
مصطفى البشتيلي زعيم ثورة 20 مارس 1800
تنقل لنا كتب التاريخ بطولات محمد كُريم حاكم الإسكندرية في التصدي للغزو الفرنسي ومحاولة كسر جيش نابليون بونابرت وكيف أُعدم في 6 سبتمبر 1798 بقرار من نابليون. أو كيف قام الشيخ عمر مكرم بتنظيم الثورة الشعبية عام 1805 بحق خورشيد باشا الوالي العثماني من أجل خلعه وتنصيب محمد على باشا، إلى جانب تخليد الزعماء أحمد عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول، ولكن من النادر أن نقرأ عن زعماء ما قبل تلك التواريخ.
وفى حقبة الحملة الفرنسية ظهر اسم المناضل مصطفى البشتيلي الزيات، وهو من أثرياء وكبار أعيان القرن الثامن عشر، حتى أصبح رغم صغر سنه يتقلد مكانة “شاهبندر التجار” في منطقة بولاق (بولاق أبو العلا اليوم) التي كانت تعج بالتجارة والصناعة وقتذاك، وتقلد تلك المكانة لما عُرف عنه من أمانة وسمعة طيبة، ودقة في العمل جعلت وكالته لتجارة الزيوت من أهم المقاصد التجارية في القاهرة.
وقد انضم البشتيلي إلى المقاومة الشعبية ضد الغزو الفرنسي قبل أن تظهر عليه أمارات الزعامة والقيادة. ولما نجح الفرنسيون في السيطرة على مصر لم يهدأ، رغم أن الكثير من تجار مصر قد هادنوا سلطة الاحتلال الفرنسي من أجل تسيير أعمال تجارتهم وعدم توقف العمل اليومي في وكالاتهم، إلا أن التاجر الثري البشتيلي خزن البارود في براميل الزيت وبدأ يدعم المقاومة المسلحة ضد الجيش الفرنسي، إذ شارك في ثورة القاهرة الأولى وكان قائدًا ميدانيًا للثوار دون أن يعرف الفرنسيين هويته.
ولم يسقط البشتيلي بسبب قوة التحريات الفرنسية ولكن بسبب وشاية جيرانه الذين أبلغوا سلطات الاحتلال بتخزينه للبارود في وكالاته، وبالفعل زُج به إلى السجن في أغسطس 1799 لبضعة أشهر، قبل أن يتم الإفراج عنه في عفو أطلقته سلطات الاحتلال على أمل تحسين صورتها أمام الشعب الغاضب.
نجحت جهود البشتيلي والمقاومة المصرية في إشعال ثورة القاهرة الثانية في 20 مارس 1800، حيث قاد التاجر الثري فرقة من المقاومة اجتاحت معسكرات الاحتلال الفرنسي وقتلت بعض الجنود بعد اشتباك بالذخيرة الحية، ونهبوا المعسكرات وفتحوا مخازن الغلال الخاصة بالجيش الفرنسي وسلموها للشعب الجائع، قبل أن يتم عمل متاريس عسكرية احترافية حول حي بولاق على ضوء توعد سلطات الاحتلال بالانتقام.
ميزت سلطات الاحتلال منذ اليوم الأول للثورة زعامة مصطفى البشتيلي، على ضوء تحركاته الواضحة العلنية وسط الثوار، كما أن سكان القاهرة تداولوا قصص وحكايات بطولاته في إعجاب، فأصبح اسم “المجاهد الحاج مصطفي البشتيلي” على لسان الأطفال في الشوارع للسخرية من الفرنسيين، كما كان أحمد المحروقي وعمر مكرم والشيخ الجوهري من قادة تلك الثورة، بحسب المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي في كتابه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”.
الجنرال جان بابتيست كليبر، الحاكم الفرنسي لمصر، صاحب التاريخ العسكري الطويل في الجيش البافاري الألماني قبل الجيش الفرنسي، لم يجد حلًا للثورة المصرية ومصطفي البشتيلي إلا عبر نصب المدافع الفرنسية فوق جبل المقطم، ودك حي بولاق بالذخيرة الثقيلة والمدافع حتى قيل إن الحي الشعبي قد تمت تسويته بالأرض وخرج سكانه إلى العراء.
ولم يكتفِ كليبر بقصف حي بولاق، بل قصف أغلب الأحياء القاهرية بالذخيرة الحية رغم حقيقة أنه لا يواجه الا مدنيين تسلحوا بالوطنية وحب مصر، فلم يكن السلاح أو كما أطلق عليه البارود في ذلك الزمن يكفي بطبيعة الحال لهزيمة الجيش الفرنسي الذي يُعدُّ وقتذاك أهم جيش في الغرب، ولكنها عزيمة وروح الشعب المصري التي وقفت حائط صد أمام أقوى جيش في العالم وقتذاك، إذ كانت ذخيرة الشعب المصري قد جمعت من معادن “الحلل” والأبواب المعدنية وحتى موازين أسواق التجارة، حتى اضطر كليبر إلى قصف المدنيين من فوق جبل المقطم.
وبعد الانتهاء من قمع الثورة والشعب المصري حيث يعتبر يوم 21 ابريل 1800 هو آخر أيام ثورة القاهرة الثانية، دخل الجيش الفرنسي كل شوارع وأحياء القاهرة الشعبية من أجل البحث عن مصطفى البشتيلي حتى وجده بعد وشاية من بعض المصريين.
خاف كليبر من إعدام الزعيم الشعبي، على ضوء ما جرى عقب إعدام محمد كريم في زمن حكم نابليون لمصر، وهكذا قرر كليبر أن يسلم مصطفى البشتيلي للرعاع في مناطق معينة في بولاق كانت متضررة من القصف الفرنسي وقد عمل الجواسيس وعملاء فرنسا في تلك المناطق على شيوع الكراهية والبغض للزعيم مصطفى البشتيلي وإشاعة أنه السبب فيما وصل إليه الحال بتجارتهم وبيوتهم حينما “اضطرت” القوات الفرنسية للدفاع عن نفسها وقصف بولاق بالذخيرة الحية!
وعقب تمكين الغل ومشاعر الكراهية من الرعاع والدهماء، تم النطق على مصطفى البشتيلي بمعاقبته بتهمة التجريس وتسليمه للسوقة والغوغاء، وبالفعل تم سحل الزعيم في الشوارع والبصق عليه وضربه بالنعال حتى فاضت روحه على يد من حاول ان يحررهم من الاحتلال الفرنسي!
غرس كليبر والاحتلال الفرنسي في نفوس المصريين منذ ثورة القاهرة الثانية عام 1800 ثقافة قتل والتنكيل بمن دافع عنهم بتهمة أنه من تسبب في خراب حياتهم، وأصبحت ثقافة “التحفيل” و”التجريس” حتى اليوم لا تنال من المعتدي ومعسكر الشر بل تحاول جاهدة أن تنال من أهل الخير والمقاومة والوطنية مثل الزعيم مصطفى البشتيلي.
وما هي إلا بضعة أيام وكان جنرال الجيش الألماني والفرنسي كليبر قد تمت تصفيته بالاغتيال في 14 يونيو 1800 بعد جرائمه بحق الشعب المصري وقصف أحياء القاهرة السكنية بالذخيرة الحية.
باحث سياسي