
“رجالات أردوغان” وقفوا أسفل تمثالها.. “كاترينا الثانية” صانعة النهضة الروسية
في لحظات عصيبة من عمر العلاقات الروسية التركية، على ضوء انهيار التفاهمات بين أنقرة وموسكو في إدلب السورية وتقدم القوات النظامية السورية بدعم روسي على حساب القوات التركية الموجودة في إدلب دون موافقة الحكومة السورية، زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظيره الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة الروسية موسكو.
وعكس إشارات الترحاب الروسي في الزيارات السابقة، فإن الجانب الروسي تعمد إظهار ملامح الصرامة واستدعاء تاريخ الانتصارات الروسية على الدولة العثمانية وصولاً إلى إيقاف الوفد التركي أسفل أقدام تمثال الإمبراطورية الروسية كاترينا الثانية.
ورغم أن الصحافة العالمية أشارت إلى انتصار كاترينا الثانية على الدولة العثمانية، ولكن الإشارة كانت عابرة، خاصة ان الإمبراطورية الروسية قادت موسكو إلى ثلاثة انتصارات على العثمانيين وليس انتصاراً وحيداً كما ذكر الاعلام الدولي، إضافة إلى أنها صانعة الاستقرار والنهضة الروسية جنباً الى جنب مع الامبراطور بطرس الأكبر.
كما أن الاعلام العربي والغربي كتب صيغة اسم الإمبراطورية الروسية خطأ أكثر من مرة، فهي كاترينا، وليس كاثرين أو كاثرينا.
في ستينات القرن الثامن عشر، كانت روسيا القيصرية في منافسة إقليمية مع الدولة العثمانية، ومملكة بروسيا التي تعتبر اليوم جزءاً من تراث المانيا وحدود تلك المملكة تقع اليوم داخل ما نعرفه بـ النمسا وألمانيا.
وأدت المصاهرات التقليدية بين الأسر الملكية في أوروبا إلى جلوس إمبراطور متأثر بالثقافة الألمانية على عرش روسيا حينما ورث العرش عن أمه، تولى بطرس الثالث حكم روسيا عام 1762 وبالكاد كان يتحدث الروسية حيث كانت الالمانية لغته الاولي حيث تربي وولد في المانيا.
صحيح هو حفيد الإمبراطور الروسي بطرس الاكبر، ولكنه ابن تشارلز فريدريك دوق هولشتاين – جوتورب، إحدى الامارات الالمانية وقتذاك، فشب الفتى ألمانيا ً خالصا، يميل إلى بروسيا والثقافة الألمانية، معجب بفريدريك الأكبر ملك بروسيا الألمانية على حساب وطن جده وأمه، وكان يسعي للتحول إلى البروتستانتية وأبدى إعجابا ً برجل الإصلاح الديني مارتن لوثر، علماً بأن قيصر روسيا يجب أن يكون أرثوذكسيا يعبر عن الثقافة الروسية الأرثوذكسية التي كانت ترى أن موسكو هي روما الثالثة.
تزوج أميرة ألمانية بروتستانتية تدعى صوفي ابنة دوق تشيتشن في بولندا، التي كانت وقتذاك إمارة المانية تحت سيطرة مملكة بروسيا.
صانعة النهضة والتنوير الروسي
كانت صوفي – التي غيرت اسمها إلى كاترينا لاحقاً – رغم أنها ألمانية أبا ً عن جد أكثر حرصا ً على مصالح روسيا عن زوجها بطرس الثالث، و بدأت في الاتصال بالرجال النافذين في الدولة من أجل اقصاء زوجها، وبدأ بطرس الثالث في الرد على كاترينا، عبر القبض على من تتصل بهم فيما عرف بصراع قصير الزمن على عرش روسيا ، و في 9 يوليو 1762 قامت كاثرين بانقلابها الشهير في يوليو 1762، وكانت كاثرين المدعومة من قبل ضباط الحرس القيصري، لاحقاً قام الكونت أليكسي أورلوف أحد أعوان كاثرين وأحد منظمي الانقلاب بقتله في سجنه يوم 17 يوليو 1762 في ضواحي بطرسبرج وتحديدا ً في قلعة روبشينسكي وهو في سن ال 34 عاما.
وقد تحولت كاثرين من البروتستانتية إلى الأرثوذكسية قبل بضعة سنوات من توليها العرش، وإثنين من أبناء عمها أصبحا ملوك السويد هما الملك جوستاف الثالث والملك تشارلز الثالث عشر.
ويمكن القول بلا جدال أن كاترين الثانية أو كاثرين العظيمة كانت داهية بالدرجة الاولي، امتلكت العرش والسلطة والدهاء السياسي والاتصالات الدولية التي اشعرتها واشعرت كل من يقترب منها انها أقوى سيدة في العالم، سيطرت على طبقة النبلاء الروس وطبقة رجالات الجيش النافذين واغدقت عليهم بالمال والمناصب وصنعت منهم مجد الإمبراطورية الروسية.
أدت سياساتها الى نشأة بيئة متسامحة مع الشعوب الاسلامية داخل الإمبراطورية، وفي 3 يناير 1792 اصدرت قرارا ً بتهجير يهود روسيا الى غرب البلاد وتحديدا ً فيما يعرف اليوم بـ بولندا، واوصت بعدم تولى ابنها بول العرش بعدها واوصت بــ ألكسندر، ونكاية في بول ادعت انه ابن غير شرعي للقيصر الذي سبق وان خلعته وقتلته، ولكن رجالات الحكم أدركوا حقيقة ان ادعاء كاثرين العظيمة ما هو الا خلاف سياسي واسندوا العرش لبول عقب وفاتها.
على الصعيد الدولي ارتبطت بعلاقة مع ملك بولندا ودوق ليتوانيا ستانيسواف أغسطس بونياتوفسكي، وأرسلت الجيش الروسي إلى بولندا لفرض الرجل ملكا ً على البلاد، وانتهي تدخلها في بولندا بتقسيمها لاحقا ً وحصلت روسيا على نصيب الاسد من الأراضي البولندية.
دعت فلاحين ألمان إلى حقول أوكرانيا، وهم الألمان الذين الفوا العرقية الألمانية داخل روسيا وتأسس لهم جمهورية ألمان الفولجا داخل الاتحاد السوفيتي لاحقا ً.
وحينما قام بعض أدباء وفنانين أوروبا بعرض مكتباتهم التاريخية للبيع، عرضت شراء المكتبة مع بقائها في حوزة صاحبها مدي الحياة وراتب شهري على ان تصبح ملكا ً للدولة الروسية عقب وفاته.
وفي عام 1773 شهد عصرها ثورة الفلاحين ضد النظام الاقطاعي وهدد المتمردون بالاستيلاء على موسكو، مرددين صرخة ” الموت لجميع الملاك! ” وظهر وسطهم من يقود الحراك الشعبي ويدعي إميليان بوجاتشيف، قبل أن يتم قمعهم بلا رحمة.
أخضعت كاترين بوجاشيف في نهاية المطاف، وتمّ حمله إلى الساحة الحمراء حيث قُطع رأسه في احتفالية شعبية.
الصراع الدولي في القرن الثامن عشر
قبل مواجهة العثمانيين، اشتركت روسيا في حرب السنوات السبعة (1756 – 1763)، التي تعتبر بمثابة حرب عالمية مصغرة وقعت في القرن الثامن عشر، في إطار المنافسة الاستعمارية بين بريطانيا وفرنسا في القارة الأمريكية، إلى جانب محاولة القوي العالمية لمنع توحيد الولايات والإمارات الألمانية وظهور الدولة الألمانية الموحدة، ونتيجة لحرب السنوات السبع، فقدت فرنسا معظم مستعمراتها في أمريكا الشمالية واستولت عليها بريطانيا، كما تنازلت فرنسا عن مستعمراتها في الهند، وفشلت بروسيا في توحيد الامارات الألمانية.
ورغم أن المشاركة الروسية في حرب السنوات السبع لم تكن مؤثرة في نتائجها، الا ان كاترينا الثانية رسخت في تلك الحرب فكرة ان روسيا دولة عظمي تشارك في الحروب العالمية ولو على نطاق إقليمي.
الحرب الروسية – العثمانية السادسة
وحينما دقت ساعة الحرب الروسية – العثمانية السادسة (1768 – 1774) كانت تعليمات كاترينا واضحة بأنهاء الصراع الروسي العثماني لصالح موسكو، تعتبر تلك الحرب حاسمة في تاريخ الصراع الدولي، الانتصار الروسي أكد للأبد ان روسيا قوة دولية عظمي، والهزيمة العثمانية كانت بداية النهاية وبدأ يظهر مصطلح “رجل أوروبا المريض” و”المسألة الشرقية”.
دمرت روسيا الأسطول العثماني، وظفرت بكامل أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وكامل شمال غرب القوقاز، وكافة تلك المناطق كانت ولايات عثمانية، وعقب تلك الحرب لم تطأ أرجل العثمانيين تلك المناطق التي أصبحت حتى اليوم مناطق نفوذ روسية.
كما ظفرت كاترينا بحرية الملاحة الروسية في البحر الأسود الذي كان قبل هذا التاريخ مجرد بحيرة عثمانية، بالإضافة إلى حرية الملاحة الروسية في المضايق العثمانية في كافة الولايات العثمانية بأوروبا واسيا وافريقيا، ولولا تدخل الدبلوماسية الأوروبية لفرملة الانتصار الروسي والسقوط العثماني لظفرت روسيا بالمزيد، كما ظفرت روسيا بمكاسب تتعلق بالرعايا الأرثوذكس في الإمبراطورية العثمانية ما فتح الباب أمام روسيا للتدخل في فلسطين تحت العباءة الارثوذكسية.
حارب مع العثمانيين دولة خان تتار القرم، وهي الدولة التي فككتها كاترينا عقب سيطرتها على القرم المطلع على البحر الأسود.
الحملة العسكرية الروسية على شرق المتوسط
ولم تكتف كاترينا بخسائر الدولة العثمانية في القوقاز وشرق أوروبا، ولكن للمرة الأولى والأخيرة تذهب روسيا القيصرية للحرب في الشرق الأوسط ومنطقة حوض البحر المتوسط وتحديداً من أجل استهداف الولايات العثمانية في مصر وسوريا ولبنان وفلسطين، فيما يعرف ب الحملة العسكرية الروسية على شرق المتوسط (1772 – 1774).
أبحرت السفن الروسية عام 1769 فلم تصل شرق المتوسط الا عام 1772، نسقت روسيا مع بريطانيا، حيث كانت لندن تدعم زيادة النفوذ الروسي في المنطقة على حساب تركيا وفرنسا، بل وكانت البحرية البريطانية شاهدة على ما يقوم به الأسطول الروسي في البحر المتوسط دون أن يتحرك.
هدفت الحملة الروسية إلى دعم ثلاثة ساسة في مصر والشام كانت لهم مراسلات مع موسكو، وكانت روسيا تدعمهم وأرسلت الحملة للتدخل عسكريا ً لإنقاذهم، وهم: على بك الكبير في مصر، ظاهر العمر في شمال فلسطين ودمشق، ناصيف النصار في جنوب لبنان.
ولكن الأسطول الروسي وصل إلى شرق المتوسط بعد أن انقلب محمد بن أبو الدهب على سيده على بك الكبير وأعاد مصر الى الحكم العثماني صورياً، لذا تمركزت عمليات الروس في الشام وتحديداً بيروت التي احتلتها روسيا عامين لتصبح مركز عمليات الأسطول الروسي طيلة الحملة في عموم الشام.
للمرة الأولى والأخيرة حتى اليوم تحتل روسيا أراضي عربية وتحكمها بشكل مباشر، جرى ذلك في بيروت ما بين عامي 1772 و1774.
رتبت روسيا نفوذ ظاهر العمر ويوسف الشهابي في الشام، ودعمت الطائفة الأرثوذكسية على حساب الطوائف المارونية والكاثوليكية المدعومة من فرنسا، ثم غادرت الشام.
الحرب الروسية – العثمانية السابعة
لم تكتف كاثرين العظيمة بما فعلته بالدولة العثمانية في الحرب السادسة بين البلدين بل أكملت المسيرة في جولة جديدة بحلول الحرب السابعة بين البلدين (1787 – 1792)، حيث هاجمت روسيا والنمسا كلا ً على حدة الأراضي العثمانية، وظفرت كاثرين الثانية باعتراف عثماني جديد بالسيادة على اراض جديدة في القوقاز ضمنت سيطرة روسيا على المنطقة وأنهت التواجد العثماني في القوقاز حتى سقوط الدولة العثمانية.
حينما توفيت كاترينا الثانية في 17 نوفمبر 1796 عن 67 عاماً، كانت الدولة العثمانية قد دخلت مرحلة الافول، كانت فرنسا تستعد للحملة الفرنسية على مصر والشام لكي تخرج مصر درة التاج العثماني للأبد من سيطرة العثمانيين، وعبر كتب التاريخ، كانت خسارة مصر هي بدء افول اغلب الامبراطوريات على مدار سنوات الصراع الدولي منذ سنوات الصراع بين قدماء اليونان والفرس.
ويعتبر بطرس الأكبر وكاترينا العظيمة هما صانعو المجد القيصري وعصر النهضة الروسي، فهم أهم من حكم روسيا في عصرها الملكي، وأصبح اسم كاترينا من أهم سمات المجتمع والثقافة الروسية، حتى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أطلق على ابنته الثانية اسم “كاترينا” عام 1986 أثناء عمله بالمخابرات السوفيتية في ألمانيا.
باحث سياسي