ألمانيا والأزمة الأوكرانية.. بين ثوابت التاريخ ومتغيرات السياسة
أظهرت الأزمة الأوكرانية أن مخاوف بعض المراقبين من مدى فاعلية التحالف الثلاثي الحاكم في ألمانيا هي قراءة موفقة، وذلك على ضوء التضارب المستمر بين تصريحات مكتب المستشار أولاف شولتس المنتمي إلى الحزب الاشتراكي ومكتب وزيرة الخارجية آنالينا بيربوك المنتمية إلى حزب الخضر.
هذا الخلاف الذي ظهر في كافة القضايا الخارجية لبرلين، أوضح أن الخلافات بين الحزب الاشتراكي وحزب الخضر أكبر من أن تظل في الغرف المغلقة. بينما التزم الرئيس الألماني فرانك – فالتر شتاينماير الصمت، وهو الخبير المخضرم في الشؤون الدولية، حيث كان مستشار الشؤون الدولية للمستشار جيرهارد شرويدر ثم وزيرًا للخارجية ورئيسًا للدولة في زمن المستشارة أنجيلا ميركل، ولكن الرئيس شتاينماير –الذي انتُخب لولاية ثانية في فبراير 2022– يدرك جيدًا الصراع الداخلي الذي يواجهه زميله في الحزب الاشتراكي المستشار أولاف شولتس.
الحزب الثالث في الائتلاف الحاكم الحزب الليبرالي قرر أن يُصمت وزراءه، وأن يلعب دور صانع الملوك دون المشاركة في السجالات التي أصبحت شبه يومية بين وزراء الاشتراكي ووزراء الخضر، في طقس غير معتاد على دولاب العمل السياسي الألماني الذي كان دائمًا يتصف بالاستقرار وطول أمد حكوماته.
وموقف جمهورية ألمانيا الفيدرالية في أزمة أوكرانيا وكافة الأزمات القديمة والمستقبلية بين الغرب وروسيا هو موقف معقد مقارنة بكافة دول الغرب أو القارة الأوروبية؛ إذ إن ألمانيا هي الأقرب جغرافيًا لروسيا عن كافة دول صناعة القرار في الغرب. فضلًا عن أنها تعتمد منذ فجر الثورات الصناعية على الغاز والنفط الروسيين، والنهضة الألمانية في القرن العشرين وما تلاها اليوم من صعود ألماني هائل وغير مسبوق منذ مئات السنين يعود إلى توريد الغاز الدائم والمباشر من روسيا الاتحادية.
إلى جانب ذلك، فإن العلاقات التاريخية بين ألمانيا وروسيا أكبر من كافة الدول الأوروبية مع روسيا؛ إذ تزاوج النبلاء من كلا الدولتين، بل أن كاترين العظيمة أهم سيدة حكمت روسيا وجلست على عرش القياصرة ما هي ألا النبيلة والأميرة الألمانية “صوفي فردريك أغسطس ڤون آنهالت زربست دورنبرج” التي تزوجها القيصر بطرس الثالث قبل أن ترث العرش منه وتصنع نهضة روسيا ما بين عامي 1762 و1796 استكمالًا لنهضة القيصر بطرس الأكبر ما بين عامي 1682 و1725.
ويعد العرق الألماني من الأعراق المنتشرة في الدولة الروسية بكل نسخها، سواء الإمبراطورية القيصرية أو الإمبراطورية السوفيتية، ويطلق عليهم “ألمان الفولجا” في إشارة إلى نهر الفولجا، بل أن الاتحاد السوفيتي قد أعطى لـ “ألمان الفولجا” الحكم الذاتي في جمهورية داخل الاتحاد السوفيتي حيث نشأت “جمهورية ألمان الفولجا السوفيتية” ما بين عامي 1918 و1941. ولم يقم المارشال السوفيتي جوزيف ستالين بتفكيك جمهورية الفولجا الألمانية إلا أثناء الحرب العالمية الثانية، على ضوء مخاوف موسكو من اتصال برلين بالجمهورية الألمانية داخل الاتحاد السوفيتي.
وقد اتضح لاحقًا صدق مخاوف رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي ووزير دفاعه المارشال ستالين؛ إذ إن رئيس جمهورية ألمان الفولجا إرنست رويتر Ernst Reuter ما بين عامي 1918 و1919 والذي تتفاخر به موسكو لكونه أول رئيس للجمهورية الألمانية السوفيتية، قد أصبح هو أول عمدة لبرلين عقب قيام جمهورية ألمانيا الغربية بوجه ألمانيا الشرقية الموالية للاتحاد السوفيتي، وذلك ما بين عامي 1947 و1953. وللمفارقة، لم يكن رويتر روسيًا أو ألمانيًا بل من الدنمارك.
هذا التشابك التاريخي الفريد، غير الموجود بين روسيا وأي دولة من خارج المجال الحيوي الروسي، يجعل ألمانيا دائمًا في موقع صعب أثناء الصراع الروسي الغربي. وقد قرر المستشار جيرهارد شرويدر أن تتخذ ألمانيا نفس موقف روسيًا الرافض للغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وحينما خرج من السلطة نقل إقامته إلى روسيا وأصبح من أهم مستشاري الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في إشارة صريحة إلى أن هذا المستشار الألماني قد أدرك ما هي الجهة التي يجب على ألمانيا أن تنحاز لها في الصراع الروسي – الغربي.
المستشارة أنجيلا ميركل عبر ستة عشر عامًا من الحكم وأربع ولايات متتالية، صنعت مبدأ الحياد الألماني، وهو مبدأ جديد على التاريخ الألماني، يتضمن عدم الدخول في الخلافات الامريكية الروسية، ولكنه في واقع الأمر أشبه بنبذ التوصيات الأمريكية، والانخراط في العلاقات الروسية؛ إذ إن برلين في مقابل الحياد السياسي، قد أصبحت بوابة أوروبا الوسطي والشمالية وقريبًا الغربية للغاز الروسي متى اكتمل العمل بخط نورد ستريم الثاني.
ما بين سطور سياسات جيرهارد شرويدر وأنجيلا ميركل، نلتمس مبدأً ألمانيًا ألا وهو تفهم تجربة الحرب العالمية الأولى، وأنه لا يجب على ألمانيا أن تحارب روسيا والعكس صحيح، ففي الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) وقفت إمبراطورية ألمانيا القيصرية بوجه إمبراطورية روسيا القيصرية، وكانت النتيجة أن الحرب حققت للغرب الهدف الذي سعى إليه طويلًا، أي سقوط وتفكيك الإمبراطوريتين.
ودفعت ألمانيا ثمن الحرب العالمية الأولى بتأسيس جمهورية ضعيفة، وثمن الحرب العالمية الثانية بتفكيك ألمانيا إلى دولتين، وثمن الحرب الباردة بدفع مبلغ هائل إلى الاتحاد السوفيتي على سبيل المساعدة بينما كان –وبإشراف وحرص أمريكي– هو ثمن شراء ألمانيا الغربية لألمانيا الشرقية من الكرملين. ولاحقًا دفعت ألمانيا ثمن مشروع الوحدة الأوروبية حينما راحت الخزينة الألمانية اليوم تدفع للدول الأوروبية المتضررة من الأزمة الاقتصادية العالمية (2008 – 2013).
إن للمحور الأنجلوسكسوني غرض دائم يتمثل في عدم قيام إمبراطورية جرمانية انطلاقًا من ألمانيا، أو فرنكوفونية انطلاقًا من فرنسا، أو رومانية انطلاقًا من إيطاليا، أو سلافية انطلاقًا من روسيا. وتفهمت ألمانيا منذ سنوات الحقبة الألمانية القيصرية أن الغرب يسعى دائما إلى استغلال برلين في مقاومة المد الروسي، والعكس صحيح أيضًا في بعض المناسبات، وأن الحل لألمانيا وروسيا هو عدم الصدام وليس التصادم لصالح الحسابات الغربية عمومًا والأنجلوسكسونية –البريطانية الأمريكية– على وجه التحديد.
ثوابت ودروس التاريخ تفرض على برلين الحياد علنًا، مع خالص الامنيات سرًا للروس بالانتصار، لأن برلين -بل عموم أوروبا- لديها قناعة أنه متى فرغت أمريكا من روسيا فإنها سوف تتفرغ لتفريغ أوروبا من قوتها أيضًا، أما متغيرات السياسة فهي غير قادرة حتى اليوم على نبذ حكام ألمانيا لدرس الحرب العالمية الأولى وما تلاها، والانخراط في حرب حقيقية بوجه روسيا.
ولكن المتغير السياسي الجديد في برلين اليوم، ليس الموقف من روسيا، أو حتى مدى القدرة على مقاومة الضغوط الأمريكية من عدمها في ملف التصدي لروسيا أو قطع العلاقات الوثيقة، ولكن هذا المتغير هو تلك الحكومة الائتلافية الثلاثية غير المسبوقة، والتي شكلتها قوى سياسية غير متجانسة لمجرد تجنب الذهاب إلى ائتلاف مع الحزب المسيحي الديمقراطي أو الخيار الأكثر ترجيحًا في مستقبل ألمانيا ألا وهو الذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة.
باحث سياسي



