
السياسة الأمريكية تجاه كوريا الشمالية.. الواقع والمتوقع والمأمول
تضع الإدارة الأمريكية بقيادة جو بايدن اللمسات النهائية لمراجعة سياسة الولايات المتحدة تجاه كوريا الشمالية والتي أصبحت أكثر تعقيدًا مع عدد من المتغيرات تتمثل في استمرار بيونغ يانغ في تطوير برنامجها النووي والصاروخي والتقارب الصيني الكوري الشمالي الذي بلغ ذروته عام 2019 في زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لعاصمة الدولة المعزولة، ومساعي إدارة بايدن استعادة دورها في شرق آسيا الذي تراجع إبان حكم سلفه دونالد ترامب.
في الولايات المتحدة أطلع مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان نظيريه الياباني “شيغيرو كيتامورا” والكوري الجنوبي “سوه هون” على مراجعة سكان البيت الأبيض الجدد للسياسة تجاه الشمال. ووفقًا لبيان البيت الأبيض فإن الأطراف الثلاثة أعربوا عن قلقهم من البرنامج النووي والصاروخي لكوريا الشمالية مع الالتزام بقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة من قبل المجتمع الدولي بما في ذلك كوريا الشمالية ، ومنع الانتشار ، والتعاون لتعزيز الردع والحفاظ على السلام والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية والتعاون الثلاثي من أجل النزع النووي.
وحينما سئل المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس عن السياسة الأمريكية تجاه كوريا الشمالية –التي لم يعلن عن تفاصيلها- أجاب قائلًا إن نزع السلاح النووي سيبقى في قلب السياسة الأمريكية تجاه كوريا الشمالية، وأن أي نهج سيتم بشكل وثيق بالتعاون مع الحلفاء لاسيما اليابان وكوريا الجنوبية، ليبقى السؤال حول مدى قدرة واشنطن على تحقيق هذا الهدف خاصة مع عدد من المتغيرات في استراتيجية بيونغ يانغ الداخلية والخارجية.
ما الذي تغير؟
مع المؤتمر الثامن لحزب العمال الحاكم مطلع العام الجاري وقد رسمت سياسة بيونغ يانغ تجاه الولايات عبر التقرير المقدم للجنة المركزية والذي أشار –أي التقرير- إلى أن واشنطن لا تزال أكبر أعداء كوريا الشمالية، مع التعهد بتطوير القدرات العسكرية والنووية، مع التشديد على التوسع في التحالف مع مناهضي واشنطن.
إضافة إلى ذلك، فقد عدلت اللوائح الداخلية للحزب لتشير إلى “ضرورة التعجيل بانتصار الاشتراكية الكامل عبر إرساء الأسس المادية والتقنية للاشتراكية بمتانة وتوطيد تفوق النظام الاشتراكي وإطلاق العنان له بصورة أكبر، وتعزيز القوات المسلحة للجمهورية سياسيا فكريا، وعسكريا تقنيا باطراد”.
ظهر ذلك جليًا في وقت لاحق بإجراء كوريا الشمالية تجربة لصاروخين باليستيين قصيري المدى قالت عنهما وسائل الإعلام الرسمية لبيونغ يانغ إنه صاروخ “تكتيكي تم تطويره مؤخرًا” وأنه طار لمسافة 600 كيلو متر ليصيب الهدف المحدد له بدقة في بحر الشرق “بحر اليابان” لتكون أول تجربة لصواريخ باليستية منذ نحو عام والأولى منذ دخول بايدن للبيت الأبيض.
يؤكد ذلك اللغة التي استخدمتها كوريا الشمالية في الرد على محاولات إدارة بايدن للتواصل معها مرة أخرى على لسان نائبة وزير خارجية بيونغ يانغ تشوي سون هي التي قالت “إذا جلسنا مع الولايات المتحدة غير المستعدة للشعور بالتغيرات الجديدة والفترة الجديدة وقبولها، لن نفقد إلا الوقت النفيس” بحسب موقع نيه نارا الدعائي لكوريا الشمالية.
وتعني التغييرات الجديدة التي تحدثت عنها تشوي أيضًا وصول بلادها للقنبلة النووية منذ عام 2017 وهو ما تحدث عنه قائد التحليل الاستراتيجي لمجتمع الاستخبارات الأمريكية المعني بكوريا الشمالية سابقَا ماركوس جارلاوسكاس على موقع معهد الولايات المتحدة للسلام بالقول إن خيار زعيم الدولة الشيوعية كيم جونغ أون واستراتيجيته هو أن تصبح بلاده قوة نووية وتبقى كذلك وهو ما أكده في مؤتمر الحزب كما ذكرنا آنفًا.
التغيير الآخر خارجي يتمثل في تنشيط التحالف الكوري الشمالي الصيني مؤخرًا، فبعد أن كانت العلاقة بين بكين وبيونغ يانغ متوترة في السنوات الأولى لزعامة كيم جونغ أون البلاد حتى عام 2017 تبدلت الأمور لتبلغ أقصى درجات التعاون في العامين الأخيرين في أعقاب زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى كوريا الشمالية عام 2019 في أول زيارة من نوعها لرئيس صيني منذ 14 عامًا.
وبحسب بحث مجموعة كوريا للأزمات عن نمو هذه العلاقات فإن زعيمي البلدين وافقا على تعزيز الاتصالات الاستراتيجية والتعاون في 7 مجالات مختلفة، ونقل أن كيم جونغ أون يبدي اهتمامًا بالتعرف على التجربة الصينية في التنمية الاقتصادية، بينما تعهد شي بالمساعدة في حل مشاكل التنمية في كوريا الشمالية.
ورغم الإغلاق الذي فرضه تفشي فيروس كورونا والذي تتخذ بسببه كوريا الشمالية إجراءات صارمة غير مسبوقة فإن الرسائل المتبادلة بين كيم وشي طوال العامين لم تنقطع، بل وإن التقرير المقدم في المؤتمر الثامن لحزب العمال الحاكم مطلع العام الجاري أعطى العلاقات مع الصين أولوية خاصة بما يتلاءم مع متطلبات العصر.
يعزز ذلك التقارب أيضًا الحاجة الاقتصادية الملحة لكوريا الشمالية التي تواجه أزمة اقتصادية حادة زادها فيروس كورونا والكوارث الطبيعية إضافة إلى العقوبات الدولية حدة حيث إن الميزانية المعتمدة من قبل مجلس الشعب الأعلى لعام 2021 بنمو نسبته 0.9٪ لكل من الإيرادات والنفقات المخططة هي الأدنى منذ عقود وتشكل انخفاضًا حادًا مقارنة بالعام السابق والذي كان متوقعًا بـ 4.2٪.
وبحسب الخبراء الاقتصاديين فإن الخطة الخمسية الاقتصادية الموضوعة خلال مؤتمر الحزب مطلع العام الجاري تضع كوريا الشمالية أمام عدة خيارات الأكثر واقعية منها هي الحصول على مساعدة تجارية واقتصادية على نطاق واسع من الصين وهو ما تعمل عليه بيونغ يانغ حاليًا عبر الاستعداد لذلك مع انتهاء الوباء العالمي.
يدلل على ذلك من خلال تعيين كوريا الشمالية لسفير جديد لها لدى بكين هو “ري ريونغ نام” الخبير في التجارة الدولية؛ إذ إنه كان نائبًا لرئيس الوزراء لشؤون التجارة الدولية، إضافة إلى علاقات عائلة زوجته بالصين، إذ إن حماه كان يعمل في ذات المنصب، وإن هذا التعيين هو الأول في عهد كيم جونغ أون حيث إن سلفه كان يعمل منذ عام 2010 أي أواخر حكم كيم جونغ إل.
هذا التقارب يعقد من مهمة الولايات المتحدة إذا ما طلبت من الصين التعاون لحل الأزمة في شبه الجزيرة الكورية حيث إن ورقة الشمال عادت مرة في يد بكين التي تغير خطابها المتعلق بهذه القضية وهو ما شهدناه مؤخرًا في تعليق بكين على إطلاق الشمال لصاروخين باليستيين على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشين يينغ التي قالت إن الصين ترى دائما أن على جميع الأطراف المعنية العمل معًا للمضي قدمًا في التسوية السياسية لقضية شبه الجزيرة الكورية.
حقوق الإنسان.. خلاف بين واشنطن وسول
تأتي الإدارة الأمريكية الديمقراطية على عكس سابقتها واضعة ملف حقوق الإنسان ضمن أجندتها الدولية لا سيما في تعاملاتها مع الصين وكوريا الشمالية، هذا الأمر ربما لا يضعها مع الإدارة التي يقودها الرئيس الليبرالي مون جيه إن على خط واحد.
يُدلل على ذلك بأمرين؛ الأول هو امتناع كوريا الجنوبية عن المشاركة في دعم قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بشأن انتهاكات كوريا الشمالية حقوق الانسان للعام الثالث على التوالي، على الرغم من انضمامها إلى اعتماد الوثيقة بالإجماع بحسب وكالة أنباء يونهاب الكورية الجنوبية.
الأمر الثاني يتعلق بتعديل قانون العلاقات بين الكوريتين أقرته سول ودخل حيز التنفيذ نهاية مارس 2021 متعلق بمنع إرسال المنشورات الطائرة التي تنتقد كوريا الشمالية عبر الحدود بين البلدين، والذي أتى في أعقاب غضب الشمال عام 2020 من هذا النوع من المنشورات وانتهى بتدمير مكتب الاتصالات المشترك بين سول وبيونغ يانغ.
تقول كوريا الجنوبية إن هذا التعديل أتى لحماية حياة سكان المناطق الحدودية في البلاد، ومشيرين إلى قرار المحكمة العليا لعام 2016 الذي يسمح بتقييد أنشطة المنشورات عند تقديمهم “تهديد وشيك وخطير” لحياة السكان وأمنهم الجسدي في المناطق الحدودية.
هذا التعديل وضعته الولايات المتحدة ضمن ملحوظاتها على تقرير حالة حقوق الإنسان في كوريا الجنوبية عام 2020 كواحدة من قيود حرية التعبير، وهو ما ردت عليه سول لاحقًا عبر وزارة الوحدة بالقول إن حق الكوريين الشماليين في الحصول على المعلومات يجب أن يتم بطريقة لا تنتهك حقوق الإنسان لسكان المناطق الحدودية بين الكوريتين.
هذان الأمران يظهران مدى الخلاف بين سول وواشنطن حول هذه المسألة في الوقت، وبحسب مركز ويلسون للدراسات فإن إدارة بايدن قد لا تهمش فقط قضية حقوق الإنسان من أجل التقارب مع كوريا الشمالية لكنها قد تتحدى سياسة الانخراط المفرط التي تتخذها إدارة مون جيه إن مع بيونغ يانغ، وأنه من غير المرجح أن يغير الأخير من استراتيجيته خلال السنة الأخيرة من حكمه والتي يسعى فيها لإحياء التواصل مع كوريا الشمالية.
وبالتالي فإن على ساكن البيت الأبيض الجديد وساكن البيت الأزرق أن ينظرا في مقدار الدور الذي يجب أن تلعبه حقوق الإنسان في كوريا الشمالية في الحوار بين الولايات المتحدة وجمهورية كوريا، وهو ما يتوقع أن يكون أحد بنود المحادثات خلال قمة تجمع بين بايدن ومون تم الاتفاق على عقدها من حيث المبدأ في أقرب وقت ممكن.
ما يجب أن تحويه السياسة الأمريكية تجاه الشمال
في ظل المتغيرات التي ذكرناها سابقًا يتكرر التساؤل حول إمكانية نجاح الاستراتيجيات التي اتخذتها الإدارات الأمريكية السابقة في التعامل مع نظام يرى أنه أصبح قوة نووية ودولة قد تكون أقل تعاونًا في حل الأزمة مع تغير أوراق اللعبة.
فبحسب معهد برونكجز يطرح البعض فكرة الضغط المكثف على كوريا الشمالية عبر التعاون من خلال تحالف يزيد الضغط على كوريا الشمالية عبر فرض مزيد من العقوبات، وغلق”السفارات والقنصليات والشركات التجارية الخارجية التي تمارس أنشطة غير مشروعة” لكوريا الشمالية، وزيادة “وتيرة ونطاق” التدريبات العسكرية للولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان، واعتراض “السفن والطائرات الكورية الشمالية المشتبه في خرقها للعقوبات”، ومعاقبة الشركات الصينية المتورطة في التهرب من العقوبات، وتوظيف وسائل سرية “لتعطيل اقتصاد كوريا الديمقراطية ، بما في ذلك شبكة الطاقة الكهربائية الخاصة بها”.
ويستند هؤلاء الباحثون في نظرتهم على أن مفتاح نزع السلاح النووي هو تغيير “الحسابات الاستراتيجية” لزعيم كوريا الشمالية، مما يجبره على اعتبار استمرار حيازة الأسلحة النووية أكثر ضررًا لاحتمالات بقاء النظام، وأنه في ظل الظروف الاقتصادية القاسية التي تعيشها الدولة المعزولة فإن هذه فرصة لإيصال نظام الحكم لحالة يأس يفكر فيها في المكافآت الاقتصادية والأمنية والسياسية التي ستعقب التخلي عن السلاح النووي.
هذه الاستراتيجية التي ينظر إليها على أنها تمثل جزءً ثانيًا لاستراتيجية “الضغط الأقصى” يُشكك في فاعليتها نظرًا لأنها تحتاج لجهود موحدة مشابهة لتلك التي كانت عامي 2016 و2017 اللتين كثفت فيهما كوريا الشمالية من تجاربها النووية والصاروخية وهو ما تغير خلال الأعوام التالية.
فخلال عامي 2018 و2019 وما شهده العالم من “دبلوماسية القمم” أصبحت كل من روسيا والصين مساندتين لفكرة تخفيف العقوبات عن بيونغ يانغ، وما زاد الأمور تعقيدًا تراجع العلاقات بين كل من موسكو وبكين من جانب مع واشنطن في السنوات الأخيرة.
ومع تعاظم الروابط الاقتصادية للصين وكوريا الشمالية فإن بكين سترفض أي محاولة للضغط على كوريا الشمالية أو المشاركة فيها خاصة وأن هذه الاستراتيجية قد تشمل فرض عقوبات على كيانات صينية، وبالتالي فإن هذه الاستراتيجية ستفشل إذا ما تم تطبيقها.
ويقول Robert Einhorn الباحث في معهد برونكجز إن إدارة بايدن قد تفضل اتباع نهج تدريجي طويل الأجل لنزع السلاح النووي كهدف نهائي باستخدام الضغط على كوريا الشمالية من أجل الدخول في مفاوضات وليس نزع السلاح النووي بشكل كامل وسريع وفوري.
وعليه فقد تبدأ إدارة بايدن بالاتفاق مع الحليفين الآسيويين “كوريا الجنوبية واليابان” أولًا باتخاذ تدابير قريبة المدى للحد من القدرات النووية والصاروخية لكوريا الشمالية كخطوات أولية في عملية طويلة الأجل تهدف صراحة للوصول إلى هذا الهدف النهائي.
يدلل على ذلك بحديث الرئيس الأمريكي جو بايدن في 25 مارس 2021 والذي قال فيه إنه مستعد لشكل من أشكال الدبلوماسية، لكن يجب أن تكون مشروطة بالنتيجة النهائية لنزع السلاح النووي.
ومن وجهة نظر شخصية ربما يحتاج العمل الدبلوماسي للوصول إلى هدف نهائي يتمثل في النزع النووي من وجهة نظر كوريا الشمالية إلى أمرين مهمين، الأول هو الوصول إلى تعريف مشترك بين واشنطن وبيونغ يانغ لكلمة النزع النووي حيث إن هذا المفهوم ينظر إليه في كوريا الشمالية على أنه إخلاء شبه الجزيرة الكورية من هذه الأسلحة ما يعني سحب الولايات المتحدة لأسلحتها الاستراتيجية في المنطقة مثل قاذفات بي 52 القادرة على حمل رؤوس نووية في حين أن التعريف الأمريكي لنفس الكلمة “شبه الجزيرة الكورية” يشمل النزع النووي للشطر الشمالي فقط، الثاني حصول النظام الشيوعي في الدولة المعزولة على ضمانة أمنية تبقي على شكل الحكم الموجود حاليًا خاصة في ظل مخاوف تكرار النموذجين العراقي والليبي، وفوق كل ذلك فعلى الولايات المتحدة أن تقدم ما يكفي من الحوافز الاقتصادية التي تقلل من اعتماد بيونغ يانغ على بكين وهو هدف كان يسعى إليه كيم جونغ إل وكيم إل سونغ منذ نهاية ثمانينيات القرن العشرين.