إسرائيل

السياسات الإسرائيلية للحكومة الجديدة.. “هل انتهى عصر نتانياهو للأبد؟”

تستمر أعمال الحكومة الإسرائيلية الجديدة برئاسة اليميني المتطرف “نفتالي بينيت” للشهر الثالث منذ حلفها اليمين في شهر يونيو الماضي. فما هو حجم ” التغير” الذي شهدته السياسات الإسرائيلية بعد إقصاء “بنيامين نتانياهو” من الحكم الذي استمر 12 عاما؟

تقع على طاولة الحكومة مجموعة من الملفات المعقدة، والمتداخلة في بعضها أحيانا. تركز الورقة على بحث حجم التغيير أو التشابه في الخطوط الاستراتيجية لإدارة هذه الملفات والتفسيرات الملحقة به فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الإسرائيلية.

السياسة الخارجية الإسرائيلية

ترتكز السياسة الخارجية الإسرائيلية على مجموعة من المحددات: أول هذه المحددات هي ضمان تفوق الجيش الإسرائيلي في المنطقة وتعزيز كفاءة أجهزتها الأمنية. ثم يلي ذلك النجاح في دمج إسرائيل في المنطقة تحييدا لعزلتها الإقليمية. بعبارات أخرى: تسيطر عقيدة الأمن على رسم سياسات إسرائيل الخارجية.

يندرج تحت السياسة الخارجية الإسرائيلية مجموعة من الملفات المهمة، يمكن توضيح أولوياتها فيما يلي:

  1. أمن إسرائيل: التهديد الإيراني – الأخطار الأمنية في الإقليم

يحتل التهديد الإيراني رأس قائمة التهديدات الأمنية حسب وجهة النظر الإسرائيلية، خاصة البرنامج النووي الإيراني غير المضمون بتحوله إلى برنامج عسكري موجه ضد إسرائيل، ثم النفوذ الإيراني الإقليمي عبر وكلائها المنتشرين في سوريا، ولبنان، والعراق، واليمن.

أدارت حكومة نتانياهو أزمة الاتفاق النووي إدارة هجومية تصعيدية، حتى مع الولايات المتحدة نفسها خاصة في ظل إدارة أوباما مما تسبب في خلق التوتر بين إسرائيل والحزب الديموقراطي ومؤسسات أمريكية متعددة مثل البنتاجون والكونجرس.

بعد صعود إدارة ترامب، أخذت الإدارة الهجومية لإسرائيل في تعاملها مع التهديد الإيراني هوامش حركة أكبر، فتصاعدت ظاهرة حرب الظل بتنسيق مع الولايات المتحدة؛ بهدف تأخير تقدم البرنامج النووي من خلال الاغتيالات، وتحجيم النفوذ الإيراني في الإقليم، وكان الهدف الاستراتيجي هو نقل محور الصراع إلى الأراضي الإيرانية ذاتها.

لم ينجح نتانياهو كثيرا في إحراز تقدم بارز في الملف الإيراني، باستثناء سرقة الأرشيف النووي من قلب أحد المؤسسات النووية في إيران، وهو ما اعترفت به طهران وعدد من المسؤولين الإيرانيين السابقين. ففيما يتعلق بالبرنامج النووي ذاته فتقدر القراءات الاستراتيجية الإسرائيلية أن إيران على بعد ستة أشهر فقط من امتلاك قنبلة نووية، وهو ما يعني أن التفجيرات الغامضة في المؤسسات النووية وملحقاتها (التي ألمح نتانياهو أحيانا بمسؤولية إسرائيل عنها) لم تحد من قدرة إيران النووية. أما فيما يتعلق بالنفوذ الإقليمي لإيران، فلا زالت الجبهات الجنوبية (غزة) والشمالية (سوريا ولبنان) تشكل ساحات صراع شبه مفتوحة مع إسرائيل.

استخدم نتانياهو في إدارته للأزمة مؤسسات أمنية بحتة، على رأسها مجلس الأمن القومي برئاسة مئير بن شابات، ورئيس الموساد يوسي كوهين (كونه كان قريب من نتانياهو بشكل شخصي)، مع تحييده المجلس الأمني المصغر ووزارة الخارجية بطبيعة الحال.

جعل نتانياهو من التهديد الإيراني سياسة رمزية جامعة في الداخل الإسرائيلي، ملف ذو أبعاد سياسية واجتماعية، وليست أمنية فقط. ظهرت في التلويح بضرب إيران عسكريا بشكل منفرد والترويج لذلك في الداخل الإسرائيلي بهدف التسويق السياسي لحملاته الانتخابية وكسب المعارك السياسية، خاصة أنه يتماشى مع مزاج إسرائيلي عام مائل إلى اليمين بشكل ملحوظ.

إضافة إلى ذلك ما يعتبر نجاحا نسبيا ومحدد (محدد بالدعم الأمريكي في ظل إدارة ترامب) لإسرائيل، وهو “وظيفية العلاقات الإسرائيلية العربية” أي أن ارتبطت سياسة إسرائيل في إدارة الملف الإيراني بسياستها الخارجية تجاه الدول العربية وبالأخص الخليجية التي تحددت بمواجهة إيران في المنطقة؛ ذلك ما يفسر مركزية الإدارة في شخص نتانياهو وهو التوظيف السياسي الإقليمي الذي يهدف إلى طردية العلاقة بين اشتداد الهجوم الإسرائيلي ضد إيران في مقابل المزيد من الاندماج الإقليمي أي مزيد من اتفاقات التطبيع.

تغيرت الإدارة الأمريكية في ظل حكومة إسرائيلية جديدة برئاسة “نفتالي بينيت” مما استلزم إدارة إسرائيلية مختلفة لملف إيران، أهم المتغيرات التي طرأت على شكل الإدارة هي:

(1) شبه تطابق في نهج الإدارة بين الولايات المتحدة وإسرائيل عن طريق التزام الأخيرة بالتنسيق الشامل على المستوى الاستراتيجي.

(2) سد الفراغات المعلوماتية لدى الجانبين بتبادل التقارير الاستخباراتية عبر تبادل زيارات المسؤولين بين الموساد والسي آي إيه الأمريكية.

(3) إدماج كافة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في إدارة الملف مثل المجلس الأمني المصغر، مع تولي الموساد دورا أكبر في إدارة المعلومات الخاصة بالملف يستدل عليه في تولي رئيس جديد للموساد له خبرة طويلة في مواجهة التهديدات الإيرانية “ديفيد برنياع”.

(4) تفعيل دور وزارة الخارجية الإسرائيلية لتقريب وجهات النظر مع الإدارة الأمريكية، وتمرير التحفظات السياسية الإسرائيلية على بنود الاتفاق النووي الإيراني.

أما فيما يتعلق بالأخطار الأمنية على إسرائيل الناتجة عن النفوذ الإقليمي لإيران في المنطقة، فلا زالت يستخدم المنظومة العسكرية في إسرائيل التي لم تتغير قياداتها (بين جانتس وزيرا للدفاع، وأفيف كوخافي رئيسا للأركان) ذات السياسات وهي العمليات العسكرية النوعية في سوريا ولبنان وقطاع غزة، ومناطق بحرية مختلفة؛ لتحييد التهديدات الأمنية أو قطع المد اللوجستي والتكنولوجي الإيراني لوكلائه في المنطقة. مما نتج عنه عدم تغيير في قواعد الاشتباك على الحدود الإسرائيلية.

ويرجع عدم تغير السياسات العسكرية الإسرائيلية إلى عدة عوامل: (1) أهمها عدم التفعيل الكامل لخطة “تنوفا” العسكرية (أو زخم بالعربية). (2) عدم التصديق الميزانية العامة اللازمة لتمويل الخطط العسكرية الإسرائيلية. (3) لا زالت إسرائيل تبحث فرص إقامة خطط غزو برية متعددة الأسلحة.

ولكن من المقدر أن يتأزم التفاعل الإسرائيلي-الإيراني في المنطقة من خلال تصاعد ظاهرة حرب الناقلات في البحر الأحمر وشرق المتوسط، خاصة بعد اشتداد حاجة لبنان إلى الوقود ورغبة حزب الله في نقل النفط الإيراني إلى لبنان عبر الناقلات المتجهة إلى سواحل لبنان وسوريا.

  • الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني

تعتمد إسرائيل على مجموعة من المحددات في سياستها تجاه القضية الفلسطينية، أبرزها هي:

  • القدس الكاملة هي عاصمة لإسرائيل وعدم الموافقة على أن تكون القدس الشرقية عاصمة ذات سيادة كاملة للفلسطينيين.
  • ضم غور الأردن وهضبة الجولان للسيادة الإسرائيلية؛ حتى تكون بحرية طبرية واراضي الشمال جزءا لا يتجزأ من السيطرة الإسرائيلية، كما من أجل فك الارتباط الديموغرافي بين فلسطينيي الأردن (في اقصى الغرب) والفلسطينيين في الضفة الغربية.
  • رفض عودة اللاجئين، وتفضيل توطينهم في البلدان العربية.
  • رفض إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة ومستقلة.

القضية الفلسطينية هي الملف الثاني الذي يشغل الدائرتين الخارجية والأمنية الإسرائيلية. انتهجت حكومة نتانياهو مجموعة من السياسات، وهي:

  • تكريس الانقسام بين فتح وحماس، من خلال تواتر العمليات العسكرية في غزة لضرب قواعد عسكرية تابعة للفصائل الفلسطينية في غزة وعلى رأسهم حماس، ولكن نتج عن التواتر الإسرائيلي العسكري في غزة إلى تقوية رواية المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال فرفع ذلك رصيد حماس السياسي العشبي بين الفلسطينيين. في حين حرصت إسرائيل على التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية مقابل منحها المقاصة الضريبية بهدف تحييد وجود حماس في الضفة.
  • لا يعني ذلك تقوية السلطة الفلسطينية، بل عملت حكومة نتانياهو على إضعاف سلطة فتح والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، تبين ذلك في عدم نقل أموال الضرائب إلى السلطة، وتشجيع الإدارة الأمريكية (إدارة ترامب) على قطع الدعم المالي والدبلوماسي عن السلطة.
  • تقوية السيادة الإسرائيلية في القدس (الشرقية والغربية) من الناحية الأمنية، والسياسية أي فرض السيادة الإسرائيلية عليها، من خلال استكمال المشروع الاستيطاني إي-1 في القدس الشرقية تمهيدا لضمها، وتشجيع إدارة ترامب على نقل السفارة الامريكية إلى القدس الغربية وغلق قنصليتها في القدس الشرقية.
  • شهدت الضفة الغربية أكبر عملية استيطان في تاريخها إبان حكم نتانياهو، بهدف توسيع المستوطنات الثلاثة الكبرى، وقطع الصلة الجغرافية الطبيعية في الضفة الغربية تمهيدا لتحويلها إلى دولة غير قابلة للحياة ضمن أي تسوية سياسية مستقبلية.
  • رفض حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة وتصدير حل الدولة ونصف الدولة الذي ظهر في خطة السلام الامريكية إبان إدارة ترامب، التي منحت الفلسطينيين حكما ذاتيا في الضفة مع نزع السلاح وسيادة اللجان الأمنية والاقتصادية لصالح إسرائيل.
  • تقويض دور الأردن في سيادتها على المقدسات الإسلامية في القدس الشرقية، مما تسبب في إحداث توتر في العلاقات الإسرائيلية الأردنية قادت إلى القطيعة الدبلوماسية. كما يرجع أحد أهم عوامل التوتر إلى رفض الأردن ضم إسرائيل غور الأردن وهو ما يتناقض مع المزاج العام الأردني الذي يعتبره تهديدا للأمن القومي الأردني.
  • دفع مسار التطبيع مع الدول العربية المتضررة من التهديد الإيراني بهدف تصدير التفاعل الإيراني الإسرائيلي وتصويره على كونه صراع وجود في المنطقة وعامل هدم استقرار في المنطقة على حساب الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني مما يتسبب بتذييل القضية الفلسطينية.

اختلفت سياسة الحكومة الإسرائيلية الجديدة في تعاملها مع القضية الفلسطينية، من عدة نواح:

  • تعزيز قوة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، والرغبة الإسرائيلية في مد نفوذ السلطة إلى قطاع غزة. إذ عززت إسرائيل تنسيقها الأمني مع السلطة لضبط الشارع الفلسطيني وإحكام السيطرة، كما زادت من عدد الفلسطينيين المسموح دخولهم والانخراط في سوق العمل الإسرائيلي بنسبة 13%.

وذلك يرجع إلى سعي إسرائيل إلى نشر الحالة الطبيعية (أي العيش الكريم) بين الفلسطينيين من أجل ضبط سلوكهم السياسي سيما وأن الجيش الإسرائيلي يحذر من انتفاضة في الضفة، ولتعزيز قوة السلطة الفلسطينية من خلال عقد اتفاقات اقتصادية ترفع النمو الاقتصادي في الضفة.

  • تتجه إسرائيل إلى تعزيز سيادتها على القدس سياسيا وأمنيا، ولكن ذلك من خلال تعزيز قوة اليمين المتطرف الحركي الذي يتبنى نَظْم الحشود الجماهيرية والنزول إلى الشارع من أجل إثبات القوة والمكانة وظهر ذلك في سماح الحكومة بإحياء مناسبات دينية وقومية يحييها حركات يمينية اجتماعية-سياسية.

ترجع تلك الظاهرة إلى عاملين اثنين: (الأول) حاول نتانياهو قبل الانتخابات الأخيرة بأشهر أن يعزز من نفوذ اليمين الحركي في إسرائيل وبالتحديد حركة لاهافا ولا فاميليا، وساهم في الدفع بمؤسسي تلك الحركات بتشكيل أحزاب وخوض الانتخابات العامة لدخول الكنيست.

(الثاني) رئيس الحكومة الحالية “نفتالي بينيت” قريب من التيار اليميني القومي المتطرف مما يبرر دعمه لهذه الحركات. كما يستغلها في تعزيز سيادة إسرائيل على القدس بالشكل الذي يضمن عدم إثارة استهجان أحزاب الوسط واليسار وبالتالي إمكانية تفكك الحكومة.

  • لم تعد إسرائيل تجاهر بتكريس الانقسام بين فتح وحماس، بل تسعى إسرائيل لعقد هدنة طويلة الأمد مع غزة من أجل أن تتخلى حماس عن المقاومة وتسليم السلطة إلى السلطة الفلسطينية.
  • هناك تيار داخل الحكومة الإسرائيلية يتزعمه وزير خارجيتها “يائير لابيد” يؤمن بأهمية حل الدولتين، ولكن يستبعد إمكانية الدخول في تسوية سلام في الوقت الحالي.
  • تسعى إسرائيل إلى تقوية علاقاتها مع الأردن ودفعها إلى عقد اتفاقات ثلاثية بين إسرائيل والأردن والسلطة الفلسطينية لضبط شكل السيادة الإسرائيلية على غور الأردن.
  • لا زالت الحكومة الإسرائيلية الحالية تتبنى السياسة الاستيطانية في الضفة الغربية؛ لعدة عوامل من أهمها هو تسكين الرأي العام الحريدي بهدف (أولا) فك الارتباط بينه وبين نتانياهو زعيم المعارضة وبالتالي تتمتع الحكومة الحالية بمعارضة غير متماسكة حتى وإن ضعفت مؤشرات ذلك في الوقت الحالي. (ثانيا) ضمان التماسك الاجتماعي في إسرائيل، إذ تبدى في أزمة جائحة كورونا انقسام المجتمع الإسرائيلي إلى فريقين يتهم كلاهما الاخر بشأن المتسبب في نشر الفيروس، وكان على الحريديم النصيب الأكبر من الاتهامات.
  • تقع الحكومة الإسرائيلية الحالية في معضلة مؤداها أنها ترغب في نزع رواية المقاومة عن حماس وحزب الله وفي ذات الوقت الحفاظ على قواعد الاشتباك مع وكلاء إيران في المنطقة. ظهر ذلك في سرعة الهدوء الأمني بين إسرائيل وحزب الله في 6 أغسطس 2021، كما ظهر في عدم رد الجيش الإسرائيلي على حادث إطلاق الصواريخ من حماس صوب مستوطنة سديروت في 16 أغسطس.

ترجع أسباب هذا النهج إلى (أولا) رغبة إسرائيل في عدم حيد بوصلتها الأمنية والسياسية عن الهدف الحقيقي وهو إيران، وعدم انصرافها في حروب تكتيكية إقليمية مع وكلاء إيران على حدودها الشمالية والجنوبية. (ثانيا) تفكيك رواية مقاومة الاحتلال عن وكلاء إيران بالتحديد حماس وحزب الله، والترويج لرواية مضادة مؤداها أن الوكلاء هم فواعل سياسية تقود أقاليمها إلى حسابات إقليمية غير وطنية تجر شعوبها إلى الفشل.

ولكن تقع المعضلة أيضا أن هذا النهج هو عملية طويلة الأمد لن تخرج آثارها بشكل آني وإنما ستأخذ وقتا طويلا لتبيان آثارها. في ذات الوقت وفي حالة تواتر الاستفزازات الصادرة من حماس وحزب الله على إسرائيل دون رد من جيشها فإن ذلك سيرفع من درجة الاستياء في المزاج العام الإسرائيلي الذي تشغله المسائل الأمنية كدرجة ثانية بعد المسائل الصحية والاقتصادية الناتجة عن أزمة كورونا.

  • الاندماج الإقليمي (التطبيع)

يعد أحد أبعاد الطموح الإقليمي الإسرائيلي في المنطقة هو الاندماج بين الدول العربية على المستويات الاستراتيجية الشاملة، أولى مراحل الاندماج هو تطبيع العلاقات السياسية والدبلوماسية الرسمية مع الدول العربية.

لا زالت تسيطر العقيدة الأمنية على فلسفة الاندماج الإقليمي الإسرائيلي في المنطقة العربية أو حتى دوائر خارجية أخرى مثل أفريقيا وآسيا. ويعني ذلك أن إسرائيل توظف الأمن في تقريب العلاقات ومن ثم تطبيعها، وتستند في ذلك على معرفة تهديدات الأمن القومي التي لدى الطرف المقابل.

يظهر ذلك بقوة في التقارب الإسرائيلي-الافريقي، كما يظهر في الاتفاقات الابراهيمية الموقعة بين إسرائيل والدول العربية الأربعة (الامارات والبحرين والمغرب والسودان)، حتى وإن كان بدرجة قليلة في السودان، لكن لم تخل المباحثات الإسرائيلية مع السودان على المستوى الأمني والعسكري.

تتمثل عوامل نجاح نتانياهو في الحضور الإقليمي النسبي هو دعم الإدارة الأمريكية التي وافقت على الانسحاب من الاتفاق النووي وتبنت نهجا تصعيديا مع النظام الإيراني مما خلق بيئة تفاعل صراعية في المنطقة قوضت كثيرا من معادلة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، فكانت الحاجة لإنشاء تكتل إقليمي مع إسرائيل.

يبقى نجاح نتانياهو في الملف نسبيا يتمثل فقط في رسمية العلاقات مع الدول الأربعة المشار إليها، مع تأجيل الكثير من المشاريع الاقتصادية والتجارية وحتى الدبلوماسية مثل فتح السفارات. فقد تأجل مشروع إنشاء صندوق استثمارات إسرائيلي إماراتي، كما أعيد النظر في مشروع إقامة خطوط أنابيب من الإمارات إلى إسرائيل.

أما مسار الملف في ظل الحكومة الجديدة، فيمكن القول إنه لم يحظ بنفس القوة الإعلامية والتحرك السياسي النشط في إيجاد فرص جديدة لتطبيع العلاقات مع الدول العربية. يرجع ذلك إلى عدة عوامل، أهمها: (أولا) انحسار الدعم الأمريكي في ظل الإدارة الجديدة بدرجات قليلة، حتى وإن صرح مسؤولي البيت الأبيض أنهم داعمين لاستكمال مسار التطبيع في الشرق الأوسط. (ثانيا) الاتجاه الأمريكي الصاعد لاستعادة الاتفاق النووي مع إيران وإشراك الدول الخليجية في تقريب وجهات النظر من أجل صياغة بنود تحفظ أمنهم الإقليمي. (ثالثا) عدم تحقق وظيفية العلاقات الإسرائيلية العربية فإذا كانت وظيفة التطبيع هي الوصول إلى أفضل معادلة للأمن الإقليمي بحضور من الولايات المتحدة، فالمؤشرات لا تعكس ذلك فالواقع يقول إن هناك تحركات فعلية من البنتاجون بتخفيض قوات في الخليج وسحب منظومات عسكرية، وهو ما يتعارض مع المصلحة الخليجية. (رابعا) تدرك بعض الدول الخليجية إلى حاجتها إلى صياغة عقد اجتماعي جديد وهندسة مجتمع تلائم التطور الجديد للعلاقات العربية الإسرائيلية. (خامسا) لا زال مفهوم الصراع في المنطقة العربية يتركز على التفاعل الإسرائيلي-الفلسطيني والقضية الفلسطينية وليس إيران.

لذا لجأت الحكومة الإسرائيلية الحالية وبالتحديد وزير خارجيتها “يائير لابيد” إلى النهج الرأسي في التطبيع، أي تأجيل السعي في البحث عن التطبيع مع دول جديدة وتعويضه بتعميق العلاقات الاستراتيجية الشاملة مع الدول الأربعة المحقق معها التطبيع بالفعل، مثل الإمارات والبحرين والمغرب على وجه التحديد. ظهر ذلك في الزيارات الرسمية الأولى ليائير لابيد في المنطقة كانت إلى الإمارات والمغرب، وتأكيده على بحث إسرائيل سبل تعميق العلاقات المشتركة مع البلدين.

هناك مجموعة من الظواهر في مسألة التطبيع التي عكستها التفاعلات الإيرانية-الإسرائيلية، أهمها هو:

(أولا) حرب الأفكار: سعت المراكز البحثية الإسرائيلية عقد اتفاقات وبروتوكولات تعاون مع المراكز البحثية في الامارات والبحرين على وجه التحديد لمواجهة ما يسمى بحرب الأفكار أو حرب الرواية الإقليمية لإيران في المنطقة.

تشير الدراسات الحديثة إلى أن أولى الدول في نشر الأبحاث وتأسيس مراكز الفكر هي إيران وتركيا وإسرائيل، وتجد إسرائيل مهددا في المراكز البحثية الإيرانية التي يتم توظيفها في نشر الرواية الإقليمية الطموحة لإيران في المنطقة العربية.

(ثانيا) اللعب على التناقضات العربية-العربية: توظف إسرائيل التوتر السياسي بين المغرب والجزائر لنقل محور التفاعل الإيراني الإسرائيلي. عبّر وزير الخارجية الإسرائيلي بعد زيارته إلى المغرب عن قلق تل أبيب من التقارب الإيراني-الجزائري، ربما لا يحمل التصريح مؤشرات حقيقية تستشف مستقبل العلاقة بين الجزائر وإيران. ولكنه يبقى مؤشرا مهما على حركة إسرائيل في بحثها عن ساحات جديدة لنقل محور تفاعلها مع إيران وصرفه على المنطقة، يغذّيه استمرار رفض الجزائر تقريب وجهات النظر مع المغرب.

(ثالثا) استغلال الفراغات الأمنية: تروج إسرائيل لرواية مؤداها أنها لا تفضل انسحابا أمريكيا من الشرق الأوسط لما يستتبعه الامر من ظهور فراغات امنية في الإقليم وربما يتم ملئه بمشاريع إقليمية معادية لإسرائيل، وللمنطقة العربية ككل.

بعد إتمام الاتفاق الابراهيمي بين إسرائيل والامارات والبحرين، سارعت التقارير البحثية والإعلامية في إسرائيل الترويج لإمكانية إقامة مشروع نقل طاقة من الامارات إلى إسرائيل مرورا بالسعودية، تجنبا لمرور الطاقة من الخليج العربي الذي أصبح ساحة تهديدات أمنية إيرانية. كذلك تروج إسرائيل إلى تصاعد أزمة أمن الملاحة في المنطقة العربية خاصة في الخليج العربي وبحر العرب، مرورا بالبحر الأحمر وشرق المتوسط.

وعليه يمكن القول إن قضية انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط (حتى إن غابت مؤشراته) هي قضية لا تهدد إسرائيل بل تمنحها فرصة لتعميق حضورها في الإقليم.

الخاتمة

يمكن تأكيد مجموعة من النقاط الرئيسية، وهي:

  1. تسيطر نظرية الأمن على مجمل سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وتظهر بشكل خاص في سياستها الخارجية التي تحرص على ربط الشؤون الخارجية بالأمن القومي لإسرائيل.
  2. انتهجت حكومة نتانياهو سياسة هجومية في إدارتها لأزمة الاتفاق النووي الإيراني اتسقت مع الإدارة الامريكية حينها (إدارة ترامب). في حين وجود إدارة أمريكية جديدة استلزم من الحكومة الجديدة في إسرائيل إدارة مختلفة للملف. ولكن يبقى أن إسرائيل تروج لنفسها أنها رأس الحربة في المنطقة المناهض لاتفاق نووي غير كامل وللمشروع الإيراني برمته في المنطقة.
  3. خرجت خطة السلام الأمريكية (أو صفقة القرن) في عهد ترامب ونتانياهو واعتبرت خطة سلام وفق الرواية الإسرائيلية بشكل حصري. ورغم رفضها لدى الإدارة الامريكية الجديدة فلا يعني ذلك رفضها لدى الحكومة الإسرائيلية الجديدة برئاسة المسؤول الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل. إسرائيل لا زالت ترى في بنود صفقة القرن الحل الأكثر نجاعة وفعالية لمتطلبات أمنها القومي.
  4. مع سيطرة نظرية الامن على السياسة الخارجية الإسرائيلية فإن إسرائيل ستحرص على نشر محور تفاعلاتها الصراعية مع إيران في أنحاء متفرقة من المنطقة العربية بهدف ترسيخ اندماجها الإقليمي مع ما تسميه الدول السنية المعتدلة.
+ posts

باحث ببرنامج العلاقات الدولية

شادي محسن

باحث ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى