
التضليل المعلوماتي وأزمة فيروس “كورونا”
أحد أبسط تعريفات مفهوم الأزمة هو: اللحظة المفاجئة التي تتهدد فيها “مصالح” و”قيم” الدولة. ومن ضمن المصالح التي تسعى الدولة للحفاظ عليها خاصة في ظل التهديدات غير التقليدية مثل انتشار الأوبئة أو الكوارث الطبيعية هو الحفاظ على الصفو العام للمجتمع، والتماسك المجتمعي الذي يمهد إلى علاقة صحية بين الدولة والمجتمع تنصرف من خلالها إدارة رشيدة للأزمة.
وتعتمد الدولة أثناء إدارتها للأزمة على “المصداقية” و”الرشادة” التي تعززان كفاءتها وإيجابيتها (أي الدولة) أمام المجتمع وتمنحاها “الشرعية” المطلوبة في تنظيم أدوات محددة في إدارة الأزمة التي تتسق مع نمط الحوكمة في الدولة (أي إدارة السلطة لعلاقتها الرشيدة مع المجتمع).
على هذا النحو يتنامى تأثير “الشائعات” و”المعلومات المضللة” على حجم تفاقم الأزمة من عدمه، ينعكس ذلك في حرص الدول على دحض الشائعات بالسرعة المطلوبة التي ينحسر من خلالها التأثير السلبي لهذه الشائعات، وإعادة ترميم مصداقية السلطة في نظر المجتمع. في هذا السياق يأتي السؤال حول الأسباب التي تدفع بعض الأطراف في نشر الشائعات أو الأسباب التي تجذب المجتمع إلى الإنصات للمعلومات المضللة، وما هي صور هذا التضليل؟
المعركة النفسية وأدوات التضليل المعلوماتي
واحدة من أهم وظائف الدولة تجاه مواطنيها هو حمايتهم، ضمان سلامة وأمن المواطنين من التهديدات التقليدية أو غير التقليدية (مثل الهجمات الإرهابية والكوارث الطبيعية والأمراض). وأحد جوانب أداء هذه الوظيفة هو الحرص على تجنب أو تقليل انتشار الذعر والرعب بين المواطنين.
وعليه أشارت بعض القراءات البحثية والأكاديمية إلى أن التنظيمات الإرهابية تستخدم آلتها الدعائية في نشر الخوف من انتشار المرض بين المواطنين المستهدفين، وبالتالي إجبار الحكومات على اتخاذ قرارات معينة ربما يكون تقديرها مبالغ فيه. لا يقتصر هذا العمل على التنظيمات الإرهابية فقط، بل على الدول المعادية للدولة المأزومة التي تدخل كطرف في معركة نفسية تهدف منها في نشر الخوف.
وحقيقة الأمر أن جزءا كبيرا من فلسفة مصطلح الإرهاب هو “التخويف” فيرتبط المنطق هنا باستخدام هذا التنظيم الإرهابي للتهديدات غير التقليدية بنشر الخوف بين المستهدفين. وبالتالي حلّ التماسك المجتمعي، وإثارة اضطرابات مجتمعية في حدود مختلفة قد تكون بسيطة أو تتفاقم إلى حد خطير.
ولكن تختلف هنا الأدوات المستخدمة باستغلال الأوبئة (على سبيل المثال) في نشر الذعر، إذ ليس من المحتمل أن استخدام الأدوات المادية مثل تنفيذ عمليات إرهابية، ولكن المرجح أكثر هو استخدام الآلة الدعائية المضادة للدولة في نشر الشائعات والمعلومات المضللة. مثل نشر شائعات تدور حول “الأرقام الحقيقية” لعدد حالات الإصابة بالمرض وبالتالي ينتج عنه تشكك المواطنين في “مصداقية” الدولة في إدارتها للأزمة.
ويأتي في هذا السياق أيضا، إعلان تنظيم داعش وقف عناصره عن السفر إلى أوروبا أو تنفيذ أي أنشطة إرهابية، والذي يمكن أن تكون أحد دوافع نشر هذا البيان هو نشر الذعر عند المواطن الأوروبي الذي سيتصور حجم بشع من انتشار المرض في القارة الذي دفع التنظيم الإرهابي نفسه لوقف نشاطه فيها التي منها العمليات الانتحارية.
ويعني القول إن العمل الإرهابي ليس عملا ماديا فقط، ولكنه أيضا يأتي في شكل تأثير نفسي له على المجتمع، يترك تداعيات لا تقل خطورتها عن العمل المادي أو الهجوم الإرهابي. هذا العمل يأخذ نمط “التضليل المعلوماتي” أو نشر الشائعات.
لماذا هناك شائعات بشأن فيروس كورونا؟
تأتي أهم سمة من سمات فيروس كورونا المستجد، هي: سرعة قصوى في انتشار الفيروس في عدد كبير من البلدان التي وصلت إلى ما يزيد عن 160 دولة، يأتي قبلها مجهولية مصدر الفيروس وأسباب انتشاره. فأدخل الأنظمة حول العالم في لحظة مفاجئة أربكت الكثير من الحسابات، بخلاف أنها أدخلت المجتمعات المأزومة أو غير المأزومة في فراغ كبير كانت أحد أهم جوانبه “المعلومات” مما أنتج وفرة من الفراغات المعلوماتية حول الأزمة.
وبخلاف حالة الهلع التي أصابت المجتمعات، والرغبة الشديدة في المعرفة والإجابة عن الكثير من الاستفهامات، وأخيرا توفر منصات تواصل اجتماعية تيسر حالة الاتصال وفتح مجالات للنقاش، مجموع ذلك دفع المجتمع إلى حاجة للإنصات إلى كل خبر يتناول هذه الظاهرة الغريبة وغير المفهومة، حتى لو تسلل إلى هذه الأخبار محاولات التضليل المعلوماتي ونشر الشائعات بهدف كسر العلاقة الارتباطية بين السلطة والمجتمع في الدولة (الحوكمة).
حسب دراسة من قبل معهد ماساتشوستس الأمريكي (2018)، فسرت الأسباب التي تدفع المجتمع إلى الإنصات للشائعات، وخلصت الدراسة إلى أن الأخبار المزيفة أو الشائعات تتسم بـ “الحداثة” مقارنة بالأخبار الواقعية، كما يستلهم المجتمع من الأخبار المزيفة مشاعر الخوف والمفاجأة. ينتج عن ذلك أن عامل الوقت هو رقم فاعل وأساسي في معادلة كبيرة ترمي إلى إدارة الأزمة.
أزمة “كورونا”.. اختبار للحوكمة؟
تعد أزمة كورونا مهددا عاما لمجموعة من المصالح والقيم، سواء السياسية أو الاقتصادية، وسواء كانت هذه القيم مادية أو غير مادية، مثل تماسك المجتمع. وبناء على النسق السابق يمكن تناول جانب الأثر السلبي للشائعات على العلاقة بين السلطة والمجتمع. الأمر الذي يستلزم إدارة محددة من السلطة في علاقتها مع المجتمع (الحوكمة)، ولكن واقع الأمر أن فيروس كورونا وتوابعه السياسية والمجتمعية وضع الحوكمة في اختبار جاد، على إثره اندفعت الدول لتقليل حدة هذه المخاطر والمهددات.
في هذا السياق يمكن تناول مجموعة من الخطوات التي اتخذتها الدول بهدف تحييد خطر الشائعات والمعلومات المضللة، فيما يلي:
أولا: الإجراءات القانونية: وصف مدير منظمة الصحة العالمية ظاهرة الشائعات عن فيروس كورونا بـ “الوباء” INFODEMIC، الذي ينتشر بصورة أسرع من الفيروس ذاته. وعليه شددت الدول في بيانات رسمية حظر تداول أي أخبار مزيفة وإلا واجه صاحبها إجراءات قانونية، مثل مصر التي ينص قانون ترويج الشائعات بتغريم صاحب الشائعة بحد أقصى 200 ألف جنيه، والحبس من 6 أشهر إلى 3 سنوات.
ثانيا: تشديد الرقابة على مواقع التواصل الاجتماعي: تشهد الصين حاليا تعاونا بين حكومتها، ومنظمة الصحة العالمية، وشركات التواصل الاجتماعي في الصين (Tencent وWeibo)، لمواجهة الشائعات. وعاقبت هيئة مكافحة الفساد في الصين عدد من المنصات لنشر محتوى مضلل.
ثالثا: المؤتمرات الصحفية: ازدادت أهمية المؤتمرات الصحفية واعتبرت على أنها أداة سياسية وليست إعلامية فقط في إدارة الأزمة وتحديد نمط الحوكمة بين الدولة والمجتمع. فقد استخدمتها مصر (أي المؤتمرات الصحفية) في إذاعة المعلومات الصحيحة والرسمية، وأنها المسار الوحيد الذي يحتكر المعلومة، كما أنها أداة لدحض الشائعات ونفي الأخبار الكاذبة.
رابعا: مبدأ الشفافية: انتهجت عددا من الدول مبدأ الشفافية في التعامل مع الأزمة، وهي المصارحة التامة بإجراءات الدولة في إدارة الأزمة، أو الكشف عن العدد الصحيح لحالات الإصابة أو الوفاة من الفيروس. فعلى سبيل المثال: صرحت وزيرة الصحة المصرية أنه لا يشترط انحسار مرض كورونا في الفصول الحارة، كما أشارت إلى أن عدد حالات الإصابة قابل للزيادة في أي وقت. كما طبقت حكومة كوريا الجنوبية نظام تتبع يسمح برؤية الأماكن التي زارها مرضى مصابون بالفيروس.
في حين أن دول مثل الصين والولايات المتحدة (في هذا السياق) لم تتعامل بشفافية مطلقة حول مستجدات المرض مع المجتمع، بل كان هناك تكتيم متعمد من الحكومة الصينية. وكان هناك استجابات متأخرة من الإدارة الأمريكية، إذ قدّر الخبراء أن المرض كان ينتشر في واشنطن ولم يتم الإبلاغ عن حالات الإصابة إلا بعدها بشهر كامل، ولم يتم فعل الكثير للزيادة في مشاركة المعلومات وقتها إلا في وقت متأخر.
هذه الممارسات الإيجابية أو الممارسات السلبية في اتجاه آخر، شكلت نمطا جديدا في شكل الحوكمة وحاجة الدولة (السلطة والمجتمع) إلى إدارة رشيدة في شكل العلاقة بين السلطة والمجتمع وفي شكل التعامل مع الأزمة من أجل تقليل تبعات الخطر.
ختاما، يمكن القول إن هناك حاجة إنسانية دائمة لالتهام كميات ضخمة من المعلومات خاصة حول الظواهر المخيفة وغير المفهومة، هذه الحاجة عكست أمرين، الأول هو ميل المجتمع لتصديق الأخبار المضللة كونها أخبار سريعة وحديثة. الثاني هو استغلال التنظيمات الإرهابية والدول المعادية لنشر الشائعات من أجل هدم التماسك المجتمعي للدولة المأزومة.
هذه التعقيدات وضعت الدول (السلطة والمجتمع) أمام اختبارات جديدة تمس مفهوم الحوكمة أو شكل إدارة العلاقة بين السلطة والمجتمع، مما حتّم على الأنظمة انتهاج سياسات محددة تهدف إلى تحقيق مصالح الدول والحفاظ على قيمها، مثل دحض الشائعات.
باحث ببرنامج العلاقات الدولية