان على معظم مدن وولايات أفغانستان وصولا إلى السيطرة على كابول في سلاسة ودون مقاومة عسكرية تُذكر من الجيش الهش، غير أن هذه الأحداث في حقيقة الأمر قد أخذت مكانها على أرض الواقع فعليًا داخل الغرف المغلقة منذ عدة سنوات في الدوحة وواشنطن وكابول وإسلام آباد وبعض عواصم الدول الصديقة!

ما زالت الأزمة في بدايتها في أفغانستان أو قد تكون بداية الانفراجة! فلا أحد يعلم أو يتنبأ بمستقبل هذا البلد المتخم بالفساد والتآمر والإرهاب كيف سيؤول غده، وعلى أية أرضية هشة سيقف شعبه! ولعل حالة الهلع التي حفرت في ذاكرتنا ما حيينا من داخل مطار كابول للفارّين تجعلني وبعيدًا عن سيل.

الإنسانيات التي يستثمرها صناع القرار السياسي الغربي وإعلامهم كمطيّة لإجبار العالم على قبول تبعات وتداعيات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان واستيعاب اللاجئين (المجهولين) لأسباب غير معلومة لنا ولكن معلومة لهم وإن كانت بكل تأكيد ليست لدواعي أو اعتبارات إنسانية!

التجربة أثبتت على مر التاريخ الذي كعادتنا لا نقرأه يتمهل وعظة، أن الاعتبارات الإنسانية لا مكان ولا وجود لها لدى القوات المحتلة، فاللاجئون الأفغان الجدد عددٌ كبير منهم ممن تعاونوا مع القوات الأجنبية السنوات العشرين الماضية وهم من لهم الأولوية في الصعود الى طائرات الـ “الشكر والعرفان” على جميع وجميل ما صنعوه وقدموه لهم من خيانة وتآمر وتسهيل مهامهم القذرة في إذلال وتركيع وانهاك وطنهم تحت شعار الأهداف الاستراتيجية العظمى لبناء الدولة وحمايتها من إرهاب طالبان وترسيخ الحريات والديمقراطية الواسعة، وهي أهداف صورية سرعان ما تنكر لها الرئيس الأمريكي جو بايدن معلنًا نجاح بلاده في تحقيق أهدافٍ أخرى مبهمة في أفغانستان بخلاف تلك التي سوغت تواجد القوات الأمريكية قبل عقدين!!! 

وإذا توقفنا قليلًا لتأمل مطيّة “الدواعي والاعتبارات الإنسانية” التي بسببها تقود الولايات المتحدة حملة محمومة عابرة للقارات لسرعة إغاثة وإجلاء شعبٍ تخلى عن وطنه في أدق الظروف في كل مرة وقرر بإرادته عدم البقاء والدفاع عنه من الخطر القادم والإرهاب والفساد المحقق والاحتلال القائم، أين هذه الدواعي الإنسانية للشعب العراقي الذي لازال يعاني من أبشع سنوات الاحتلال الأمريكي وما خلفته من الفوضى والإرهاب وغياب الدولة؟ أين الاعتبارات الإنسانية في الاستئناس بمشاهد اللاجئين السوريين داخل مخيمات اللجوء على الحدود؟ أين هذه الدواعي الإنسانية التي أبدًا لم تكن عاجلة لإنقاذ مسلمي الإويجور من قمع وجرائم إبادة الحكومة الصينية العنصرية ضدهم؟ أين هم من جرائم التهجير والتطهير العرقي لمسلمي الروهينجا في بورما (ميانمار)؟ ماذا عن اعتبارات إنسانية وقف العالم أمامها موقف المتفرج دون تدخل ومرت مرورًا مخزيًا وليس كريمًا؟

أما اليوم فالعالم عليه الاستجابة للولايات المتحدة ومساعدتها في استكمال تنفيذ مخططها الأحمق والمساهمة في استيعاب فشل مرحلة ما بعد الانسحاب من أفغانستان!

لجميع تلك الأسباب وغيرها، عفوًا؛ لن أتعاطف مع القضية الأفغانية عن بكرة أبيها ولن أصدق “الدواعي الإنسانية” التي يتشدق بها العالم لتبرير جريمة خيانة شعب لوطنه والرضوخ للفساد والإرهاب (وجها عملةِ انهيار وتخلف أي دولة).

لن أصدق وعود قادة طالبان المتأسلمين والمستحدثين وتطميناتهم، ولن أتأسف على دموع المسؤولين والنواب والوزراء في الحكومة السابقة وهم يتباكون على حال وطنهم من عواصم الدول التي فرّوا إليها وأمنوا.

لقد وصل الإخوان المسلمون إلى السلطة في مصر وأذاقوا شعبها عامًا أسودًا عنوانه الإرهاب والفوضى والتآمر ما زلنا نعاني من تبعاته المؤلمة، ولكن لم يرحل المصريون ويتركوا الأرض والوطن والجذور لعصابات الظلام، لم يقتحموا المطارات والموانئ ليلحقوا بطائرات اللجوء وبواخر الخلاص والانتقال إلى ملاذات آمنة هربًا من هذا الكابوس الثقيل والمستقبل المجهول، لم يتخاذل الجيش في حماية الشعب والدولة ومقدراتها والتصدي ببسالة لمخططات الشر واختطاف الدولة.

لست في موضع مقارنات لأن المقارنة هنا لا تستقيم خاصة عندما يتعلق الأمر بقيم الولاء والهوية الوطنية وعقيدة الجيوش القتالية الوطنية التي لا تعترف إلا بعقيدة النصر أو الشهادة، والشعوب التي تُعلي مصلحة أوطانها فعلًا لا قولًا وليس لدواعي أو اعتبارات إنسانية ” تحت الطلب“!

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى