
2023.. عام الخطر
إذا كان هناك أمر تعلمناه فهو أن عام ٢٠٢٢ سوف يكون الذي فشلت فيه كل النظريات التي عرفناها في دراسات العلاقات الدولية في تفسير ما يحدث، فضلًا عن التنبؤ بما سوف يلى. لم تنجح نظرية توازن القوى العسكري والاقتصادي في منع الحرب الأوكرانية؛ لأن الموازين الروسية أقل ثقلًا من تلك الأوكرانية مضافًا إليها حلف الأطلسي والولايات المتحدة والغرب كله في ناحية أخرى. ولا نجحت نظرية الاعتماد المتبادل في التجارة والطاقة والغذاء والتكنولوجيا، التي تجعل في الحرب ضررًا لجميع الأطراف، في إزالة الأزمة في أولها ومنع الحرب بعدها؛ وقبل كل الأطراف كافة أشكال الضرر.
نشبت الحرب رغم كل شيء. وأثناءها، عبرت لحظات كان ممكنًا فيها تحقيق درجات من التوازن تكفي لكي يشعر فيها الطرفان الأساسيان بأنهما حققا انتصارًا بقدر أو آخر، وتصبح التسوية ممكنة عند توازن جديد يجدانه أفضل حالًا من قتال مستعر. جرى ذلك بعد الفشل الروسي في دخول كييف والنجاح في الاستيلاء على إقليم الدونباس؛ ولكن موسكو لم تكن تقبل أقل من مواصلة الزحف حتى أوديسا.
وبعد «الهجوم المضاد» والزحف الأوكراني في شمال الدونباس وجنوبه وتحرير «خيرسون»؛ فإن أوكرانيا لم تعد تقبل بأقل من الخروج الروسي الكامل من أوكرانيا بما فيها القرم مضافًا إليها تعويضات كاملة. لم يكن الألم الاقتصادي والديموجرافي، ولا التكلفة العسكرية، ولا الألم العالمي في الطاقة والغذاء؛ كافيًا لوقف الحرب في أي وقت. على العكس تمامًا، فإن العالم لم يكتفِ بالتعامل مع المعتاد الجديد للحرب، بل إن ما جرى هو التصعيد المستمر في المطالب والآلام التي يرتكبها الطرفان إزاء بعضهما، وكلاهما إزاء العالم. اكتفى المراقبون بخبط الأكف بعضها ببعض، والتأكيد على أن «عدم اليقين» بات هو المنظومة الفكرية العالمية الجديدة، التي تعني أن البشرية دخلت إلى نفق جديد مرعب.
كل المؤشرات إلى عام ٢٠٢٣ تشير ليس فقط إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية سوف تكون مستمرة لعام آخر، وإنما إلى أن الحرب سوف تدخل إلى نطاقات أكثر خطورة. الزيارة التي قام بها مؤخرًا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بيلاروسيا والاتفاقيات الدفاعية التي عقدها تَشِي باحتمال كبير لدخول «مينسك» الحرب، وهي لن تكون إلا بشَنّ هجمات من الشمال على أوكرانيا لا يكون لها هدف آخر إلا العاصمة «كييف».
طوال الأسابيع الأخيرة، لم يكن للقوات العسكرية الروسية من هَمّ إلا استخدام الطائرات المسيرة الإيرانية في الهجوم على المدن الأوكرانية والتركيز على بنيتها الأساسية؛ والآن تشير روسيا إلى وجود أسلحة غير مسبوقة في الشرق ولا في الغرب، وسوف يجري استخدامها خلال المرحلة المقبلة. أوكرانيا من ناحيتها لم تشأ أن ينتهي العام دون شَنّ هجمات على الأراضي الروسية ذاتها، وأصبحت كل القفازات في طريق الحرب مرفوعة.
الرئيس الأوكراني زيلينسكي في زيارته إلى الولايات المتحدة سعى وراء توحيد الديمقراطيين والجمهوريين في الكونجرس مضافًا للرأي العام الأمريكي لمواصلة ليس العون للأوكرانيين وإنما لكسب الحرب. في عودته سوف يكون في معيته ليس فقط صواريخ «باتريوت»، قرة عين واشنطن في الدفاع ضد الصواريخ، وإنما تعهد مقدس بتقديم معونات قدرها ٤٤ مليار دولار خلال المرحلة المقبلة. النيات دخلت إلى المرحلة المظلمة، التي يصر فيها كل طرف على الانتصار الكامل والهزيمة الكاملة للخصوم، وفي مثل هذه الأحوال يدفع العالم كله ثمنًا فادحًا.
إذا أضفنا إلى ذلك كله ما قامت بها ألمانيا بزيادة نفقاتها الدفاعية بما مقداره ١٠٠ مليار دولار، وأن اليابان، قليلة الكلام، صدقت حكومتها يوم ١٦ ديسمبر الجاري على استراتيجية جديدة للأمن القومي تزيد الإنفاق الدفاعي وتعزز القدرات الفضائية والسيبرانية والبحرية والبنية التحتية بشكل غير مسبوق، وتتضمن القدرة على شَنّ «هجمات مضادة». الصين تركت كل تحفظاتها على الهجمة الروسية على أوكرانيا وأعلنت عن قيامها بمناورات بحرية مشتركة مع روسيا في أوقات ملتهبة.
وكأن كل ذلك ليس كافيًا، فقد وجّه مجلس الأمن الدولي في ١٥ ديسمبر الجاري تحذيرًا جديدًا بشأن تصاعد التهديدات المرتبطة بنشاط التنظيمات الإرهابية، خاصة «داعش» و«القاعدة»، واعتمادها على التقنيات التكنولوجية الحديثة التي تعزز فرص تنفيذ هجمات إرهابية باستخدام الطائرات المسيرة والحرب السيبرانية والإنترنت في عمليات التجنيد.
في النهاية فإن كاتب السطور ليس متشائمًا بالفطرة، ولكن واقع الخطر من الجلاء بحيث يصعب تجاهله، أو انتظار بشارة تأتي من هنا أو هناك، وإنما لابد من تعريف القوم بأننا مقبلون على عام بالغ القسوة. أيها السادة لا مفر من التفكير والاستعداد والتحسُّب.
نقلًا عن جريدة المصري اليوم
رئيس الهيئة الإستشارية