الأمريكتان

حصاد ترامب.. ما بين خريف العولمة وصحوة النيوليبرالية

عقب انتهاء مراسم تنصيب الرئيس الأمريكي جو بايدن، حملت لنا كاميرا الإعلام الدولي مشهدًا غير مألوف، حيث ذهب إلى مكتبه بالبيت الأبيض، فكان ينتظره على المكتب عددًا من القرارات الرئاسية الواجب توقيعها اليوم قبل الغد، وقعها الرئيس بشكل فوري كأنما انتهى من حمل ثقيل أن ينصرف من البيت الأبيض في يومه الأول.

تلك القرارات كانت كلها مضادة لقرارات سلفه دونالد ترامب، ورغم أن ترامب حاول إلغاء أغلب قرارات سلفه باراك أوباما، وحاول رونالد ريجان فعل الأمر ذاته مع سلفه جيمي كارتر، إلا أن حزمة القرارات التي وقعها الرئيس الأمريكي في أسبوعه الأول جعلت هذا الأسبوع هو “اجتثاث الترامبية” بامتياز.

ولكن ماذا فعل ترامب في سنواته الأربع حتى تتراكم تلك القرارات على مكتب الرئيس الجديد؟

فلسفة الترامبية

لم يترشح الملياردير دونالد ترامب وحيدًا أو على سبيل التسلية كما حاول الإعلام الدولي الإيحاء بذلك، إذ إن ترامب من ممولي الحزبين الكبيرين في أمريكا، وانتقل بين الحزبين أكثر من مرة، وللمفارقة كانت أمواله من أهم داعمي المرشح الديمقراطي بيل كلينتون في تسعينات القرن العشرين حينما كان ترامب ناشطًا في الحزب الديمقراطي.

وفى الولاية الأولى لباراك أوباما، أيقن ترامب أن النظام العالمي الذي يتخذ مسمى “العولمة الأمريكية” شعارًا قد أنهك الولايات المتحدة الأمريكية في كل شيء، فالخزينة الأمريكية هي التي تنفق على المؤسسات الدولية، والجيش الأمريكي هو الذي ينجز الحروب الدولية من أجل مكاسب لا تذهب كلها للشعب الأمريكي كما يحاول حكام البيت الأبيض إيهام شعبهم، فضلًا عن أن انحيازات أمريكا في القضايا الوطنية نابعة من مصالح قادة النظام العالمي من شركات وشبكات اقتصادية كبري وليست نابعة من مصالح الشعب الأمريكي.

وكذلك، فالعولمة التي تنسب إلى أمريكا أصبحت مضرة لأمريكا، بل أصبحت أمريكا هي ضحيتها الأولى بنظر ترامب، على ضوء أن العولمة لا تعزز الصناعة الوطنية بل أدت إلى صعود الصناعة الصينية على حساب الأمريكية، فأصبحت أغلب الشركات التي نشأت في أمريكا قد وجدت في الصين ضرائب بسيطة وأيدٍ عاملة متوفرة، ما أدى إلى غزو البضائع الصينية لأمريكا والعالم، بل وبدأت الصين تسيطر على العولمة الأمريكية وتؤسس عولمة صينية بديلة في صمت.

ورأى ترامب أيضًا أن سياسات الغرب فيما يتعلق بالربيع العربي كاملة كانت خطأ كبيرًا، سواء إسقاط أنظمة حليفة أو مستقرة في الشرق الأوسط، أو السماح بقيام تنظيم داعش وتمدد الإرهاب داخل وخارج الشرق الأوسط، وصولًا إلى جحافل اللاجئين الذين اجتاحوا القارة الأمريكية والأوروبية من دول الربيع العربي ومن قبلهم دول الحرب على الإرهاب، حيث رأى ترامب أن المهاجرين واللاجئين يحصلون على معونات ومعاشات على حساب المواطن الأمريكي والأوروبي، بالإضافة إلى التلاعب بالتركيبة الثقافية والدينية والديموجرافية للسكان، وأخيرًا دخول الإرهابيين إلى الغرب تحت ادعاء انهم مهاجرين من دول بها حروب أهلية وعنف.

وبعبارات صريحة رأى ترامب أن أمريكا عليها فك الارتباط ما بين الإسلام السياسي واليسار المتطرف من جهة وأجندة أمريكا العالمية من جهة أخرى، وأن الأنظمة الوطنية الحليفة هي البديل الحقيقي لهذا التحالف بدلًا من دعم الإرهاب اليساري والتطرف الديني.

ورأى ترامب أن الاتحاد الأوروبي أداة من أدوات العولمة للسيطرة على الدول الأوروبية وفرض سياسات اقتصادية غير وطنية، وان الوحدة الأوروبية ايدولوجيا أخذت فرصتها وأثبتت فشلها.

خريف العولمة الأمريكية

ولقد مثل صعود ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية نوفمبر 2016 ذروة صعود التيار القومي بوجه التيار النيوليبرالي أو القوى التقليدية في الغرب الموالية والمؤيدة للعولمة والرأسمالية الدولية وشبكات المصالح والشركات التي تدير النظام العالمي. والتيار النيوليبرالي هو تحالف فضفاض من القوي التقليدية يضم اليمين المحافظ والوسط الليبرالي واليسار بكل أفرعه، إضافة إلى الخضر والقوى الدينية حول العالم سواء الإسلام السياسي أو اليهودية السياسية أو المسيحية السياسية.

وإذا كان التيار الوطني القومي عالميًا قد صعد مع تولي فلاديمير بوتين الرئاسة في روسيا في 31 ديسمبر 1999، ولكن ثورة 30 يونيو 2013 المصرية كانت نقطة إلهام لصعود فكر الدولة الوطنية القومية، إضافة إلى الثورات الغربية حيال الأزمة الاقتصادية (2008-2013) ما شكل روافد فكرية لصعود التيار القومي عالميًا، سواء اليمين القومي أو اليسار القومي، وإن كانت الغلبة لليمين القومي. 

وصعد القوميون الوطنيون للحكم تباعًا في النمسا وإيطاليا والتشيك والمجر وبولندا، إضافة إلى صعود تيار بريكست في بريطانيا، ثم صعود جناح بوريس جونسون القومي بوجه جناح ديفيد كاميرون المنتمي إلى التيار التاتشري، إضافة إلى انحياز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى القيم القومية الفرنسية على حساب القيم النيوليبرالية، وصعود اليسار القومي في اليونان، وأخيرًا قيادة ترامب للتيار القومي داخل الحزب الجمهوري لهزيمة التيار المحافظ أو المحافظين الجدد، وفوز الجمهوريين بانتخابات الرئاسة ومجلسي النواب والشيوخ وحكام الولايات والمحكمة الدستورية العليا في انتخابات نوفمبر 2016 بشكل ساحق. شكلت تلك الحقبة خريفًا باردًا للعولمة الأمريكية أمام “ربيع القوميات” و”ربيع الدولة الوطنية” والتيار الوطني القومي حول العالم.

إرث ترامب

وجد ترامب أن الولايات المتحدة تحرس منابع النفط والغاز في الشرق الأوسط، ليس من أجل مصالحها ولكن من أجل مصانع العولمة في اليابان والصين وكوريا الجنوبية، بينما لا تستفيد الولايات المتحدة من نفط الخليج العربي بنفس استفادة طوكيو وبكين من نفس الإقليم، لذا يجب على الولايات المتحدة أن تتوقف عن الإنفاق على حماية الخليج العربي، وأن تقوم بكين وطوكيو برعاية الملاحة البحرية في مياه الخليج العربي.

وبالفعل سحب ترامب انتشار بلاده عسكريًا في مياه الخليج العربي ومضيق هرمز إلى أضيق الحدود، وتفاوض مع دول الخليج العربي لدفع نفقات القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج العربي وإلا سوف تقوم أمريكا بسحب تلك القواعد، وكانت قطر من أوائل دول الخليج العربي التي تشارك في نفقات القاعدة الأمريكية، سواء بإمدادات المياه والغاز والنفط وباقي المساعدات العسكرية واللوجستية.

ومع فك ارتباط السياسة الأمريكية بالجماعات الإسلامية، رأى ترامب أن الوفاق النووي بين إيران والغرب يؤدي إلى مزيد من الإرهاب في الشرق الأوسط والعالم، فقام بالانسحاب من الاتفاق النووي وإعادة تكبيل إيران بالعقوبات الأمريكية بعد أن ألغى أوباما تلك العقوبات.

وأيد ترامب الثورات الشعبية في الجزائر والسودان والعراق ولبنان بوجه النفوذ الإيراني عام 2019 فيما يطلق عليه “الربيع العربي المصغر”، وشهد السودان للمرة الأولى تغييرًا سياسيًا أسقط نظام عمر البشير الذي طالما تأرجح ما بين دفتي الإسلام السياسي السني عبر التوجه إلى السعودية والإسلام السياسي الشيعي عبر التوجه إلى إيران.

وأرسل ترامب الجيش الأمريكي إلى شرق وشمال سوريا للقضاء على تنظيم داعش وبعض التنظيمات الإسلامية ما أدى إلى سيطرة الجيش الأمريكي على تلك المناطق، ثم طرد تركيا من شمال سوريا إلى محافظة إدلب وبعض الجيوب الصغيرة، وبدا واضحًا أن هنالك اتفاقًا غير معلن على إعادة سيناريو تقسيم ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، حيث أصبحت سوريا الشرقية من نصيب الولايات المتحدة وسوريا الغربية من نصيب روسيا، ما أنهى عمليًا الحرب العالمية المصغرة التي اندلعت في سوريا.

الوفاق غير المعلن مع روسيا استمر في عدم دعم الثورات الملونة في دول الجوار الروسي والجمهوريات السوفيتية السابقة حتى صيف 2020 حينما تفرغ ترامب لإخماد التمرد الداخلي على وقع الانتخابات، وقتذاك استطاعت العولمة تدبير اضطرابات بيلاروسيا بوجه بوتين.

واستمر ترامب في سياسة دعم الحلفاء التاريخيين لأمريكا ورفض الإسلام السياسي، عبر دعم تحالف دعم الشرعية في اليمن ضد تنظيم الحوثي الموالي لإيران، ودعم الرباعي العربي لتكبيل قطر العاصمة العربية للتنظيم الدولي للإخوان، والعمل على حصر الدور التركي من أجل إنهاء الصراع العربي التركي.

هذا إلى جانب دعم الأنظمة الوطنية في مصر والسعودية والإمارات والبحرين والأردن والمغرب، ووقف أدوات التآمر والإرهاب عليها النابعة من الدوائر الأمريكية، ودعم جهود مصر لتهدئة الموقف في ليبيا وفرملة التمدد التركي ودعم جهود مصر لتهدئة الموقف في العراق وفرملة التمدد الإيراني، ودعم جهود مصر لترتيب القارة الأفريقية من أجل الاستقرار والاستثمار العالمي، ودعم جهود مصر في تحويل غاز المتوسط إلى مصدر الطاقة لأوروبا وأمريكا بدلًا من غاز روسيا العابر إلى الغرب عبر تركيا.

وتوقف ترامب عن محاولات إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد ومشاريع أنبوب الغاز القطري أو الإيراني من مياه الخليج العربي إلى المتوسط عبر الأراضي السورية، وإعادة المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر كاملة.

وانسحب ترامب من منظمة الصحة العالمية ومنظمة التجارة العالمية واتفاقية باريس للمناخ، ورأى أن الصراع بين الكوريتين قد انتهى بسقوط النظام السوفيتي، وأن كوريا الشمالية مخلب قط صيني وبالتالي حال الاتفاق مع كوريا الشمالية فإن ذلك ينهي الصراع الكوري ويجرد بكين من ورقة كوريا الشمالية وينهي أيضًا مبررات الوجود العسكري الأمريكي باهظ التكاليف في كوريا الجنوبية.

 وهكذا وفى خطوات كانت تستحق نوبل للسلام تقابل ترامب مرارًا مع زعيم كوريا الشمالية كيم يونج أون، وزار ترامب كوريا الشمالية بضعة دقائق عبر حدودها مع كوريا الجنوبية، وأنهى التوتر التاريخي بين كوريا الشمالية وأمريكا المعلن منذ خمسينات القرن العشرين.

لم يجد ترامب أي فائدة من الحرب الباردة الأمريكية الروسية على ضوء استعداد بوتين لتقاسم النفوذ على غرار مؤتمر يالطا عقب الحرب العالمية الثانية، وهو ما جرى بنجاح في “سوريا ما بعد الربيع العربي”، وفى المقابل وجد ترامب أن الصين هي الأولى بهذا الصراع السياسي والاقتصادي البارد.

ونظرًا لصعوبة إصدار قرارات رئاسية بحظر توريد البضائع الصينية إلى الأراضي الأمريكي لجأ ترامب إلى حيل قانونية عديدة مثل رفع جمارك دخول السلع الصينية إلى أعلى مستوى في تاريخ التبادل التجاري بين البلدين، وخفض الاعتماد على النفط الأجنبي، والعمل على اكتشاف النفط والغاز داخل الأراضي الأمريكية، وإنهاء التعاقد مع عشرات الشركات الصينية فيما يتعلق بالأنشطة والمؤسسات الحكومية طالما يعطى الدستور هذا الحق للرئيس والحكومة الفيدرالية، وأخيرًا خفض الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء من أجل توظيف أموالهم الذاهبة للضرائب في صناعات بديلة عن البضائع الصينية التي سوف تختفى من الأسواق الأمريكية ما أدى إلى رواج غير مسبوق في تاريخ أمريكا فيما يتعلق بنسب التوظيف والاحتياج للعمالة وانخفاض تاريخي لنسب البطالة.

وواصل ترامب دعمه للصناعية الوطنية مقابل العولمة والبضائع الصينية بالعمل على جلب استثمارات أجنبية للشركات الأمريكية، وتقديم عروض حكومية مميزة للشركات الأمريكية العاملة خارج الأراضي الأمريكية من أجل إعادة مقراتها واستثماراتها للسوق الأمريكي وتوظيف الأمريكيين والإنتاج للأمريكيين اولًا قبل التفكير في التسويق الخارجي والتصدير.

وقرر ترامب سحب الجيش الأمريكي من العراق وأفغانستان والصومال، والإقرار بالأمر الواقع ألا وهو انتصار تنظيم طالبان ما يستدعي دمجه في الحياة السياسية الأفغانية في اتفاق سلام ترعاه أمريكا قبل الانسحاب.

سياسة الأمر الواقع كانت رؤية ترامب دائمًا، أي الإقرار بالفائز والخاسر بشجاعة في النزاعات الدولية دون الذهاب إلى قواميس الإمبريالية الأمريكية والصوابية السياسية ومشروع القرن الأمريكي وأفكار المحافظين الجدد، وعلى ضوء حقيقة احتلال إسرائيل لمدينة القدس والضفة الغربية والجولان السوري، قرر ترامب الاعتراف بالأمر الواقع وصك الاعتراف الأمريكي بهذه السيادة ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ما يعني اعتراف واشنطن بالقدس عاصفة لإسرائيل.

وعلى ضوء احتياج السودان لرفع العقوبات الدولية والمساعدات الاقتصادية الأمريكية طلب ترامب تطبيع العلاقات بين الخرطوم وتل أبيب. وعلى ضوء احتياج المغرب لاعتراف أمريكي بالسيادة المغربية على الصحراء المغربية وإنهاء الخلاف المغربي الجزائري طلب ترامب من الرباط تطبيع العلاقات مجددًا مع تل أبيب. وعلى ضوء احتياج الخليج العربي إلى مساعدة أمريكا في التصدي للمشروع الاستعماري الإيراني طلب ترامب من الإمارات والبحرين تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

وكانت رؤية ترامب من مبادرته حيال القضية الفلسطينية أوائل عام 2020 ثم توقيعات ما سمى بالاتفاقيات الابراهيمية للسلام بين دول عربية وإسرائيل هو انهاء الصراع العربي الإسرائيلي من أجل التفرغ لإنهاء الصراع العربي الإيراني، إلى جانب تجميد الصراع العربي التركي وتصفيته لاحقًا في الولاية الثانية لترامب وهو ما لم يحدث وتنفست قطر وتركيا وإيران الصعداء.

وواصل ترامب تطويق الصين عبر بدء مفاوضات مع طالبان الأفغانية لتقليم نفوذ الصين في أفغانستان، ودعم ترامب الثورة الليبرالية في هونج كونج، وفى تحرك نادر ووحيد حيال الإسلام السياسي قبل ترامب بدعم قضايا الإيجور المسلمين غرب الصين رغم الأعمال الإرهابية التي تقوم بها بعض التنظيمات الإيجورية المسلحة سواء غرب الصين أو في سوريا تحت رعاية الجيش التركي. ودعم جهود الهند للتحول إلى دولة سياسية وصناعية كبري في وجه الصين وزار الهند في مراسم تاريخية.

ورأى ترامب أن أمريكا تنفق من الرجال والمال والعتاد عبر حلف الناتو من أجل الدفاع عن أوروبا، بينما تمتلك الأمم الأوروبية المال الكافي لتمويل الناتو أو تمويل جيوشها الوطنية، وهدد بالانسحاب من الناتو ما لم يتقاسم كافة أعضاء الحلف العسكري تكاليف هذا التحالف العسكري الضخم.

ودعم ترامب مجهودات رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي مقابل أن تقوم أمريكا باتفاق تجاري ضخم مع بريطانيا يعوضها عن خسائر الاقتصاد جراء الخروج من الاتحاد الأوروبي.

ولم يكتف ترامب بتقييد حركة الهجرة إلى أمريكا بل كلف الجيش الأمريكي ببناء حائط على الحدود مع المكسيك لحماية الولايات الجنوبية من الهجرة التي ترعاها دوائر العولمة من أمريكي الوسطى والجنوبية إلى ولايات الجنوب الأمريكي.

ورغم أن الإعلام الدولي صدح بخطاب ضد عنصرية ترامب، إلا أن الأخير لم يختر أفراد حكومته بناء على دين أو عرق، ويكفي أن نرى ولاية فلوريدا ذات الأغلبية اللاتينية الكاثوليكية وقد صوتت له في نوفمبر 2016 ونوفمبر 2020. وصوتت له عام 2016 ولاية جورجيا ذات الأغلبية المنتمية للعرق الأسود من أصول افريقية، ومن النادر أن يذكر الإعلام الأمريكي أن رينس بريبوس كبير موظفي البيت الأبيض في سنوات ترامب ينتمي إلى الأقلية الأرثوذكسية الأمريكية، أو أن نيكي هيلي مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة هي أول مواطن أمريكي من أصول هندية يتولى منصبًا في الحكومة الأمريكية، وهى أول امرأة تتولى منصب حاكم ولاية ساوث كارولينا، وثاني مواطن من أصول هندية يتولى منصب حاكم ولاية أمريكية، وأول امرأة من أصول هندية تتولي منصب حاكم ولاية في تاريخ أمريكا، كما أن مستشارة ترامب السيدة كيليان كونواي هي اول امرأة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية تقود حملة انتخابية ناجحة حيث كان قادة الحملات الانتخابية لكل رؤساء أمريكا قبل ترامب من جنس الرجال.

وقد أدى صعود ترامب إلى رواج ثقافة “أمريكا اولًا” و”أمريكا العظيمة” و”القومية الأمريكية” وثقافة عامة لإحياء الحركات الوطنية الأمريكية.

صحوة النيوليبرالية الأمريكية

كان منطقيًا على ضوء ربيع التيار القومي الذي راح يتسلم السلطة في الغرب دولة تلو آخري منذ يناير 2015 في أثينا، أن تقوم شبكات المصالح الغربية عبر دوائر العولمة النيوليبرالية الرأسمالية ببناء جبهة مضادة لهذا التيار القومي وتعيد هيكلة النيوليبرالية العالمية.

وفيما يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية فإن بناء الجبهة المضادة تمثل إقليميًا في دعم الحكومة الليبرالية في كندا برئاسة جاستين ترودو، وإيصال اليساري الموالي للعولمة أندريس مانويل لوبيس أوبرادور إلى رئاسة المكسيك، أما في داخل أمريكا فإن الاستراتيجية الثابتة للعولمة هي التعامل مع الأقليات من أجل جمعها في تحالف واحد حتى يصبح الأكثر تصويتًا أمام الأغلبية.

فإذا كان ترامب من الحزب الجمهوري، تم التواصل مع الحزب الديموقراطي وتحديدًا جناح باراك أوباما وجون كيري وهيلاري كلينتون، وإذا كان هنالك جمهوريون غير راضين عن ترامب، تم التواصل مع السيناتور ماركو روبيو وآل بوش وجناح جون ماكين، وإذا كان أغلب أعضاء إدارة ترامب من شعوب أوروبا الغربية خاصة ألمانيا وإنجلترا، تم التواصل مع ساسة الحزب الديمقراطي من أصول أوروبا الشرقية مثل المجر وأيرلندا.

وإذا كانت الإنجيلية السياسية تسيطر على حكومة ترامب، تم التواصل مع الإسلام السياسي واليهودية السياسية والكاثوليكية السياسية، وإذا كانت حكومة ترامب تنتمي إلى اليمين القومي، تم التواصل مع الجناح الليبرالي واليساري في الحزب الديمقراطي.

وإذا كانت حكومة ترامب بها بعض رجالات المحافظين الجدد الذين قبلوا العمل مع التيار القومي، تم التواصل مع النسويات والمثليين والعابرين جنسيًا، وإذا كان الإعلام قد سوق ناخبي ترامب بوصفهم السكان ذوي البشرة البيضاء البروتستانت من أصول أوروبية، تواصلت شبكات المصالح الغربية مع الساسة والنشطاء من أصول أفريقية ولاتينية وآسيوية خاصة الهند والأمريكيين السود، وصولًا إلى القبائل الأصلية أو السكان الأصليين لأمريكا.

وبينما يتم اتهام ترامب بزرع العنصرية والطائفية في المجتمع الأمريكي، ففي واقع الأمر أن المعارضة الأمريكية المدعومة دوليًا هي التي عارضت ترامب بشكل طائفي وعنصري وعرقي وثقافي بحت، فلا يوجد معارضة وطنية بل معارض نسوي أو افريقي أو آسيوي أو مسلم أو مثلي أو يهودي أو كاثوليكي، أو من أوروبا الشرقية أو الهند أو أفريقيا على وجه التحديد!

وبينما كان ترامب يقدم وزراءه بوصفه أفضل مسؤول في تاريخ أمريكا، كان الرئيس جو بايدن يقدم وزراءه بوصفه هذا هو أول اسود وزيرًا للدفاع، وذاك أول مثلي وزير للنقل، وتلك أول وزيرة للخزانة.. إلخ

إن نظرة واحدة على الخارطة العرقية والدينية لإدارة جو بايدن توضح بجلاء التحالف الضخم الذي شيدته العولمة من الأقليات العرقية والدينية والثقافية بشكل طائفي وعنصري بحت من أجل إسقاط الحركة الوطنية والقومية الأمريكية التي صنعها ترامب:

1 – جو بايدن: الرئيس الـ46 للولايات المتحدة، ثاني رئيس كاثوليكي في تاريخ أمريكا بعد جون كينيدي، أصول العائلة: أيرلندا، ابنته آشلي بايدن ناشطة في الحزب ومتزوجة من رجل الأعمال اليهودي الناشط في الحزب هوارد كيرين، والأخير عمل مستشارًا لحملة بايدن الرئاسية، وقد صرح بايدن يوم زواج ابنته الكاثوليكية بالناشط اليهودي أنه “الأب الكاثوليكي الذي تحقق حلمه بزواج ابنته من يهودي”، واصفًا نفسه بأنه رجل صهيوني، وهو أجرأ تصريح من نوعه فيما يتعلق بتاريخ رؤساء أمريكا بالحركة الصهيونية العالمية المؤسسة لدولة إسرائيل. هانتر الابن الأكبر لبايدن ايضًا ناشط في الحزب الديمقراطي، وكذا ابنه الراحل جوزيف بايدن، أما الأم الدكتورة جيل بايدن (جيل تريسي يعقوب) فالأصول ترجع إلى والد من إيطاليا وأم من اسكتلندا، والعائلة كاثوليكية.

2 – كامالا هاريس: نائبة الرئيس، الأم من الهند والوالد من أسرة افريقية مهاجرة من جاميكا الواقعة جنوب كوبا على سواحل القارة الأمريكية، عاشت هاريس طيلة حياتها بوصفها ناشطة من أصول هندية قبل أن تقرر استثمار الأصول الافريقية للوالد لتصبح أول سيدة تتولى منصب نائب الرئيس، وأول مواطن من أصول افريقية وأول مواطن من أصول آسيوية يتولى هذا المنصب، متزوجة من رجل الاعمال اليهودي بالحزب دوج إمهوف.

3 – أنطوني بلينكن وزير الخارجية: من أسرة يهودية هاجرت من المجر، والده دونالد بلينكن عمل سفيرًا لأمريكا في المجر ما بين عامي 1994 و1997 في سنوات بيل كلينتون. عمل أنطوني بلينكن نائبًا لمستشار الأمن القومي ونائبًا لوزير الخارجية ومستشارًا لنائب الرئيس في سنوات أوباما، متزوج من إيفان راين التي تشغل منصب “سكرتير عام البيت الأبيض” وهي كاثوليكية من عائلة قادمة من أيرلندا، وشغلت منصب مساعد وزير الخارجية في سنوات أوباما.

4 – جانيت يلين: أول سيدة تتولي منصب وزارة الخزانة، تنتمي إلى اسرة من بولندا، يهودية الديانة، متزوجة من عالم الاقتصاد جورج أكرلوف الحائز على جائزة نوبل عام 2001، وهو يهودي ينتمي إلى أسرة مهاجرة من ألمانيا.

5 – ميريك جارلاند وزير العدل، يهودي من أسرة هاجرت من روسيا القيصرية.

6 – ديبرا هالاند وزيرة الداخلية، كاثوليكية.. أول مواطن من السكان الأصليين يتولى منصبًا في الحكومة، الوالدة تنتمي إلى القبائل الأمريكية ولكن الوالد من أصول نرويجية، خدم والد ووالدة الوزيرة في الجيش الأمريكي لسنوات.

7 – توم فيلساك وزير الزراعة، كاثوليكي احتل المنصب ذاته طيلة حكم أوباما.

8 – جينا رايموندو وزيرة التجارة، كاثوليكية من أسرة تنتمي إلى إيطاليا.

9 – لويد اوستن: أول وزير دفاع أسود من أصول افريقية، كاثوليكي، شارك في قيادة الجيش الأمريكي خلال غزو العراق وأفغانستان، وكان على رأس القوات الأمريكية التي دخلت العاصمة العراقية بغداد في 9 ابريل 2003.

10 – اكسافير بيسيرا: وزير الصحة، كاثوليكي من عائلة لاتينية هاجرت من المكسيك.

11 – ميجيل كاردونا وزير التعليم، كاثوليكي من عائلة لاتينية هاجرت من بورتوريكو.

12 – افريل هاينز مديرة المخابرات الوطنية، يهودية شغلت من قبل منصب نائب مدير المخابرات المركزية ونائب مستشار الأمن القومي في سنوات أوباما.

13 – مارتن والش وزير العمل، كاثوليكي من أسرة أيرلندية.

14 – بيت بودجيج وزير النقل، أول وزير مثلي في تاريخ أمريكا، هو وشريكه من عائلات كاثوليكية.

15 – جينفر جرانهولم وزيرة الطاقة، من أسرة إيرلندية، أول امرأة تتولى حكم ولاية ميتشجان ما بين عامي 2003 و2011، من أهم المعلقين العاملين في قناة CNN

16 – دينيس ماكدونو وزير شؤون المحاربين القدامى، من عائلة كاثوليكية أيرلندية وشغل منصب كبير موظفي البيت الأبيض في سنوات أوباما.

17 – رون كلاين كبير موظفي البيت الأبيض، عمل في منصب كبير موظفي نائب الرئيس في سنوات النائب جو بايدن والنائب آل جور، يهودي الديانة.

18 – نيرة تاتدن مديرة مكتب الإدارة والميزانية التابع للبيت الأبيض، عملت في الحملة الانتخابية الناجحة لبيل كلينتون وباراك أوباما، من أصول هندية.

19 – ليندا توماس جرينفيلد مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون أفريقيا في إدارة أوباما وسفيرة أمريكا إلى ليبيريا في زمن بوش الابن، من أصول افريقية.

20 – كاثرين تاى الممثل التجاري لأمريكا، من أصول صينية تايوانية مشتركة.

21 – إيزابيل جوزمان مدير إدارة الصناعات الصغيرة، يهودية من أصول مكسيكية وصينية وألمانية مشتركة، تحتسب على العرق اللاتيني.

22 – سيسيليا روس مديرة مجلس المستشارين الاقتصاديين بالبيت الأبيض، من أصول افريقية.

23 – ديفيد كوهين مدير المخابرات المركزية الأمريكية بالوكالة ونائب المدير، يهودي الديانة.

24 – فيكتوريا نولاند نائبة وزير الخارجية الأمريكي، يهودية الديانة من عائلة هاجرت من روسيا القيصرية.

25 – راشيل ليفين مساعدة وزير الصحة، أول مسؤول في الحكومة الأمريكية متحول جنسيًا “ترانسجندر” من ذكر إلى أنثى، يهودية.

26 – كاثلين هيكس، أول امرأة تتولى منصب نائب وزير الدفاع في تاريخ أمريكا، مؤرخة وباحثة وخبيرة في العلوم السياسية.

27 – جيك سوليفان: مستشار الأمن القومي، عمل بإدارة أوباما.

28 – ويليام بيرنز مدير المخابرات المركزية الأمريكية، مؤرخ ودبلوماسي عمل في إدارات كلينتون وبوش الابن وأوباما.

29 – سوزان رايس، مديرة مجلس السياسات الداخلية، عملت في إدارة كلينتون واوباما، من أصول أفريقية تنتمي إلى جامايكا.

30 – سامانثا باور مديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID.. شغلت منصب مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة في سنوات أوباما، من أصول أيرلندية.

31 – بريت ماكجورك منسق شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، صديق الأكراد وعدو الأتراك في إدارة أوباما.

32 – ويندي شيرمان نائبة وزير الخارجية، يهودية، من مهندسي الاتفاق النووي الأمريكي الإيراني عام 2015.

33 – يوهانيس أبراهام مستشار الرئيس، إثيوبي الأصل.

34 – منا ديميسي مستشارة الرئيس، إثيوبية الأصل.

35 – روب مالي المبعوث الأمريكي لإيران، والده صحفي مصري، كان مستشارًا غير رسمي لحملة أوباما في عام 2008 لكنه استقال بعد أن تكشف أنه التقى ممثلين لحركة حماس الفلسطينية أثناء عمله رئيسًا لتنظيم مجموعة الأزمات الدولية الذي يستخدمه الملياردير جورج سورس لتنفيذ أجندة العولمة. عمل مالي مستشارًا لكلينتون واوباما وكان من مهندسي الاتفاق النووي بين أمريكا وإيران عام 2015.

36 – عائشة شاه، مديرة الشراكة في مكتب البيت الأبيض للاستراتيجية الرقمية، من أصول هندية.

37 – سميرة فاضلي، نائبة مدير المجلس الاقتصادي القومي الأميركي، من أصول هندية.

ويتضح من الخارطة العرق-دينية للحكومة الأمريكية أننا أمام تكتل كاثوليكي يهودي، عابر للقوميات الهندية والأيرلندية والأفريقية واللاتينية والقبائل الأمريكية، مدعوم أيدولوجيًا من الوسط الليبرالي واليسار التقدمي الأمريكي إلى جانب الإسلام السياسي داخل الحزب الديموقراطي.

قرارات بايدن.. اجتثاث الترامبية

إن قرارات بايدن في أسبوعه الأول تحمل محوًا صريحًا لفلسفة ترامب الأمريكية من خلال إنهاء التوتر مع الصين وإيران وبدء التوتر مع روسيا والهند والسعودية والإمارات وكوريا الشمالية، والعمل على إلغاء معاهدة السلام مع طالبان الأفغانية واستئناف إرسال الجنود إلى الحروب اللانهائية في العراق وأفغانستان والصومال.

وأصدر بايدن كذلك قرارًا بتجميد تراخيص التنقيب عن المحروقات سواء النفط والغاز داخل الأراضي والمياه الأمريكية إلى جانب تعليق العمل بالمرحلة الثالثة من خط أنابيب كيستون Keystone Pipeline الذي ينقل النفط من كندا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ما أدى إلى خسارة 52 ألف عامل أمريكي لوظيفتهم بجرة قلم، وهكذا أصبحت الولايات المتحدة بحاجة إلى نفط الشرق الأوسط مرة أخرى، وبالتالي عليها أن تذهب لحراسة منابع الطاقة في الشرق الأوسط من أجل استمرار عمل مصانع العولمة في الصين واليابان وكوريا الجنوبية.

وأعاد بايدن بلاده إلى كافة المنظمات الدولية التي تقوم أمريكا بالإنفاق عليها خدمة لشبكات المصالح الغربية، وعلى رأسها اتفاقية باريس للمناخ، والتي تكبل الصناعة الأمريكية وتجعل السوق الأمريكية سوقًا مستهلكة لبضائع العولمة القادمة من الهند والصين.

انتهى ربيع القومية الأمريكية أو خريف العولمة الأمريكية بعد أربع سنوات من وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض، وبدأت الصحوة النيوليبرالية الأمريكية وعودة النظام العالمي للهيمنة على الولايات المتحدة واستخدامها لإدارة العالم.

+ posts

باحث سياسي

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى