
مشاهد مربكة: حدود الصراع والتعاون في إقليم البحر الأحمر
تتراكم أنماط الصراع والتعاون في منطقة البحر الأحمر لتمنح الإقليم وزنا جيوسياسيًا متصاعدًا، مما يستدعي السؤال “هل تميل المنطقة إلى وصفها إقليم تعاون أم إقليم صراع؟”، من خلال البحث عن المتغيرات الحاكمة لطبيعة تفاعلاته.
أنماط متداخلة
تتسم التفاعلات الإقليمية في البحر الأحمر بتداخل أنماطها بين مؤشرات على الصراع وأخرى على التعاون، يتسق معها أنماط أخرى تبدو توافقية إلا أنها تتحول إلى هجومية عدائية، ويمكن توضيح ذلك فيما يلي:
أولًا: استعراض القوة: تزخر ساحة البحر الأحمر بتدريبات ومناورات عسكرية بين دول المنطقة أو مع دول خارجية ذات صلة. وتبدو أنها مؤشر تعاوني من أجل حفظ الأمن والاستقرار البحري في المنطقة، إلا انها تأتي في سياق التلويح بالقوة وخلق منظومة ردع في مواجهة أطراف إقليمية خارجية، أو في داخل إقليم البحر الأحمر.
يتضح ذلك في المناورات العسكرية التي تقودها السعودية من أجل مصالحها ومجابهة التهديدات الأمنية التي يمكن أن تسببها إيران ووكلاؤها في المنطقة، والتعامل مع سيناريو تحويل البحر الأحمر إلى ساحة حرب ضد ناقلات النفط السعودية. إذ في 21 مارس 2021، أعلنت السعودية عن تمرينين بحريين أحدهما مشترك مع القوات البحرية السودانية والآخر محليًا في مياه الخليج، في إطار رفع الجاهزية وضمان أمن المنشآت البترولية والبحر الأحمر.
كذلك الأمر مع مصر التي تسعى عبر حضورها المتعدد في أشكاله للحفاظ على مصالحها وأمنها القومي في البحر الأحمر، والذي يتمثل في ضمان حرية وأمن الملاحة في قناة السويس وصولًا إلى باب المندب في الجنوب، وتأمين مصالح حلفائها في المنطقة بما يضمن استقرار إقليم البحر الأحمر.
وتشكل ذلك عبر أدوات وظفتها مصر لردع أي تهديدات محتملة أو قائمة بالفعل، من بينها تدشين قاعدة برنيس جنوب مصر التي ينطلق منها أسطول مصر الجنوبي، وتنظيم المناورات والتدريبات العسكرية مع عدد من الفواعل في المنطقة أو خارجها مثل فرنسا وإسبانيا، وكان آخرها التدريب البحري العابر في نطاق الأسطول الجنوبي المصري بمشاركة حاملة الطائرات “شارل ديغول” (14 مارس 2021).
ثانيا: ترسيخ الوجود العسكري: تلجأ أطراف إقليمية في البحر الأحمر وخارجه إلى إنشاء قواعد عسكرية على سواحل البحر الأحمر؛ سعيًا منها لسد فراغات أمنية قد تعرض مصالحها الاقتصادية والسياسية لتهديدات أمنية. ولكن لا تلبث هذه القواعد إلا أن تتحول إلى منصات احتكاك عدائية ضد أطراف أخرى، أو منصات لوجود عسكري نافذ في القارة الأفريقية، بذلك تحول البحر الأحمر إلى ساحة تنافس إقليمية ودولية في آن واحد.
ينعكس ذلك في الاتفاقات الروسية مع السودان لإنشاء قاعدة في بورتسودان (ديسمبر 2020) وهو ما دفع قيادة القوات الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) إلى فتح قنوات اتصال مع السودان لإقناعه بالتخلي عن اتفاقاته مع روسيا والتعاون مع الولايات المتحدة. وكذا تشير التقديرات الأمريكية إلى استغلال الصين لموانئها وقواعدها البحرية لخدمة أغراض عسكرية، وتسليح الموانئ لنفوذ عسكري في الأقاليم منها البحر الأحمر.
ثالثًا: استمرار دورات الصراعات: تشهد التفاعلات داخل منطقة البحر الأحمر ومحيطها حالة من الارتباك والتخبط الناجم عن استمرار الصراعات في عدد من الساحات؛ إذ لا يزال المشهد في اليمن وحالة التصعيد العسكري غير المسبوق بين أطراف الأزمة والذي تصاعد مطلع فبراير الماضي محفزًا لعدم استقرار المنطقة.
وكذا، تمثل الحرب الإثيوبية والصراع تجاه التيجراي مؤشرًا لحالة عدم الاستقرار التي قد تنتقل تأثيراتها وتمتد خارج نطاق إثيوبيا. من ناحية أخرى، لا يزال التعنت الإثيوبي وتجاهل الحقوق المصرية المكتسبة في مياه نهر النيل مقوضًا محتملًا لاستقرار المنطقة، وقد اتضح ذلك في خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي (30 مارس) والذي شدد فيه على أهمية التعاون بشأن التفاوض على اتفاق مُرضٍ لكافة الأطراف، وعليه قد يمثل بقاء الموقف الإثيوبي كما هو عليه تحديًا أمام المنطقة قد ينتهي إلى حدوث اضطرابات قد تربك المشهد.
رابعًا: التباين في الترتيبات السياسية الجماعية: شهدت منطقة البحر الأحمر عددًا من التكتلات المختلفة والتي توافقت بشكل أساسي على أهمية حماية الملاحة وحفظ الاستقرار في البحر الأحمر، إلا أنها تباينت في آلياتها، ما مثل تحديًا يحتاج للتعامل معه. فعلى سبيل المثال، وفي ظل الأزمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران والتي تصاعدت عام 2019 ومع استمرار التهديدات الإيرانية لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها، برز في تلك الفترة عدد من المبادرات التي تستهدف الأمن الجماعي وفي القلب منه البحري.
فطرحت الولايات المتحدة رؤيتها حول تدشين تحالف دولي ذي طبيعة عسكرية لتعزيز أمن الملاحة (9 يوليو2019)، في الوقت ذاته عرضت موسكو مبادرة للأمن الجماعي في منطقة الخليج (23 يوليو2019)، ورأى عدد من الدول الأوروبية أن بإمكانه حماية سفنه البحرية في الخليج دون الدخول في تحالفات بعينها. وعليه يظل هذا التباين رغم دخول التحالفات والتكتلات القائمة في البحر الأحمر مرحلة أكثر تطورًا وتكاملًا أحد التحديات في ظل حسابات متشابكة ومعقدة من الأطراف أصحاب المصالح.
تحديات تزيد الساحة تعقيدًا
أولًا: بروز الفواعل من غير الدول: يمثل هذا النمط تهديدًا رئيسًا لأمن البحر الأحمر، خاصة فيما يرتبط بجماعة الحوثي؛ فمنذ سيطرتها على الساحل الغربي وتزايد نفوذها في ميناء الحديدة، ارتفع منسوب الخطر والتهديدات التي يمكن أن تؤثر على استقرار البحر الأحمر، خاصة بعدما أعلن الحوثيون في أكثر من مناسبة قدرتهم على تهديد الملاحة في البحر الأحمر، ومنها تهديد رئيس المجلس السياسي الأعلى للحوثيين (يناير 2018) الذي أكد إمكانية قطع طريق الملاحة في البحر الأحمر.
الأمر ذاته ظهر خلال أحد بيانات الحوثيين (يوليو 2017) والذي أكد أن الحوثي لدية القدرة على تحويل البحر الأحمر إلى ساحة حرب. وكذا ظهر من خلال عمليات زراعة الألغام البحرية واستهداف ناقلات للنفط السعودية والإماراتية في أكثر من مناسبة واحتجاز سفن على غرار ما حدث في نوفمبر 2019 عندما قام الحوثيون باحتجاز ثلاث سفن في البحر الأحمر (نوفمبر2019)، علاوة على استمرار الأزمة المتعلقة بتوظيف الحوثيين للسفينة “صافر” في مساومة وابتزاز المجتمع الدولي وما يمكن أن تفرزه من تداعيات بيئية وتداعيات على الملاحة في البحر الأحمر.
ثانيًا: تهديدات الإرهاب والقرصنة: تظل حالة السيولة وعدم الاستقرار وضعف مؤسسات الدولة خاصة في منطقة القرن الأفريقي أحد مهددات الأمن البحري، خاصة في ظل توافر البيئة الحاضنة للتنظيمات والجماعات الإرهابية. فعلى سبيل المثال يشكل تنظيم الشباب الصومالي مصدرًا لعدم الاستقرار البحري في ظل مساعيه لتوظيف الموانئ في مقديشيو كمصدر للتمويل وتأمين العائدات اللازمة لاستمرار نفوذه وتمويل عملياته وهجماته.
من ناحية أخرى تشكل القرصنة البحرية مقوضًا للحالة الأمنية والاستقرار بشكل عام، فوفقًا لعدد من التقارير فقد شكلت القرصنة الصومالية في خليج عدن وجنوب البحر الأحمر تحديًا أمام التجارة العالمية في المنطقة، إذ سجلت الفترة من 2010 حتى 2014 نحو 350 محاولة هجوم على سفن تجارية.
ختاما، يمكن القول إن متغيرين رئيسين يسيطران على إقليم البحر الأحمر، وهما (1) هيمنة البيئة الأمنية على تفاعلات الإقليم خاصة بين الأطراف الخارجية بما فيها القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين. (2) تزايد الفواعل المنخرطة في الإقليم سواء كانت من الدول أو من دون الدول؛ ويمكن إرجاع ذلك إلى الأهمية الاستراتيجية والجيوسياسية للبحر الأحمر، بوصفه عصب الاقتصاد العالمي ويمر من خلاله ما يزيد عن 10% من البضائع.
ولكن رغم تصاعد المؤشر الأمني والعسكري في المنطقة، فإن ذلك لم يدفع الإقليم إلى ترتيب وضع أمني ناضج يمكن أن ينظم شكل التفاعلات في البحر الأحمر. ويمكن أن نرجع ذلك إلى عاملين: (1) اتساع حدود الإقليم ليشمل دولًا غير مشاطئة على البحر الأحمر مثل إسرائيل واثيوبيا. (2) اندلاع الصراعات السياسية بين دول المنطقة التي تحول دون إنجاح المبادرات السياسية.