إيران

إيران لا تريد مزيدا من الجوار العسكري الأمريكي .. لماذا تم استهداف القاعدة الأمريكية في “أربيل”؟

يبدو أن توقع الاستاذ في جامعة “لوند” السويدية “أردفان خوشنود“، حينما كتب في مقال له نُشر في مركز بيجن-السادات يوم 30 نوفمبر الماضي تحت عنوان “اغتيال محسن فخري زاده: ما هي خيارات النظام الإيراني؟“،(*) قد بدأ يتحقق.

فقد رجّح خوشنود آنذاك ألا يُقدم النظام الإيراني على أي خطوات عسكرية ضد الولايات المتحدة خلال الأيام الأخيرة للإدارة الأمريكية السابقة قائلاً إن احتمالية رد النظام الإيراني “بشكل ما وبطريقة أكبر” على مقتل العالم النووي محسن فخري زاده مما رد بها على مقتل سليماني مرجحة أكثر بعد أداء الرئيس الأمريكي الجديد اليمين الدستورية.

وفي مساء يوم 15 فبراير الجاري، استهدف هجومٌ بالصواريخ أقرب قاعدة جوية عسكرية أمريكية من إيران تقع في مدينة أربيل بإقليم كردستان العراقي.

تسبب هذا الهجوم الإرهابي، الذي تم باستخدام 14 صاروخا، في مقتل متعاقد مدني فلبيني مع قوات التحالف الدولية التي تقودها الولايات المتحدة وإصابة 9 أفراد آخرين على الأقل إلى جانب 3 آخرين أصيبوا خارج القاعدة الجوية.(*)

(محافظة أربيل شمال العراق)

وفي اليوم التالي، تبنت الهجوم جماعة تطلق على نفسها “سرايا أولياء الدم”. وعلى الرغم من عدم توافر معلومات كثيرة حول هذه الجماعة، إلا أن الكثير من التقارير والمسؤولين الأمنيين أشاروا إلى ارتباطها بطهران وبالجماعات الموالية لإيران في العراق والمنطقة.

ومن بين هذه التقارير ما نشره موقع “صوت أمريكا” في نسخته الإنجليزية يوم 16 فبراير حين نقل عن المحلل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، فيليب سميث، قوله إن “الجماعة التي لا يُعلَم عنها الكثيرُ أثبتت قدرتها على الوصول إلى الأسلحة التي يمكن لإيران الوصول إليها وإعطاءها لوكلائها الشيعة في المنطقة”.(*) كما أكد مسؤولون عراقيون على الجانب الآخر أن لهذه الجماعة صلات بإيران.(*)

ولا يُعد هذا الهجوم الذي استهدف قاعدة “الحرير” الجوية الأمريكية المُشار إليها في أربيل عادياً لا في توقيته ولا مكانه. فبالإضافة إلى أنه الأول من نوعه منذ نحو شهرين، يحمل توقيت ومكان تنفيذ هذا الهجوم عدداً من الدلالات نتطرق إليها فيما يلي

أ- هل بدأت إيران الرد على مقتل سليماني

من يتابع وسائل الإعلام الإيرانية خلال الأشهر القليلة الماضية، يدرك أن المسؤولين الإيرانيين كانت تنتابهم مخاوفُ جدية من أن يُقدِم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، خاصة خلال الأشهر الأخيرة له في البيت الأبيض، على توجيه ضربة عسكرية نوعية ضد إيران كان من المتوقع أن تستهدف بشكل أكبر قواعدها العسكرية أو منشآت نووية تابعة لها.

ونُشرت تقارير عدة تفيد بأن ترامب كان يخطط لمهاجمة إيران خلال أيامه الأخيرة. وكانت أغلب هذه التقارير بالطبع قد كُشف عنها قبل وقوع الهجوم العنيف ضد مبنى الكابيتول (الكونجرس الأمريكي) في 6 يناير الماضي الذي اتُهم ترامب فيه بالتحريض على التمرد.  

ولم تستطع إيران الرد على سلسلة عمليات الاستهداف لعدد من قادتها العسكريين أو النووين خلال العام الماضي؛ لأنها كانت تعلم أن ترامب كان يرغب في اقتناص فرصة كهذه لتوجيه ضربة كبيرة ضد إيران، خاصة في أيامه الأخيرة.

وحتى بعد مقتل العالم النووي الإيراني البارز محسن فخري زاده في 27  نوفمبر 2020 وتوجيه إيران الاتهام لإسرائيل بالوقوف وراء العملية، لم تستطع طهران القيام بالرد ظناً منها، وهو ظن خاطيء، أن توجيهها هجمات ضد أي طرف في المنطقة بعد رحيل ترامب لن يواجه برد فعل قوي من الإدارة الأمريكية الحالية.  

(الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب)

ويبدو أن هذا الظن الخاطيء قد دفع الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إلى القول في نوفمبر الماضي بأن بلاده لن تقع في “الفخ” الإسرائيلي حين اتهم الأخيرة بالسعي لإثارة “فوضى” في المنطقة قبل أسابيع من تنصيب الرئيس الجديد جو بايدن، حيث أضاف حسن روحاني أن طهران سوف ترد “في الوقت المناسب“.

وقبل ذلك، لم تستطع إيران الرد بالشكل الذي عبّرت عنه وسائل إعلامها حين قتل قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، في غارة جوية بالقرب من مطار بغداد الدولي في 3 يناير 2020؛ ويبدو أن سبب عدم ردها على مقتل زاده هو نفسه الذي حجّم الرد الإيراني في 8 يناير 2020، ألا وهي المخاوف من رد أمريكي أكبر.

(مطار بغداد الدولي حين مقتل سلمياني)

وهنا، لا يمكن القول إن الإدارة الأمريكية الجديدة سوف تصمت أمام أي اعتداء إيراني على قواتها في أي مكان؛ ذلك لأنها تعلم جيداً أن السكوت سيتبعه مزيدٌ من الهجمات الإيرانية وأن طهران تريد إبراز رد فعلها على أحداث وقعت أيام الرئيس السابق دونالد ترامب وكذلك أن الهجوم على مطار أربيل كان “اختباراً” لواشنطن.

ولذا فإن تكرار مثل هذا الهجوم من المرجح أن يدفع إدارة بايدن إلى تبني مسلك مغاير وبعيد عن الدبلوماسية مع إيران خلال الفترة المقبلة. إن ما يعزز سيناريو بدء إيران الإقدام على اتخاذ ردود فعل تجاه أمور وقعت قبل توليه الرئاسة في الولايات المتحدة هي تصريحاتٌ سابقة للرئيس الإيراني حسن روحاني في ديسمبر الماضي قال خلالها إن طهران تحتفظ بحق الرد “في الوقت المناسب” على مقتل العالم النووي فخري زاده. وهي مقولة ترددت في إيران أواخر العام الماضي.  

ماذا تخفي “سرايا أولياء الدم”؟

 يبدو من تتبع نشأة الجماعة التي يُطلق عليها “سرايا أولياء الدم” أنها تركز على مهاجمة القوات الأمريكية في العراق. فقد ظهرت الجماعة للمرة الأولى في أواخر شهر أغسطس 2020، بعد أن أعلنت تبني هجومين منفصلين ضد القوات الأمريكية حين انسحابها آنذاك من معسكر التاجي شمال العاصمة العراقية بغداد. وتشير تقارير في وسائل إعلام أمريكية إلى أن هذه الجماعة لديها القدرة على الوصول إلى نفس الأسلحة التي تستخدمها الميليشيات الإيرانية في المنطقة.

 وأعلنت هذه الجماعة في يناير الماضي مسؤوليتها كذلك عن تنفيذ عملية ضد القوات الأمريكية في محافظة ذي قار جنوب العراق. وتقول تقارير إن اسم هذه المجموعة مجرد “واجهة” لجماعات مسلحة أخرى موالية لإيران تريد انسحاب القوات الأجنبية من العراق.

وعلى الجانب الآخر، يتضح من اسم هذه الجماعة التي تطلق على نفسها “سريا أولياء الدم” أنها ترغب، حسب اسمها، في تنفيذ عمليات رد فعل هجومية. وبالنظر إلى علاقتها بإيران، كما سبق القول، وتوقيت ظهورها في أغسطس الماضي بعد مقتل قاسم سليماني، يُرجح أن يكون هدفها ما أعلنت عنه إيران في وقت سابق من الرد على مقتل سليماني وابو مهدي المهندس وغيرهما؛ ذلك لأن النظام الإيراني كان يخشى كثيراً من الرد على العمليات التي استهدفت بعض البارزين فيه العام الماضي، ويمكننا هنا إعادة الإشارة إلى تصريح روحاني بالرد “في الوقت المناسب”.

إيران وضعت إخراج القوات الأمريكية من العراق ثمناً لمقتل سليماني

ويُضاف إلى ما سبق إعلانُ إيران بشكل صريح عقب مقتل سليماني في يناير 2020 أن إخراج القوات الأمريكية من العراق سيكون ثمناً لمقتل سليماني، حسب تصريحات متعددة للمسؤولين الإيرانين. ولذا، لا يُستبعد أن تكون نشأة هذه المجموعة قد جاءت لتنفيذ ذلك الإعلان المُشار إليه من قِبل النظام الإيراني.

ويمكن تدعيم وجهة النظر هذه بما قاله مسؤولون أمنيون لوكالة أنباء “فرانس برس” من أن اسم هذه المجموعة “سرايا أولياء الدم” مجرد “واجهة” لجماعات مسلحة أخرى موالية لإيران تريد انسحاب القوات الأجنبية من العراق.(*)

ب- لماذا تخشى إيران من انتقال القوات الأمريكية وتمركزها شمالا في إقليم كردستان العراق

عقب وقوع الهجوم على القاعدة الجوية الأمريكية في أربيل بالعراق، نشر الصحفي الإيراني المتخصص في شؤون الدفاع والمقرب من النظام الإيراني، حسين دليريان، تغريدة على تويتر قال فيها إن الولايات المتحدة تعمل في الوقت الحالي على توسيع قاعدة الحرير في أربيل كي تؤسس “خطاً برياً آمناً جديداً للوصول إلى شمال سوريا عن طريق استخدام حدود سيمالكا وقاعدة الیعبریه العسكرية في شمال شرقي سوريا”.

وأضاف دليريان أن “هجوم ليلة أمس الدقيق على قاعدة الحرير نقل وجهة نظر (المقاومة) العراقية إلى أمريكا”، حسب وصف وقول الصحفي الإيراني.

ومنذ الإعلان في سبتمبر الماضي عن نقل السفارة الأمريكية من بغداد إلى أربيل بإقليم كردستان، وكان هذا لمدة زمنية محددة إثر تعرض السفارة لهجمات بالصواريخ، باتت طهران تخشى من التمركز الأمريكي العسكري المتزايد في إقليم كردستان العراق خلال الفترة الأخيرة؛ والذي يجيء هو نفسه نتيجة للعديد من العوامل الأمنية والسياسية والعسكرية في العراق التي لا يتسع المجال لذكرها الآن.  

ولكن على أي حال، ترى إيران أن التمركز العسكري الأمريكي في شمال العراق بإقليم كردستان يُعد تهديداً لها في المستقبل؛ ذلك لأن إعادة الانتشار هذا سيعني في المقام الأول جواراً عسكرياً أمريكياً أقرب لإيران، من خلال قاعدة الحرير الجوية على سبيل المثال، وممارسة ضغوط كبيرة على الحكومة الإيرانية والميليشيات التابعة لها في المنطقة وليس العراق فقط.

وسيعني تمركز القوات الأمريكية في إقليم كردستان بدلاً من انتشاره بشكل أكبر داخل الأراضي العراقية بشكل عام أن واشنطن ستملك ورقة ضغط سياسية أكبر على إيران بدلاً من العكس؛ ذلك لأن القوات الأمريكية ستتموضع في منطقة يقل فيها نفوذ الميليشيات الموالية لإيران وبالتالي سيقل تهديد هذه الجماعات للقوات الأمريكية.

كما أن تمركز القوات الأمريكية في إقليم كردستان سيجعلها أقرب لإيران، وشمال إيران، من تلك المناطق الأخرى في العراق، ما يعني المزيد من التأثير على إيران نفسها، بعد أن كانت طهران في السابق تستخدم وجود القوات الأمريكية في العراق كورقة ضغط سياسية من خلال التهديد بمهاجمتها، أما بعد انتقال القوات الأمريكية للشمال العراقي الكردي فإن هذه الورقة ستفقد إيران أغلبَها.

ومن جانب آخر، سينتج عن إعادة الانتشار الأمريكي في الشمال العراقي بكردستان تشكيل تحالف أمريكي كردي على وجه الخصوص ربما يمهد لاحقاً إلى استقلال إقليم كردستان وهو ما يعني في ذاته قضية أخرى ذات حسابات إستراتيجية بعيدة المدى لإيران.

ومن المرجح أن ينتج عن انسحاب القوات الأمريكية من العراق وتمركزها فقط في الشمال عودة تنظيم “داعش” الإرهابي مرة أخرى في وسط وجنوب العراق بعد حالة الفراغ التي سيتركها الانسحاب من هذه المناطق، وهو خطر آخر تخشاه إيران في الوقت الحالي بالذات؛ بعد أن أصبحت قدرات طهران العسكرية “غير التنظيمية” أقل تأثيراً مما كانت عليه في السابق؛ نتيجة للعديد من التحولات العسكرية والاقتصادية التي مرت بها إيران خلال الفترة الماضية.

ج- هل هي رغبة إيرانية في التفاوض؟

يمكن قراءة الهجوم الأخير على أنه رسالة إيرانية للولايات المتحدة بضرورة بدء مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي على الفور، حيث تريد إيران إرسال رسالة بأن هذا الهجوم نموذج على ما يمكن أن تتحول إليه المنطقة حال عدم التفاوض مجدداً حول الاتفاق النووي المبرم بالأساس عام 2015.

 ولكن على الجانب الآخر، لا يُرجَّح هذا السيناريو كثيراً؛ لأن الفارق الزمني بين الهجوم الذي وقع يوم الثلاثاء 16 فبراير الجاري وانتهاء المهلة الزمنية التي حددتها إيران لبدء المفاوضات في 21 من الشهر نفسه لا يُعد كافياً لاتخاذ إجراء حاسم في هذا الملف، كما أن الحكومة الإيرانية تعلم جيداً أن إدارة الرئيس بايدن ترغب جدياً في التفاوض وقد عبّرت عن ذلك صراحة.

 وإجمالاً،

يمكن ترتيب الأهداف الإيرانية من وراء الهجوم على قاعدة أربيل الجوية كما يلي:

  • أولاً: إرسال رسالة إيرانية برفض انتقال القوات الأمريكية وتمركزها في إقليم كردستان شمالي العراق.
  • ثانياً: اختبار إيران لطبيعة رد الإدارة الأمريكية الجديدة على أنشطتها العسكرية في الشرق الأوسط في المستقبل القريب.
  • ثالثاً وأخيراً (السيناريو الأضعف): رغبة إيران في بدء المفاوضات مع الولايات المتحدة.
+ posts

باحث بالمرصد المصري

علي عاطف

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى