كورونا

تداعيات “جائحة كورونا” على السلامة النفسية والصحة العقلية

قرابة الشهور الأربع مرت حتى الآن على البشرية منذ الكشف الرسمي لمنظمة الصحة العالمية عن حالة الإصابة الأولى بمرض فيروس كورونا المرتبط بالمتلازمة التنفسية الحادة الشديدة النوع -2 والمعروف أيضًا بكوفيد- 19 المُستجد أو كورونا فيروس سريع الانتشار بين البشر.

ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم لم يلبث أن تحوّل هذا المرض الخطير بسرعة البرق من مجرد فيروس مُستجد لم يأبه به كثيرون إلى وباء خطير لا لقاح له وصولًا الى تصنيفه جائحة عالمية تضرب بكل قوة الدول والشعوب متخطية بضحاياها المليون و600 ألف إصابة ونحو 100 ألف وفاة في جميع دول العالم دون استثناء، وفقًا لآخر الإحصائيات مساء السبت 11 أبريل.

لقد استطاع فيروس كوفيد 19 المُستجد أن يترك آثاره السلبية ليس على صحة الإنسان فحسب، بل على المستويات السياسية والاقتصادية والتشغيلية والأمنية العالمية، كيف لا والإنسان هو محور التنمية والحياة على هذا الكوكب.

وبنفس القدر وربما أكثر تسببت هذه الجائحة بأضرار جمة على الصحة النفسية والمدركات العقلية للإنسان لاتقل بأي حال عن الأثر الجسدي صحيًا، بل ربما تتوازى معه في قوة التأثيروالتبعات التي بلا شك تداعياتها وآثارها ستمتد طويلًا حتى بعد زوال هذه الأزمة.

وهذا بالضبط ما أفضت إليه وأثبتته العديد من الدراسات والأبحاث العلمية المتخصصة بالصحة النفسية، وأكده استشاريو واخصائيو الطب النفسي ولمسناه بأنفسنا من خلال عملنا الصحفي والإعلامي وعايشناه وسط مجتمعاتنا. ولعل المقصود هنا من المتضررين نفسيًا من جائحة كورونا ليس فقط المصابين بالمرض أو المتعافين منه أو المحجورين إجباريًا وإن كانت هذه الفئة الأكثر تضررًا، ولكن جميعنا شركاء في تقاسم هذه الآثار باعتبارنا نتقاسم أيضًا جميع المخاوف والهواجس والإجراءات المتبعة للوقاية من هذا الفيروس، حتى بدا أن من قـُّدر لهم النجاة من الإصابة بالفيروس، لن يفلتوا من شبح الأمراض النفسية الّتي يرجّح أن تتركها الأزمة من ضغط نفسي مصاحب، كما من المرجح جدًا أن يتمّ تسجيل حالات قلق واكتئاب وأرق واضطرابات إدراكية بنسبة أكبر خلال الفترة القادمة من هذه الأزمة ومابعدها.

هذا الوضع غير المسبوق دفع منظمة الصحة العالمية إلى نشر سلسلة توصيات للصحة العقلية للسكان، سواء للأشخاص المعزولين أو كبار السن والحوامل ومرضى الأمراض المزمنة أو العاملين في القطاع الطبي خط الدفاع الأول، كما شملت نصائح للتصدي للأخبار الكاذبة بسبب تأثيرها السلبي على السكان وتشجيع الحوار في حالات الضغط النفسي أو ما يمكن أن نصفه بالعامية “الفضفضة” والبوح بكل مخاوف النفس وأسباب قلقها.

آليات تخفيف الأثر النفسي

منتدى لجنة الـ (IASC) وهي اللجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات والمنظمات التابعة للأمم المتحدة وغيرها الأهلية والمعنية بالصحة العقلية والدعم النفسي في الأزمات وحالات الطوارئ، أصدرت مذكرة في نهاية فبراير 2020 تلخص فيها الافكار الأساسية المرتبطة بالصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي خلال تفشي فيروس كورونا المستجد. 

وخلصت المذكرة الى مجموعة من التوصيات والاسترشادات المهمة فيما يتعلق بالصحة النفسية المصاحبة لكورونا وارتكرت في قاعدتها العامة على أن الفيروس ونظرًا إلى أنه بات منتشرًا في مختلف البلدان والأقاليم المتباينة في الأصل من حيث العادات والثقافات والبيئات فإنه من المستحيل تعميم طرق استجابة واحدة لتناسب الجميع وتتناول احتياجات الصحة النفسية والدعم الاجتماعي للعامة، إلا أن بعض التوصيات التالية في المذكرة يمكن أن تقود إلى مفاتيح للسلامة النفسية وأهمها:

  1. كبار السن هم أكثر الفئات التي تحتاج الى الدعم النفسي كونهم يعانون في الأساس من تدهور إدراكي ونقص في المناعة بحكم تقدم العمر وقد تنتابهم في ظل هذه الأزمة نوبات خوف وهلع وتوتر وهياج سلوكي مصاحب لتعرضهم لكم هائل من المعلومات المتعلقة بالفيروس، أو قد يكون بسبب إجراءات العزل الطبي والحجرالمنزلي الوقائية وقلقهم من الإصابة وربما الوفاة.
  2. من الطبيعي الشعور بالضغط النفسي والغضب والخوف أو التشويش والحزن ولكن من الضروري جداً التحكم في تلك المشاعر بتوازن وإيمان بأنها فترة استثنائية حتى وإن طالت، مع الثقة  في إجراءات وتدابير الحكومات للسيطرة على الأزمة والحد من انتشار الفيروس.
  3. الحصول على الحقائق والمعلومات من المصادر الرسمية فقط مع الحد من جرعة التعرض المكثفة للتغطيات الإعلامية المصاحبة للجائحة والاكتفاء بماهو أساسي وهام ورسمي بهدف التقليل من مشاعر الخوف والتشويش .

ويتفق مع لجنة الـ (IASC) ، ماذهبت اليه  المديرة التنفيذية المساعدة للأبحاث والسياسات في جمعية علم النفس الأمريكية “لين بوفكا” التي اقترحت عددا من الأساليب للسيطرة على ما يتلقاه المرء من معلومات للحد من التشويش الذهني المصاحب للأزمة والمتسبب في الإخلال بالسلامة النفسية والمزاجية للأشخاص منها:

تقليل مصادر تدفق المعلومات والاعتماد على بعض المصادر الرسمية والموثوقة فقط دون الخوض في المعلومات المتخصصة أو المفصلة والمعقدة.

 – تركيز الشخص على مايدور في مجتمعه ومحيطه القريب أولاً ، بينما يمكن أن يتفاعل بشكل سطحي وعام مع مجتمعات الدول الأخرى.

  عدم الوقوع في فخ نشر وتناقل الشائعات والأخبار المتداولة من الأصدقاء ومجموعات المحادثات عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتي يعتبر معظمها آراء شخصية لا أساس علمي أو بحثي معتمد لها.

  تحديد المخاوف والتفكير في التهديدات المسببة للقلق حتى الأرق والتي ربما أعظمها الخوف من الموت.

  تزايد مخاوفنا الوجودية الأساسية، ويمكن استبدال ذلك بالتفكير في مدى واقعية تحقق مايخيف المرء من عدمه وفرص تحققه والوصول إلى أنه حتى في أسوأ الاحتمالات سيظل الأمل موجوداً.

  الانتباه للاحتياجات الأساسية والصحية الأخرى بعيداً عن الانغماس في التفكير في فيروس كورونا بشكل يصرفنا عن وضع الأمور في سياقها الصحيح وبشكل يمنعنا من العيش بطريقة صحية وسليمة.

  وأخيرا ؛ عدم معاقبة النفس بالقلق الدائم أو ترك الشعور بالذنب يتحول إلى رفيق الانسان المقرب غير المرغوب فيه.

في دراسة بحثية أخرى أجراها المحلل النفسي الفرنسي “رولان غوري” الذي عكف على دراسة وتحليل تبعات اعتداءات العام 2015 في فرنسا، أوضح في حديثه لـوكالة الأنباء الفرنسية “فرانس برس” أنّ حالات الصدمة تحدث عندما يكون الشخص غير مستعد لحدث ما وعندما يواجه أمرًا مباغتًا على الصعيد النفسي.

ومن بين كل السيناريوهات الكارثية المتداولة، كانت نظرية انتشار وباء يشل الحركة في العالم الأقل ترجيحًا ربما لكثيرين، بعد سنوات من الأزمات المالية والاعتداءات والطوارئ المناخية وربما يفسر ذلك حال الصدمة السائدة، بحسب “غوري” خاصة وأن هذا يعتبر رد  فعل طبيعي في حالات الأوبئة، وهي محطات متجذّرة في المخيّلة الجماعية منذ زمن الطاعون الأسود في القرون الوسطى والإنفلونزا الإسبانية ووباء الكوليرا مطلع القرن الماضي.

وقد تُرجم ذلك من خلال إنكار الخطر الذي لازم البعض ممن دأبوا على الإبقاء على المصافحة باليد، أو تعاملوا على أن الخطر لازال بعيدًا جغرافيًا طالما لم يصل لدوائرهم القريبة جدا (عائلتهم، قريتهم، مدينتهم، بلدهم)، أو الهلع لدى مرضى آخرين تولّد لديهم شعور بأن أمرًا ما ينهار في طريقة العيش والقلق من تضرر الروابط الاجتماعية والشعور بالوحدة والعزلة الداخلية والخوف من انتقال العدوى وعدم جدوى احتواء الاصابة وبالتالي الوفاة وهو مايعززه الطابع السوداوي للفيروس!! 

العواقب النفسية لفيروس كورونا

C:\Users\hesham\Desktop\images.jpg

التأثير النفسي المعقد لفيروس كورونا المستجد على الأشخاص تطرقت إليه سلسلة مقالات بحثية نشرتها مطلع أبريل الجاري، ( مجلة لانسيت – THE LANCET )، المجلة الطبية والعلمية البريطانية الأشهر على مستوى العالم ، من خلال تحليل مواقف أزمة صحيّة مماثلة وهي تفشي وباء السارس في الصين عام 2003م  وتحليل بيانات هذه الفترة وبقاء مناطق مختلفة من الصين في الحجر الصحي لمدة تراوحت من 10 – 15 يوما ومقارنتها بالوضع الحالي مع فيروس كورونا المستجد حيث تمكّنوا من

تحديد العواقب النفسية لفيروس كورونا وأبرزها:

1- العزل لمدّة عشرة أيام وما يزيد يسبّب الضغط النفسي حيث يبدأ العقل في الانهيار بداية من اليوم 11 ويتفاقم الإحساس بالتوتر والعصبية والقلق. 

2- الخوف غير المنطقي من العدوى، فكلما توسّعت بؤرة انتشاره اجتاحت العقل البشري مخاوف ووساوس غير منطقية قد تشكك في الاجراءات الحكومية والطبية المتخذة وفي جميع تدابير الوقاية أحياناً.

3-الشعور بالملل والإحباط في ظلّ تقليل التواصل الاجتماعي وأنشطة الترفيه وتعليق السفر والدراسة وربما اجراءات حظر التجول الكلي أو الجزئي.

4-الشعور الكاذب بنقص الضروريات الأساسية ، حيث أن النبضات العصبية في العقل البشري تدفع الإنسان إلى ممارسة الشراء العصبي وفقا لنظرية الدافعية الإنسانية التي قد تبرر سلوك تخزين الطعام والمواد الغذائية والضرورية.

5-فقدان الثقة في كل شيء ويعززها نشر وتداول البيانات المتناقضة والاخبار الكاذبة ،  وفي ظل هذا الوضع يمكن أن يصبح عدم ثقة الشعب في الجهود والتدابير التي تبذلها الحكومات “العدو الأسوأ” لأي دولة .

6- اضطرابات نفسية معقدة خاصة لدى الاشخاص الذين يعانون في الأساس من الاكتئاب، والرهاب، والقلق العام، والوسواس القهري والاحباط النفسي .

7- التفكير السلبي المتشائم وتوقع الأسوأ من العوامل التي تؤثر على الصحة العقلية، وتكمن الخطورة في أن يتطوّر ليصبح تفكيرا كارثيا يقود الى الهلوسة بنهاية وفقدان الأشخاص والأشياء وعدم عودة الحياة إلى سابق عهدها.

ختاما

الصحّة النفسيّة لدى البعض على المحك في ظل استمرار الضيف الثقيل كوفيد-19، فنحن مهما قرأنا واعتددنا بالدراسات ذات الصلة فلن نعلم ما سينجم من آثار نفسية داخل المجموعات العائلية التي انغلقت على نفسها اضطرارياً، لانعلم الى أين ممكن أن يقود اختلال تلك العلاقات وتضررها سواء بين الأجيال المختلفة في الاسرة الواحدة، أو الأزواج والابناء وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة في أيام الحجر المنزلي الاحترازي الطويل، والذي حتى وإن طال أمده فلابد له من انحسار ونقطة نهاية ونصر بشري محتوم ومحفوف بعناية إلهية لامحالة، وهذا يتطلب منا جميعاً التضامن والتكاتف و التزام الهدوء وتقديم الدعم النفسي بكل الطرق لمن حولنا لتجاوز المحنة بأخف الأضرار.

***

المصادر :

  • مذكرة توصيات منتدى لجنة الـ (IASC) التابعة للأمم المتحدة – نهاية فبراير 2020
  • سلسلة مقالات بحثية لمجلة (لانسيت ) الطبية البريطانية – مارس وأبريل 2020
  • بيانات وتقارير منظمة الصحة العالمية المعنية بالصحة النفسية لجائحة كورونا
  • مقالات ودراسات لمحللين نفسيين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى