إسرائيل

“البجعة السوداء” في نظرية الأمن الإسرائيلي 2030

رغم ظهوره في القرن الثامن عشر إلا أن نظرية “البجعة السوداء” هي العقيدة التي تتحكم في صياغة نظرية الأمن القومي الإسرائيلي؛ الدولة التي ظهرت على الساحة الدولية في أواخر النصف الأول من القرن الماضي. إذ يبنى هذا التوجه على صعوبة التنبؤ بالأحداث المفاجئة، وارتكزت على الفكرة السائدة حينذاك بأن البجع كله أبيض أما وجود البجع الأسود فهو نادر ومفاجئ وكان ذلك قبل اكتشاف “البجع الأسود” في أستراليا الغربية الذي كان حدثًا غير متوقع ومفاجئ.

وهو ما يجعل البناء والتوقع الأمني للأحداث وتطوراتها يخضع لفترات زمنية ليست طويلة ولا تزيد عن 12 عامًا؛ وكانت حجر الزاوية في تحديث النظرية عام 2018 وصولا لرؤية 2030. فهل ما شهدناه خلال الشهور والأسابيع الماضية من تطورات في المنطقة، وتوقيع اتفاقيات سلام وتطبيع مع إسرائيل كان ضمن تلك الرؤية؟ وما مصير القضية الفلسطينية؟ وما تأثير فوز ترمب أو بايدن على فاعلية تلك النظرية؟

يرى المُخطط الإسرائيلي أنه بحلول عام 2030، سيتعين على قيادات الأمن القومي في إسرائيل استيعاب حقيقة أن جميع الاحتمالات التي تم وضعها كانت امتدادًا مباشرًا للتطورات التي حدثت أمس وتحدث اليوم. وفي الغد القريب حتى ولو ظهرت “البجعة السوداء” بشكل استثنائي.

إيران النووية

تعد صياغة السيناريوهات المستقبلية إحدى مهام قسم التحكم داخل استخبارات الجيش الإسرائيلي، والذي يعمل بشكل مستقل عن قسم التحليل الذي يعمل على استنتاج تنبؤات متوسطة الأجل في الشرق الأوسط مع نسبة مخاطر محدودة يسهل التعامل معها بحيث لا تتجاوز تلك الرؤية مدى زمني 12 عامًا كحد أقصى (2028-2030)، على سبيل المثال التعامل مع الخطر الإيراني واحتمالات وجود “إيران النووية”، حيث تم وضع سيناريو عن كيفية تعامل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية مع التطورات في إيران حتى عام 2030؛ ففى حال لم تحصل فيها إيران على قدرة نووية وافتراض أن نظامًا مشابهًا للنظام الحالي لا يزال مسيطرًا، فمن المحتمل أن يكون التعامل مع إيران في عام 2030 على غرار التعامل مع إيران اليوم.

لكن مهمة التعامل مع إيران ستكون مختلفة جذريًا إذا افترضنا أن إيران تمتلك قدرة نووية. في هذه الحالة سيتغير ميزان القوى بين إسرائيل وإيران، ومن الممكن أن تجرؤ إيران تحت مظلة نووية على نشر فرق برية، بما في ذلك عناصر مدرعة، في العراق وسوريا. الآثار الدبلوماسية والعسكرية لمثل هذا الوضع بعيدة المدى، على سبيل المثال، أبدت إيران ضبط النفس أثناء تحملها للهجمات الإسرائيلية ضد قواتها في سوريا. وهنا يبرز تحد واضح هل ستبقى إيران النووية صبورة بنفس القدر، أم أنها ستستغل قدراتها النووية لغزو سوريا بقوات برية كبيرة وتهديد إسرائيل بنشر فرق مدرعة على طول الحدود؟

في السيناريو الأول، يحتم هذا التصور على إسرائيل تعزيز قوتها الجوية في المقام الأول، بينما في السيناريو الثاني، سيُطلب من الجيش الإسرائيلي التعامل مع تهديد جديد ومهم لأراضي الدولة، وستتغير الأهمية المعطاة لقدرات الحرب المدرعة الإسرائيلية. في مثال آخر، إذا استولت جماعة الإخوان المسلمين على السلطة مرة أخرى في عدد من دول الجوار، فإن الوضع الجديد سيعيد إحياء النقاش بشأن نشر العناصر البرية للجيش الإسرائيلي وتعزيز القدرات الدفاعية لإسرائيل في النزاعات المسلحة بين الدول.

إن السيناريوهات مثل إيران النووية، واستيلاء الإخوان المسلمين مجددًا على السلطة في دول مجاورة أو حتى تفكك النظام الهاشمي في الأردن، ليست سيناريوهات احتمالية صفرية، في حين ينظر إلى أن الانتفاضة الثالثة والمقاومة الفلسطينية لا يهددان إسرائيل استراتيجيًا، كما أن التغييرات الجيوسياسية التي لا تسيطر عليها إسرائيل سيكون لها تأثير حاسم على قدرة إسرائيل على التعامل مع التهديدات.

يوم 26 أكتوبر 2020؛ كتب أفيخاي أدرعي المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي للجمهور العربي على صفحته الرسمية في تويتر: “أن القوات الجوية بدأت تدريب “السهم القاتل” الذي يحاكي حربًا متعددة الجبهات في تركيز على الجبهة الشمالية (لبنان وسوريا)، وذلك بهدف رفع الجهوزية وتحسين القدرات الهجومية للجيش الإسرائيلي على كافة المستويات، بشكل متكامل مع تبني طريقة عمل لتحقيق الإنتصار بآليات جديدة بين مقرات القيادة الرئيسية”. وذلك النوع من المناورات والأهداف التي تحدد لها هي ترجمة لكل بنود نظرية الأمن ومتطلباتها.

ما بين واشنطن وموسكو

بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فيتنبأ المخططون الإسرائيليون بإحتمال العودة إلى ملعب عالمي ثنائي القطب، فرغم أن استمرار الرئيس دونالد ترمب يرونه “جيد للدولة اليهودية” لكنه ليس جيدًا لمكانة الولايات المتحدة على صعيد انفرادها بقيادة العالم والمنطقة. ومع بقاء ترامب في البيت الأبيض لولاية ثانية، فإن الأفق الاستراتيجي لإدارته لن يمتد إلى ما بعد عام 2024. 

فقد اتسمت فترة ترمب الأولى وفقًا للرؤية الإسرائيلية باستعداء الحلفاء، وحذر دفاعي واضح من المواجهة مع روسيا في الوقت الذي دخلت العلاقات مع الناتو والاتحاد الأوروبي والصين في أجواء الأزمة، ولكن ظل الثابت والمستمر الإبقاء على التعهدات بالحفاظ على أمن إسرائيل وضمان تفوقها العسكري على كل جيرانها في المنطقة من خلال دعم نظرية الأمن الإسرائيلية المعتمدة والمبادرة بالدفع في اتجاه تهيئة المناخ الإقليمي لمزيد من الاندماج والقبول والتعاون بين دولة إسرائيل وجيرانها العرب، والقضاء او على أقصى تقدير تحييد كل العدائيات من قبل دول وجماعات المقاومة فيما يسمى محور الممانعة؛ إلا أن المؤكد أن إلغاء الاتفاقيات ونبذ التحالفات والحروب التجارية والسياسية غير الواضحة والمحمومة التي قادها ترامب ستؤدي إلى تفاقم التراجع في المكانة الأمريكية، ويشكل هذا عامل ضغط على كل أوجه الدعم للحليف الأكبر في منطقة الشرق الأوسط.

 وستكون المعاناة أكبر في حال خسارة ترامب وفوز المرشح الديمقراطي جو بايدن والذي سيجد صعوبة في إعادة الولايات المتحدة كقوة عظمى في الشرق الأوسط وأوروبا في ظل تنامي القوة والحضور الروسي والصيني؛ ففي روسيا فلاديمير بوتين موجود ليبقى ويستمر بصيغ مختلفة؛ ونجح في سياسته “روسيا أولاً” و شعار  “اجعل روسيا عظيمة مرة أخرى” الذي تأثر به ترامب انتخابيا، وإن كان ذلك بتكلفة اقتصادية كبيرة (عقوبات) إلا أن أغلبية الروس على استعداد لقبول الثمن الاقتصادى لتكتيكات بوتين مقابل شرف ومجد إعادة روسيا إلى مكانة القوة العظمى.

ولقد كان هذا الحضور الروسي في ملفات الإقليم والعالم سببًا دفع الإسرائيليين إلى رؤية أن روسيا أضحت عاملًا استراتيجيًا مهمًا لإسرائيل في مواجهة التهديد الإيراني والعمليات الجارية في سوريا وغيرها من ملفات الإقليم؛ ووجدت نفسها أمام خيار بأن إسرائيل عليها الاستمرار في تنفيذ سياسة بنيامين نتنياهو المتمثلة في تطوير العلاقات ومشاركة المصالح مع روسيا بالتوازي مع الحفاظ على العلاقات مع الولايات المتحدة.

يمكن لإسرائيل أن تدير هذه السياسة بسهولة شديدة طالما أن ترمب يشغل منصب الرئيس و”متأثر بشدة” بروسيا ولا غضاضة لديه في تنسيق إسرائيلي روسي محدود بينما قد يطمح رئيس آخر إلى تقييد التنسيق بين إسرائيل وروسيا.

الحسابات تجاه فلسطين؟

على النقيض مما يعتقد فيه البعض فإن إسرائيل لا تنشغل كلية بالسلطة الفلسطينية وتحديدًا مرحلة ما بعد أبو مازن، بل يعتقد قادتها الأمنيون أن ملف التسوية السياسية مع السلطة الفلسطينية ليس له أهمية فعلية حقيقية على الأرض. وتحكم تلك الرؤية نظرة ترى أن غالبية الفلسطينيين (1.5 مليون) يعيشون في قطاع غزة ويؤيدون حماس التي لن تقبل بدورها اتفاقًا على أساس مفاوضات تجريها السلطة الفلسطينية مع إسرائيل.

لقد أدركت إسرائيل بالفعل أن حماس تحكم قطاع غزة. وأن استمرار عملية التفاوض يعتمد على اللعب على كل التناقضات بين الأطراف الفلسطينية وبين رام الله وقطاع غزة؛ وإسرائيل وفقا لتلك الرؤية تعتقد أن تجنب أي مفاوضات قد تؤدي إلى دولة فلسطينية هو مصلحة وجودية للسلطة الفلسطينية المعنية بالهدوء والاستقرار وترى أن المفاوضات مع إسرائيل ستضر بها.

علاوة على ذلك، إذا أجريت مثل هذه المفاوضات، فإن نتيجتها المباشرة ستلحق ضررًا شديدًا بالسلطة الفلسطينية؛ لأن الوصول لدولة فلسطينية مستقلة يتطلب التنازل عن حق العودة والتوصل إلى حل يتجاوز الرؤية الفلسطينية لقضية القدس. وتعتقد إسرائيل أيضًا أن إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية فقط يهدد السلطة الفلسطينية أكثر من أي شيء آخر. 

بالإضافة إلى فقدان وضع اللاجئ لملايين الفلسطينيين ومواجهة مطلب تحمل المسؤولية عن الاقتصاد المتدهور، فإن وجود السلطة الفلسطينية يكتسب شرعيته من حرب قوات الاحتلال، التي بدورها “تحمى” السلطة الفلسطينية من حماس. ستكون تكلفة هذه الدولة وفقا لهذا التصور على السلطة أمر مستحيل، لأنها ستهدد في الواقع بإنهاء حكم فتح.

ولا ترى إسرائيل وفقا لتلك التركيبة والصراع الداخلي الفلسطيني أي مدى زمني لإنجاز قد يتحقق في ملف المفاوضات حتى في حال رحيل أبو مازن والذي ستعقبه معركة ضارية للسيطرة على الشارع الفلسطيني؛ حيث ستسعى تلك القيادة الجديدة لمحاولة اكتساب الشرعية بين الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية تحديدا مقابل منافسيه لن يخاطر بالشروع في مغامرة خطيرة مثل التفاوض مع إسرائيل.

في ظل هذه الخلفية، ووفقًا لتلك الحسابات الإسرائيلية فإن الحفاظ على الوضع الراهن واحتوائه هو مصلحة رئيسية للسلطة الفلسطينية وكذلك لإسرائيل وأي تغيير في المسار على المدى القصير والمتوسط قد يؤدي إلى إضعاف السلطة الفلسطينية ونشوب انتفاضة جديدة وإلى تقوية حماس، لذلك يجب على كل من إسرائيل والسلطة الفلسطينية تجنب المفاوضات الدبلوماسية بأي ثمن لصالح القضية الفلسطينية وكذلك لصالح القضية الإسرائيلية اتساقًا مع الحسابات الموضوعة.

ولمزيد من فهم العقلية الإسرائيلية التي تحتل وتحارب وتتفاوض في فلسطين المحتلة وتحديدًا في قطاع غزة، نجد أنها تنظر إلى حماس كمنظمة تريد أن تحكم وتتحكم في القطاع بأي ثمن، وأصبح هناك خبرات إسرائيلية متراكمة في التعامل وترويض قياداتها؛ وأن للطرفين مصلحة في استمرار هذا الوضع. حماس معنية بتغذية روح الضحية للشعب الفلسطيني مع الحفاظ على إسرائيل كعدو مكروه. 

لكن الحفاظ على الاستقرار في حد ذاته لا يعرض حماس للخطر، ستطمح إسرائيل وحماس إلى موازنة مستقرة لمصالح كل منهما. في نهاية المطاف، سيتوصل الطرفان إلى مثل هذه التسوية، بما في ذلك إطلاق سراح سجناء حماس وفرض قيود على استخدام القوة العسكرية بين الجانبين من خلال وسطاء وقنوات خاصة. ستستمر هذه التسوية، إلى حد كبير -كما في حالة السلطة الفلسطينية وحزب الله- طالما بقيت مصلحة حماس في الحفاظ على الوضع كما هى.

إن خطر ظهور “البجعة السوداء” وتغيير الوضع بشكل دراماتيكي إلى حالة تتوسل فيها إيران وحماس وحزب الله للتوصل إلى اتفاق سلام كامل مع إسرائيل، ليس بعيد المنال ولن يتحقق غدًا ولكنه في سبيله للتحقق إذا تغيرت المعادلة في المنطقة وسادت نماذج السلام والتطبيع بين إسرائيل وجيرانها العرب. ويقلل من فرص ظهور تلك البجعة وتحديد المخاطر بدقة أن على إسرائيل أن تستمر في حروبها الدبلوماسية والسياسية والإعلامية تطويرا للنظرية التي كانت تحكمها القوة العسكرية وقوة الردع فقط وممارسة الضغوط والتلويح بالمصالح والفوائد لبناء جسور من العلاقات.

عند تفكيك تلك الرؤية نجد أن الأمر لم يقتصر فقط على منظور “البجعة السوداء” وتجنب أي مخاطر غير محسوبة؛ بل هو ترجمة وتطبيق لرؤية المفكر الاستراتيجي كارل فون كلاوزفيتز في القرن التاسع عشر الذي قال إن النصر العسكري ليس هدفًا بحد ذاته في اقتباسه الشهير: “الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى” هو يؤكد أن الحرب ليست سوى وسيلة لتحقيق أهداف سياسية. ويضيف أن الغرض من الحرب المعاصرة هو تحسين القدرة على تحقيق أهداف سياسية من خلال اتفاقية موثوقة”. وعليه، بلد يتمنى الانتصار لا يجب أن يكون قادرًا على كسب معركة فحسب، ولكن أيضًا على الترويج لها في اتفاقية؛ لأن من غير المحتمل أن تحدث “الحرب الشاملة” في عالم القرن الحادي والعشرين.

 فمعظم الحروب أصبحت “محدودة” تميل إلى الانتهاء باتفاق وليس تدمير كامل؛ بينما في العصور القديمة كانت نتائج ميدان المعركة تشكل التغيير في الواقع والاتفاقيات المعاصرة واستعداد الأطراف للوفاء بها هي منها لتحديد التغيير في الواقع. لذلك، بلد هدفه تعزيز الأهداف السياسية من خلال استخدام القوة يجب أن يكون قادرًا على كسب معاركه، ولكن الأهم لتعزيز إنجازاته العسكرية عليه الوصول إلى اتفاقيات جيدة ومتينة.

تحالف ثم استبدال الأطراف

على مدار 70 عامًا شهدت العقيدة الأمنية تطورًا كبيرًا وكان أبرزه ما تبناه أول رئيس وزراء إسرائيلي؛ ديفيد بن جوريون “عقيدة تحالف الأطراف” التي تبنت فكرة التحالف مع إيران وتركيا وإثيوبيا ضد “العدائيات المحيطة في “القلب المجاور” لحدود دولة الاحتلال. وهي النظرة التي حكمت كل المؤسسات الإسرائيلية وحددت سياساتها الأمنية والعسكرية لعقود، وصولًا لرؤية 2030 الحالية التي تحدث عنها بنيامين نتنياهو في منتصف أغسطس 2018 والتي غالبا ما ستشهد تغييرًا في الأطراف واستبدالها بدول أخرى من داخل المنظومة العربية وما تبع ذلك من حديث عن خطة السلام الأمريكية، ثم توقيع اتفاقيات ثنائية مع العديد من الدول في الإقليم بعد الرفض الشعبي العنيف للخطة الأمريكية، والحديث عن مشروعات تعاون إقليمي غير مسبوقة تضع حدًا للصراعات والمواجهات المباشرة، وتنقل الصراع التاريخي إلى ميادين أخرى وبأدوات جديدة؛ ذلك دون تفريط في الأطراف القديمة التي على استعداد للتعاون والتنسيق مثل إثيوبيا وهو ما يضع أيدينا على أهم ملامح تلك النظرية الحاكمة والتطوير الذي طرأ عليها:

أولاً؛ العقيدة الجديدة هي في الأساس تغيير جذري لمفهوم الأمن الإسرائيلي، وتمثل فهمًا جديدًا للبيئة الدولية والإقليمية، وبشكل أساسي وجهة نظر الولايات المتحدة تجاه نظرية الأمن الإسرائيلي. وبناء عليه أقامت إسرائيل علاقات استخبارات عسكرية وثيقة مع بعض دول العالم، وخاصة تلك الموجودة بالقرب من خصمها اللدود جمهورية إيران في منطقة الخليج العربي وأوراسيا وشبه الجزيرة الهندية.

وتدرك تل أبيب أنها لم تعد بحاجة إلى عقيدة محيطية؛ وأن النجاحات الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية، والمساومة العربية على حقوق الفلسطينيين، ودعم الولايات المتحدة والقوى العالمية الأخرى للنظام، يشجع قادته على تجاهل قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. كل هذه التطورات تحفز على تحديث عقيدة الأمن القومي.

ثانيًا؛ العقيدة في جوهرها هي محاولة لتغيير تركيبة القدرة الإسرائيلية. نتنياهو في ترجمته لأهداف النظرية اتخذ منحى مختلفًا عن سابقيه، على سبيل المثال، يسعى إلى جذب الاستثمار الأجنبي وخاصة الخليجي في مجال الاتصالات ليصبح قوة إلكترونية إقليمية. 

في الواقع، إن مفهوم “الأمن 2030” الذي مازال قيد الفحص والتنفيذ على مدى العامين الماضيين، يعالج قضايا مثل التهديدات الإقليمية التي تعتقد تل أبيب أنها ستواجهها على الأرجح في العقد المقبل، وكجزء من العقيدة، يتحرك الإسرائيليون لتحسين الأمن السيبراني كأولوية بالتوازي مع دعم القدرات الدفاعية، ومدى الدفاع الصاروخي.

ثالثًا؛ تمثل العقيدة الجديدة تغييرًا جوهريًا في سياسة تل أبيب تجاه الفلسطينيين، إذ يغمض المفاوض الإسرائيلي أعينه عن حل الدولتين ومبدأ الأرض مقابل السلام. العقيدة الجديدة، في الواقع، هي تعزيز للعنصرية المنهجية الموجودة في قانون الدولة اليهودية الذي تم سنه حديثًا. لذلك يجب على الفلسطينيين أن يتوقعوا نظام فصل عنصري أكثر صرامة يتم فيه تجاهل حقهم في العودة إلى ديارهم تمامًا ويدعم هذا التوجه العمل على استمرار الانقسام الداخلي الفلسطيني.

رابعًا؛ ستشجع العقيدة الجديدة على مزيد من الاستثمار في أنظمة الدفاع الجوي متعددة المهام لردع وابل أكبر من الصواريخ التي تستهدف الجبهة الإسرائيلية الداخلية والتي في حالة الحرب ستكون هدفًا للصواريخ والصواريخ الباليستية والهجمات الجوية المعقدة. 

قال نتنياهو ذات مرة في تعليق له إن العقيدة الجديدة ستزيد الطلب على زيادة الإنفاق الدفاعي في العقد المقبل. تشير التسريبات الإعلامية داخل إسرائيل إلى أن ميزانية المخابرات الإسرائيلية ستصل تدريجيًا إلى 6٪ من ناتجها المحلي الإجمالي. وفقًا للاستراتيجية، سيتم إضافة حوالي مليار دولار سنويًا إلى الميزانيات السنوية لـ “الشاباك” و “الموساد”. تشير تقارير أخرى إلى أنه عندما يصل الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي إلى 500 مليار دولار، ستتم مراجعة الإنفاق الدفاعي من جديد. بلغ الناتج المحلي الإجمالي للنظام الإسرائيلي في عام 2017 نحو 347.8 مليار دولار، ومن المتوقع أن يصل الإنفاق العسكري الإسرائيلي خلال العقد المقبل إلى 27 مليار دولار.

التحديات والواقع

لا تعمل تلك الرؤية الأمنية الإسرائيلية بمعزل عن التحديات التي يفرضها الواقع العالمي والإقليمي والداخلي؛ ويرى من ينتقد تلك الرؤية من الخبراء والمحللين أن هناك عددًا من التحديات والملاحظات التي يجب أخذها في الاعتبار عند مناقشة رؤية إسرائيل وقياداتها المتمثلة في نتنياهو ومساعديه:

أولًا؛ غلب عليها الطابع السياسي والبصمات التي تخلو من لمسات عسكرية وأمنية في بعض الجوانب خلافًا لعقيدة بن جوريون؛ إذ لم يستشر نتنياهو مسؤولي الأمن والدفاع السابقين والحاليين في النظام المقترح حتى عام 2030؛ لذلك فإن الأمر مازال قيد المراجعة في لجنة الأمن والشؤون الخارجية في الكنيست، وكذلك في لجنة مشتركة بين الموساد والشين بيت.

ثانيًا؛ يجادل بعض الخبراء بأن العقيدة ستكون أكثر فائدة لموقف نتنياهو السياسي من أمن الدولة الإسرائيلية. في الواقع، يريد نتنياهو الحكم حتى عام 2030 باستخدام تلك الاستراتيجية.ثالثًا؛ تكاليف الاستراتيجية في الوقت الحالي، إذ يعد الإنفاق العسكري الإسرائيلي أكبر من العديد من الدول الغربية. ومع ذلك، فشلت تل أبيب حتى الآن في تحقيق الاستقرار الكامل في جبهتها الداخلية، ولطالما طلبت المساعدة من الولايات المتحدة لمواجهة التحديات الأمنية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستراتيجية لا تتناسب مع الوضع الاقتصادي الإسرائيلي. وأن الناتج القومي الإسرائيلي لا يتناسب مع الاحتياجات المطلوبة لضمان تطبيق نظرية الأمن الإسرائيلية، وهو ما يدفعها إلى البحث عن مصادر تمويل ومشروعات مشتركة وجذب لاستثمارات خارجية وفتح أسواق أو اللجوء في خطوة أخيرة إلى إعادة صياغة الأولويات.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى