سوريا

إدلب .. هل حان الوقت أن تدفع أنقره ثمن سياساتها المتأرجحة ؟

في خسارة تُعد الأسوأ من نوعها من التدخل العسكري في الشمال السوري، قُتل مساء أمس الخميس 34 جندياً تركيا وأصيب  36 آخرون إثر قصف جوي على موقع نسبته أنقره لقوات الجيش السوري في إدلب، أعقبه اجتماع أمني عقده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، انتهى فجر الجمعة، بعد أن دام نحو 6 ساعات في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة.

وقال المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم “عمر جليك ” في بيان أن ” نظام الأسد وداعموه سيدفعون ثمن الهجوم الغادر غاليًا “.

و قالت مجموعة “نت بلوكس”، المعنية برصد حركة الإنترنت، أن الشبكات الاجتماعية، مثل فيس بوك وتويتر وانستجرام وماسينجر، قد تم حجبها من قبل العديد من مُزودي خدمة الإنترنت في تركيا، تزامنا مع تدفق الأخبار حول الهجوم على القوات التركية في إدلب.


وجاء ذلك في خضم المعارك الشرسة التي يخوضها الجيش السوري للسيطرة على إدلب آخر معاقل التنظيمات الإرهابية الموالية لتركيا وذات الأهمية الاستراتيجية لموقعها الحاكم على الطريقان الدوليان ذوا الأهمية الاستراتيجية M5 وM4 اللذان يربطانها -إلى جانب حلب بالطبع- باللاذقية غربا ودمشق جنوبا وخطوط التماس المباشر شمالا مع الجيش التركي الذي لم ينفك عن تعزيز تواجده في الشمال السوري من خلال الدفع بالعناصر المدرعة ووحدات المشاة الميكانيكية وعناصر المدفعية الميدانية مضاف لهم تشكيلات ما يسمى بـ” الجيش الوطني السوري ” وهيئة تحرير الشام أو ما تُعرف سابقاً بـ” جبهة النصرة “.

نحو توتر تركي-روسي ؟ 

وجهت أنقره اليوم الجمعة طلبا للمجتمع الدولي، بإقامة منطقة حظر جوي في شمال غرب سوريا لمنع طائرات الجيش السوري وحليفته روسيا من شن ضربات، في وقت وجهت روسيا تهديدا ضمنيا لأنقرة في حال شنت عملية عسكرية بعد انتهاء مهلة الرئيس، رجب طيب أردوغان لدمشق لتسحب قواتها من إدلب بحلول غد السبت

وقال مدير الإعلام لدى الرئاسة التركية، فخر الدين ألتون إن ” المجموعة الدولية يجب أن تتخذ اجراءات لحماية المدنيين وإقامة منطقة حظر جوي ” في منطقة إدلب.

من جانبها شددت وزارة الدفاع الروسية في بيان لها على أن أنقرة لم تبلغ موسكو بوجود قوات تابعة لها في إدلب، وأضافت “ما كان ينبغي أن يكون الجنود الأتراك في المنطقة وفقا للمعلومات التي قدمتها تركيا”. وتابعت أن هناك ” جنودا أتراك كانوا وسط المسلحين السوريين أصيبوا في قصف بإدلب الخميس “. وقالت موسكو إن سبب التصعيد في إدلب الخميس كان محاولة الفصائل المسلحة الموالية لأنقرة شن هجوم على الجيش السوري. وذكرت أنها ” فعلت كل شيء لفرض وقف كامل لإطلاق النار من جانب الجيش السوري بعدما علمت بمقتل أتراك “.
كما أعلن الكرملين أن روسيا فعلت كل ما هو ممكن لحماية القوات التركية في مواقع المراقبة، وشدد في بيانه على أن  القوات التركية في إدلب لا يجب أن تتواجد خارج نقاط المراقبة الخاصة بها. بل والأدهى من ذلك أن وزارة الدفاع الروسية قالت نقلاً عن ” مركز المصالحة الروسية في سوريا “، إن تركيا تواصل انتهاك اتفاقيات سوتشي، لصالح الفصائل، في منطقة خفض التصعيد بإدلب، وذلك بقصفها القوات السورية. وأضاف المركز، في بيان، أن القوات التركية تستخدم المدافع والطائرات دون طيار للاستطلاع وتقصف مواقع قوات الجيش السوري في منطقة إدلب شمال سوريا، في انتهاك لاتفاق سوتشي بمنطقة التصعيد في إدلب، بحسب البيان.

وجات تلك التطوّرات مناقضة للصورة الذهنية المأخوذة عن العلاقات التركية الروسية التي شهدت تطورا وتقاربا سريعين خلال السنوات الثلاثة الأخيرة. وما رسّخ تلك الصورة هو تعاقد أنقره على نظام الدفاع الجوي بعيد المدى إس-400، ليعمق في تأزيم الموقف المتوتر سلفا مع الولايات المتحدة وحلف الناتو. وفي الوقت الذي أفضت الخلافات بين الولايات المتحدة وتركيا حول قوات سوريا الديمقراطية ( الأكراد )، ولا سيما في شمال شرقي سوريا، إلى ابتعادهما الواحدة عن الأخرى، بالتوازي مع التقارب التركيا الروسي جرّاء منح موسكو الضوء الأخضر للعمليات العسكرية التركية ضدّ قوات سوريا الديمقراطية في شمال غربي سوريا.

مع ذلك، بقي الموقفان الروسي والتركي مختلفين أشد الاختلاف حول رؤية كل منهما للحل النهائي للأزمة السورية. ففيما ركّزت موسكو ودمش وشريكها في دمشق منذ زمن على حسب الحرب لصالح الأخيرة في باقي الأراضي السورية، سلّط  هجوم الجيش السوري على إدلب الضوء على هذا الاختلاف ليزيح الستار عن حقيقة العلاقات وحدودها بين الجانبين.

ابتزاز يلوح في الأفق ودعم غربي وناتوي شفهي :

تجري الأحداث في إدلب في خضم وجود 3,5 مليون لاجىء خلاف 900 ألف آخرين غادروا محل إقامتهم نتيجة للمعارك المندلعة، مما يفتح الباب لموجات نزوج جديدة للاجئين، وبما لا يدع مجالا للشك، فسوم تقوم أنقره بكلّ ما في وسعها لإبقائهم على الجهة السورية من الحدود، أو ستسعى لاستخدامهم كورقة ضغط وابتزاز جديدة أمام الاتحاد الاوروبي مقابل الحصول على دعم أقوى في إدلب لإيقاف الهجوم السوري المدعوم عسكريا من روسيا أو على أقل تقدير الحد من آثاره.

وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميرك قد صرحت أثناء زيارتها تركيا نهاية يناير المنصرم أن ألمانيا وأوروبا ستقدّمان المزيد من الدعم المالي لتركيا للتعامل مع أزمة اللاجئين المتنامية. ولكن من الأرجح أن يكون هذا هو المستوى الأقصى للدعم الذي يمكن أن تنتظره تركيا من الإتحاد الأوروبي، ومما يؤيد هذا الترجيح تأكيد اليونان أنها لن تسمح لأي كان بأن يدخل بطريقة غير شرعية عبر حدودها.

وفي سياق متصل، وعقب جلسة طارئة بناءً على طلب تركي، قال الأمين العام لحلف النتو ينس ستولتنبرج إن الحلفاء وافقوا على المحافظة على الإجراءات القائمة حاليا لتعزيز قدرات تركيا الدفاعية الجوية، لكنه لم يلمّح إلى أي خطوات جديدة تتجاوز التعهّد بشكل عام بالبحث في ما يمكن القيام به أكثر من ذلك.

وأدان ستولتنبرج دمشق وموسكو وحضّهما على وضع حد للعنف في إدلب. وقال ” ندعو روسيا ونظام الأسد لوقف الهجمات ووقف الهجمات الجوية العشوائية والانخراط في دعم الجهود التي تقودها الأمم المتحدة لإيجاد حل دائم سياسي وسلمي للأزمة في سوريا “.

ولم يكن رد الفعل الأمريكي أفضل من أمين عام حلف الناتو، حيث قال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية في بيان : ” نحن ندعم تركيا حليفتنا في الناتو، ونواصل الدعوة إلى وقف فوري لهذا الهجوم الشنيع ” للجيش السوري والقوات الداعمة له، وأضاف: “نحن ندرس أفضل الطرق لمساعدة تركيا في هذه الأزمة “.

إسفين دبلوماسي أمريكي :

ولكن يبدو أن واشنطن قد لاحت لها فرصة لضرب إسفين دبلوماسي بين موسكو وأنقره، إثر طلب الأخيرة نشر منظومات باتريوت على الحدود المتاخمة لسوريا وفي ظل عدم قدرتها على تشغيل منظومة إس-400 الروسية حتى اللحظة، وخاصة مع استحالة دمجها مع شبكة القيادة والسيطرة لحلف الناتو. فقد جاءت المحاولة الأمريكية من خلال دعوة سفيرة الولايات المتحدة لدى الناتو تركيا إلى أن تستخلص من المواجهات في سوريا “من هو صديقها الحقيقي”، وإلى أن تتخلى عن شراء منظومة دفاع جوي صاروخية من روسيا (إس-400).

وقالت هاتشيسون للصحفيين في واشنطن : ” هم يرون حقيقة روسيا، ويرون ما الذي تفعله اليوم، وإذا كانوا يهاجمون قوات تركية، عندها يجب أن يتجاوز هذا أي شيء آخر يحدث بين تركيا وروسيا “.وتؤكد الولايات المتحدة إن منظومة “إس 400” ستضر بحلف الناتو عبر السماح لروسيا بتحسين تتبعها لتطور مقاتلة الجيل الخامس الشبحية “إف 35” التي تم استبعاد أنقره من برنامجها، فيما تشدد روسيا على أنها ستنصب النظام الصاروخي في مناطق لا تحلق فوقها الطائرات الأميركية، وتقول أيضا إنها لم تشغل المنظومة حتى الآن، مما يعطي واشنطن أملا بأن أنقرة يمكن أن تغير رأيها.

توافق سياسي أمريكي/غربي مع المعارضة التركية :

وتأتي السياسة الأمريكية تتسق مع مواقف قوى المعارضة التركية ترى تحركات إردوغان الأخيرة في شمال سوريا سببا لتأزم الموقف مع روسيا ومقتل الضباط والجنود الأتراك بخلاف أزمة اللاجئين، فرغم أن موقف الغالبية من الأحزاب والقوى السياسية موحد تجاه ضرورة وجود رد على القصف الذي طال افراد الجيش التركي، إلا أن هناك حالة عامة من عدم الرضا إزاء ما يفعله إردوغان في إدلب.

هذا بخلاف تحميلهم إردوغان المسؤولية كاملة فيما يخص توتر العلاقات مع الناتو والولايات المتحدة، بسبب شراء منزومة إس-400 من روسيا، مما يزيد من المشهد في الداخل التركي، ويفتح الباب للتساؤل عما إذا كان التدخل العسكري في الشمال السوري بوجه عام وما يحدث في إدلب بوجه خاص سيؤثر على الخارطة السياسية الداخلية في تركيا وخصوصا مع تراجع شعبية الرئيس التركي التي ظهرت في الانتخابات البلدية الأخيرة، وكذا يعطي دلالات على أن الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي سيسعيان لدعم  لدعم أي تحرك في الداخل التركي لإبعاد إردوغان عن السلطة ووصول قيادة جديدة ذات سياسات أكثر تعقلا وغير تصادمية مع القوى الغربية.

الخيارات المتاحة والمطرقة والسندان :

1- التصعيد العسكري :

بإمكان أنقره أن تستمر في الدفع بالأسلحة الثقيلة إلى وتعزيز الدعم اللوجيستي للتنظيمات المسلحة الموالية لها –حتى الان. ولكن ماهو مؤكد أن تلك التعزيزات لم تُفض بنتائج إيجابية على الإطلاق، بدليل استمرار الجيش السوري في عملياته بدعم روسي يحظى بزخم عسكري كامل، ولا يوحي المشهد بأي تراجع سوري على الإطلاق بل استنزاف مستمر للجانب التركي ذو الأوضاع الاقتصادية السيئة وكذا الاستنزاف الموازي على الجبهة الليبية نتيجة الانخراط العسكري الأخير هناك، ناهيك عن أن تركيا لا تملك قدرة الانخراط العسكري الجوي بأوضاعها الحالية في قواتها الجوية التي تعاني من نقص هائل في أعداد الطيارين بسبب حملة التطهير التي اعقبت انقلاب يوليو 2016 الفاشل، مما تسبب في قبوع عدد كبير من الطائرات على الأرض، وعليه لن تملك أنقره الجهد الجوي الكافي لشن عملية جوية موسعة، بخلاف امتلاك قوات الدفاع الجوي السوري لمنظومات روسية الصنع مطورة ومدعومة من وسائل الكشف الجوي والانذار المبكر الروسية المتمركزة في حميميم واللاذقية.

2- المفاوضات :

يمكن أن تحاول تركيا التوصل لترتيب جديد مع روسيا بشأن ( اتفاقية أستانة مُحسّنة ) ويمكن أن تجد الأولى فيه طوق نجاة لتحسين العلاقات مع الأخيرة وكذا تسوية مع الجانب الأوروبي من خلال تمويله لمنطقة عازلة مخصصة للاجئي إدلب ويقضي على مخاوف القوى الغربية من أزمة لاجئين جديدة محتملة وذلك في مقابل سيطرة دمشق على إدلب وخروج التنظيمات المسلحة منها.

3- اللجوء للولايات المتحدة :

ويكون ذلك من خلال اجراءات وخطوات يمكن ان تزيد من تكلفة الأعمال العسكرية على الجانبين السوري والروسي وللحصول على منظومات الباتريوت، ولكن في مقابل تدهور للعلاقات مع موسكو وضغط امريكي بمسألة التخلي عن منظومة إس-400 وكذا مسألة الأكراد، ولكنه من المستبعد أن يحدث.

4- الانسحاب من الأراضي السورية :

في ظل التقدم المستمر من الجيش السوري بدعم روسي والحصار المفروض على نقاط المراقبة التابعة لها يمكن أن تلجأ تركيا إلى سحب قواتها من الشمال السوري إلى منطقة عازلة ضيقة على الشريط الحدودي لحفظ ماء الوجه وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من نفوذ، ولكنه في المقابل سيكون مقابل أثمان باظهة ستدفعها أنقرة أبسطها الاعتراف بالهزيمة وفقدان المزيد من شعبية الرئيس والحزب الحاكم أمام تصاعد شعبية القوى المعارضة وكذا فقدان السيطرة على التنظيمات الإرهابية في حال توقف إمدادها بالتمويل والتسليح اللازمين، أو في حال فرض عقوبات على أنقره إذا ما حاولت تفريغ تلك التنظيمات من المسرح السوري في المسرح الليبي، لتتحول تلك التنظيمات إلى خنجر مسموم مصوب إلى قلبها بعد كانت تستخدمه ضد على مدار الفترة الماضية ضد دول الإقليم وكورقة مساومة مع القوى الدولية.

خاتمة

لا شك أن التوتر الأخير بين أنقره وموسكو ومحاولة استمالة القوة الغربية والحصول على دعم ناتوي ملموس يدلل على أزمة حقيقية في السياسة الخارجية التركية، وأن التطلّعات الاستراتيجية لتركيا وروسيا في محيطهما المشترك هي تنافسية في المقام الأول، والعلاقات المشتركة بينهما لا تحظى بالثقة المتبادلة ولا التقارب الجيوسياس ييبقى هذا التعاون ” لحظي/مؤقت ” ومقترن بالمصالح المشتركة المحدودة في الوقت الحالي. وربما كانت الملفات ذات الاهتمام السياسي المشترك والاستياء الغربي تجاه الجانبين، سبباً ومبرراً لهذا التقارب والتعاون، ولكنها لن تكون أبدا سببا للجميع بينهما على الصعيد الجيوسياسي.

إن اعتماد تركيا على استخدام التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة وتمويلها وتزويدها المستمر بالأسلحة والذخيرة في فرض وقع مخالف هو تكتيك ناجح حتى اللحظة، إلا أنه لم يعد يهدد أمن الإقليم وبالتبعية أمن الدول الأوروبية المُشاطئة للبحر المتوسط ( على رأسها اليونان – إيطاليا ) فحسب، بل بات مُهدداً لأمن تركيا نفسها في تكرار لسيناريو باكستان قديماً في أفغانستان عام 1980 والمدعومة من الولايات المتحدة في ذلك الوقت لإسهامها في نقل السلاح للمجاهدين الذي تحولوا بعد ذلك إلى تنظيم القاعدة وحركة طالبان التي ذاقت باكستان منها الأمرين في عمليات إرهابية عديدة ضربت داخلها خلال الفترة الماضية. وتركيا ليست ببعيدة عن ذلك وقد تعرضت بالفعل لعمليات إرهابية خلال عام 2015، ومن غير المستبعد مطلقا عودة تلك الموجة من العمليات الإرهابية إذا ما أفلت زمام الأمور من أنقره وفقدت سيطرتها على بوصلة التنظيمات الإرهابية في المنطقة.

إن لم تقم أنقره بعملية إعادة تقييم ومعالجة سريعة للخلل الحالي الهائل في علاقاتها مع روسيا من جانب والاتحاد الأوروبي والناتو والولايات المتحدة من جانب آخر، وإذا ما استمرت في سياساتها المتأرجحة بين الطرفين، فإنها ستعاني ويلات سياسية وأمنية خارجية وداخلية لا حصر لها. 

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى