
الدكتور حمدي عبد الرحمن يكتب : بطرس غالي ومانديلا .. العودة الجذور (١)
في يوم 11 فبراير 1990 جلست مشدودا أمام شاشة التليفزيون مثل مئات الملايين غيري حول العالم لمشاهدة خطاب الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا بعد خروجه من السجن .لم أكن أتصور أبدا أنني سوف أشرف بمصافحته ولقائه هو وزوجته ويني بعدها بشهرين . قررت جامعة القاهرة منح مانديلا درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية أثناء زيارته لمصر في مايو 1990.كان من المفترض أن يلقي عميد الكلية كلمة في مراسم منح الدرجة وبحكم التخصص تمت استشارتي في بعض الأفكار التي تتضمنها الكلمة . وهكذا سنحت الفرصة بحضور اللقاء في جامعتي العريقة.
واقع الأمر ما كان يشغلني هو لماذا حرص مانديلا على زيارة القاهرة فور خروجه من السجن. كانت الاجابة التي دونها هو في مذكراته المنشورة حينما أصر على زيارة مقر الجمعية الأفريقية في الزمالك ولقاء محمد فائق الذي كان مسئولا عن ملف أفريقيا خلال الفترة الناصرية . توجه مانديلا إلى فايق قائلا : آسف لتأخري عن هذا اللقاء 28 عاما. فقد كان من المفترض أن يعود إلى مصر في الستينيات ويلتقي بعبد الناصر ولكن ألقي القبض عليه وظل في السجن لمدة 27 عاما. احتشدت جماهير الطلاب الأفارقة والمصريين حول مقر الجمعية تهتف باسم الزعيم حتى أنه فقد حذاءه بعض الوقت وتاهت منه زوجته ويني.
كانت زيارة مانديلا الأولى لمصر عام 1962 ضمن جولة أفريقية من أجل توفير الدعم المادي والعسكري لحركة التحرر الوطني .بدأت رحلته بتنجانيقا حيث قابل مواليمو جوليوس نيريري. وعلى الرغم من شعوره بالإحباط نتيجة تردد نيريري في توفير الدعم المطلوب إلا أن تنجانيقا أعطته وثيقة سفر مكتوب فيها: هذا هو نيلسون مانديلا مواطن من جنوب أفريقيا ويسمح له بالسفر من تنجانيقا والعودة إليها. وعندما وصل السودان منحه الجنرال ابراهيم عبود جواز سفر دبلوماسي مكنه من استخدامه في استكمال جولته الأفريقية.
ومع ذلك هناك سبب آخر لعودة مانديلا إلى القاهرة عام 1990. فتاريخ مساعدة مصر لحركات التحرر الأفريقي معلوم للقاصي والداني حيث كانت الجمعية الأفريقية في شارع أحمد حشمت بالزمالك تحتضن أكثر من ثلاثين حركة تحرر أصبح ممثليها رؤساء بدولهم بعد ذلك ومنهم سام نجوما وروبرت وموجابي. كما كانت القاهرة تبث من إذاعتها باللغات الأفريقية وتنشر الاخبار والمنشورات عن الشأن الأفريقي وذلك كله بإشراف الخارجية المصرية .حدثني مواليمو حلمي شعراوي أطال الله في عمره كيف تم تشكيل بنك معلومات مصري خاص بالبلدان الأفريقية .فقد تم تدريب جيل جديد من الشباب حيث كانوا يعكفون ليل نهار على متابعة الشأن الأفريقي بما في ذلك صفحات الوفيات والأخبار المحلية. المهم قرأت مقالا في الواشنطن بوست في أعقاب الافراج عن مانديلا أدهشني العنوان : المصري الذي ساعد في الافراج عن مانديلا. ولكن سرعان مازالت دهشتي حينما علمت أن هذا المصري الذي لعب دورا محوريا في الافراج عن مانديلا هو أستاذي الكبير الدكتور بطرس غالي.
على مدى عامين ، بدأ بطرس غالي بالضغط على جميع الأطراف في المفاوضات من أجل التسوية في جنوب أفريقيا . وطبقا لمصادر رفيعة المستوى في وزارة الخارجية الأمريكية كان دور بطرس غالي “محوريا”.
أبقى غالي اجتماعاته مع المسؤولين في جنوب إفريقيا هادئة وعقدها على أرض محايدة في باريس والقاهرة وهراري في زيمبابوي. في البداية ركز على توحيد جهود المؤتمر الأفريقي الجامع وحزب المؤتمر الوطني من أجل العمل معا. استطاع ان يدفع بحكومة جنوب أفريقيا إلى طاولة المحادثات. لم يكتفي بذلك حيث قاد جهود التنسيق مع كبار المسؤولين في “دول المواجهة” ، وهي الدول الافريقية التي قدمت الدعم والملاذ الآمن للناشطين المناهضين للفصل العنصري.
عندما أصبح دي كليرك رئيسًا لجنوب إفريقيا كان يعرف بأنه رجل ذو “أسنان فولاذية” – وهو اصطلاح بلغة الأفريكانرز يعني انه من صقور نظام الفصل العنصري. بيد أن بطرس غالي كان أكثر صرامة. والمثير للاستغراب أنه حينما قام دي كليرك بالخطوة التاريخية الأولى في فبراير 1990 على الطريق نحو القضاء على الفصل العنصري ، لم يتذكر أحد ونحن منهم جهود بطرس غالي .
وللحديث بقية.


