آسيا

لمواجهة التحديات..اليابان تضع استراتيجية جديدة للأمن القومي

في جُملة التغيرات والأحداث الكبرى التي شهدها العالم خلال العام 2022، لم يرد الساموراي الياباني بأن ينقضي هذا العام دون أن يضع بصماته على الخريطة الجيوسياسية؛ فعقب عقود من تبنّي “طوكيو” لدستور سلمي ينبذ الحرب ويُنادي بالسلام؛ شهد يوم 16 ديسمبر 2022 إطلاق الحكومة اليابانية “استراتيجية جديدة للأمن القومي”.  فما أبرز ملامح تلك الاستراتيجية؟ وما هي الأسباب الكامنة وراء هذا التغير؟ وانعكاسات ذلك على القوى الدولية وعلى الأمن الإقليمي؟ هذا ما سنتطرق إليه في السطور التالية. 

السياقات الدافعة

عقب الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، ذهبت اليابان إلى تَّبني “السلمية” دستورًا لها؛ فنص الدستور الياباني على نبذ الحرب والتُوق للسلام؛ وسمح ذلك لليابان بالتركيز على اصلاح الوضع الداخلي، وتحقيق نجاحات اقتصادية متتالية، ما جعل اقتصادها يحتل المرتبة الثالثة كواحد من أكبر الاقتصاديات في العالم، وباتت اليابان واحدة من أكثر الدول استقرارًا في العالم.  

استمر ذلك الوضع لعقود؛ لكنًّ التحديات العالمية الأخيرة، وخاصة الاحتجاجات التي شهدها عدد من المدن الصينية، واستمرار الصراع الروسي الأوكراني الذي بدأ منُذ نهاية فبراير الماضي، فضلًا عن إطلاق كوريا الشمالية لمزيد من التجارب النووية؛ جميعها أمور دفعت اليابان والقيادة السياسية برئاسة رئيس الوزراء الجديد “فوميو كيشيدا” (Fumio Kishida) –وهو واحد من أشد المناصرين للحفاظ على السلام والاستقرار- إلى تبًّني استراتيجية جديدة للأمن القومي، تتناسب مع التهديدات الأمنية في آسيا؛ إذ إن الاضطرابات الحالية خاصة في آسيا سيكون من الصعب مواجهتها عن طريق الدبلوماسية التقليدية، وربما سيتطلب الأمر تدخلًا عسكريًا في أي وقت، خاصة تهديدات كوريا الشمالية التي لا تزال تكسر القواعد الدولية وتقوم بإطلاق الصواريخ الباليستية، والصراع الروسي الأوكراني الذي أدى إلى زيادة الاضطرابات الأمنية والاقتصادية حول العالم، وخطر شن الصين لهجوم على تايوان.

جدير بالذكر أن المتتبع للسياسية اليابانية خلال السنوات الأخيرة يلحظ سعى “طوكيو” الكبير إلى أن يكون لها صوت مسموع على الخريطة الدولية والإقليمية، حيث لم تظهر “الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي” بشكل فُجائي، بل سبقتها خطوات حثيثة، فدأبت اليابان خلال السنوات القليلة الماضية على تعزيز الانخراط، وعقد شراكات اقتصادية في إطار منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وأبرزها الانضمام لاتفاقية “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة””(Regional Comprehensive Economic Partnership) ، واتفاقية “الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ” (Comprehensive and Progressive Agreement for Trans-Pacific Partnership).

وتواصل اليابان كذلك بناء شراكات مُتعددة الأطراف في جميع أنحاء المنطقة، ويشمل ذلك توقيع اتفاقية “الشراكة الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي واليابان (Japan-Eu Economic partnership agreement)، وكذلك تنامي اتفاقيات التجارة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وتعمل اليابان مع حلفائها لتطوير القدرة القتالية؛ فعلى سبيل المثال، شارك أسطولها البحري في مناورات هذا العام مع سفن من الولايات المتحدة وبريطانيا. ووقعت اتفاقية تعاون عسكري مع استراليا في أكتوبر 2022، في أول معاهدة من نوعها، واختلافًا عن اتفاقية الدفاع المُشترك التي أبرمتها مع الولايات المتحدة، ومن المقرر أن تُجري اليابان وأستراليا تدريبات عسكرية مُشتركة؛ استعدادًا لأي صراع مُستقبلي مع الصين.

وعلاوة على ذلك، ترى اليابان في سعى كوريا الشمالية إلى امتلاك صواريخ ذات رؤوس نووية مصدر قلق أمني كبير. ففي أكتوبر 2022، أطلقت كوريا الشمالية صاروخًا متوسط المدى فوق اليابان، ما أجبر “طوكيو” على إصدار تنبيهات إخلاء القطارات ووقفها. وفي هذا السياق، ترى اليابان أن كوريا الشمالية تُشكل تهديدات خطيرة ومُلحة على الأمن الياباني، بسبب وتيرة تجاربها الصاروخية.

السبب الآخر في التحول الجذري لليابان، يرجع إلى التحالف بين روسيا والصين وكوريا الشمالية، فضلًا عن تهديد الصين الصريح حال تحركت اليابان للدفاع عن “تايوان”. وهنا يُمكن القول إن “استراتيجية الأمن القومي اليابانية” تتسق والتحركات اليابانية سريعة الوتيرة، من أجل تعزيز نفوذها بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وذلك عن طريق الانضمام لاتفاقيات الشراكة سالفة الذكر، وكذلك تعزيز مواصلة استثمار مبالغ ضخمة في الإقليم، سواء في شكل استثمار أجنبي مباشر أو مساعدات تنموية، فضلًا عن مواجهة التهديدات المُختلفة والعمل على الاستعداد لها بشكل جيد. 

أبرز ما تضمنته الاستراتيجية الجديدة

تُشير نصوص الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الياباني إلى زيادة الانفاق الدفاعي العسكري بأكثر من 50% في السنوات الخمس المقبلة، وسعيها إلى الحصول على صواريخ متقدمة تُساعدها على ضرب البر الرئيس لأوراسيا. وتركز الاستراتيجية على القوة الجوية والبحرية على عكس الفترات السابقة؛ وذلك لمجابهة طموحات الصين البحرية، والدفاع عن نظام التجارة المفتوح الذي ساعد اليابان على أن تصبح ثالث أكبر اقتصاد في العالم. 

وتنص الاستراتيجية على دعم النظام الدفاعي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة الصين، بالإضافة إلى الاعتراف بأن الولايات المتحدة الأمريكية لن تتمكن وحدها من صد الصين؛ بسبب التزامات تجاه العديد من الحلفاء في أوروبا، والشرق الأوسط، وليس اَسيا وحدها. 

الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الياباني تُضاعف من قدرة الدولة من إنفاقها الدفاعي لشراء أسلحة متطورة، وتطوير صناعة الأسلحة، وتكثيف تدريبات القوات اليابانية. ونصت لأول مرة على إنشاء “قيادة مشتركة دائمة” تكون مسؤولة عن التنسيق بين الفروع البرية والبحرية والجوية للجيشين الياباني والأمريكي. هذا علاوة على نصها على تطوير الامن السيبراني؛ إذ من المتوقع أن تنفق اليابان خلال السنوات المقبلة حوالي 8 تريليونات ين (58 مليار دولار) لتطوير الأمن السيبراني.

مواجهة التهديد الصيني

قبل نشر الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي، كشفت استطلاعات رأي يابانية أن 60% من المواطنين يؤيدون زيادة الإنفاق العسكري، بالإضافة إلى أن بعض المسؤولين في اليابان أصبحوا يتحدثون عن الحاجة إلى مواجهة الصين. ويتفق الدبلوماسيون والمحللون العسكريون على أن سيطرة الصين على تايوان والمياه المحيطة من شأنها إلحاق الضرر بمكانة اليابان العالمية.

ويرى العديد من المحللين أيضًا أن الخطوة التالية للصين بعد السيطرة على تايوان ستكون محاولة السيطرة على “أوكيناوا” اليابانية، فيما يرى بعض الخبراء أن ضم تايوان والمياه المحيطة بها سُيساعد الصين في السيطرة على طرق التجارة الحيوية لليابان. 

ويرى اليابانيون أنه من المحتمل أن يعتمد الدفاع العسكري الأمريكي لـ “تايوان” ضد الصين على القاعدة البحرية الأمريكية في “أوكيناوا”؛ ما يجعل الأراضي اليابانية هدفًا صينيًا مُحتملًا، لكن إذا حصلت اليابان على صواريخ “توماهوك”، فقد تفكر الصين مرتين قبل مواجهة اليابان، لأنه في هذه الحالة قد تدخل اليابان إلى جانب الولايات المتحدة في حرب برية.

ردود الفعل الدولية

● الولايات المتحدة الأمريكية: أكدت دعمها لجهود اليابان المتعلقة بالأمن؛ نظرًا إلى أنها حليف في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، عِلاوة على ذلك، فإن قرار اليابان بمضاعفة التدريبات العسكرية المُشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية سُيضعف من عزيمة الصين، بالإضافة إلى أن الاستثمارات التي ضختها اليابان مؤخرًا في الفلبين، وجنوب شرق آسيا، ستُساعد “طوكيو” على مواجهة تنامي النفوذ الاقتصادي للصين في المنطقة. 

جدير بالذكر أن اليابان تعتمد على الولايات المتحدة الامريكية في معظم أسلحتها المتطورة، ومن المُقرر أن تشتري اليابان طائرات (F-35) أمريكية الصنع لتزويد قواتها الجوية بدلًا من إنتاج طائراتها الخاصة. في السياق ذاته، يرى اليابانيون أنه يتعين على الولايات المتحدة اتخاذ خطوات استباقية لتأمين حلفائها في آسيا؛ لتجنب ما حدث في أوكرانيا، من خلال الإمدادات العسكرية للتأهب في حالة نشوب أعمال عدائية من قبل الصين أو كوريا الشمالية، بالإضافة إلى ضرورة وضع الولايات المتحدة لاستراتيجية اقتصادية بعد توسيع التكامل الاقتصادي مع الدول الآسيوية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. 

● الصين: ردًا على استراتيجية الأمن القومي اليابانية، أوضح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، أنّ تضخيم ما يُسمى بالتهديد الصيني؛ لإيجاد ذريعة للحشد العسكري الياباني، محكوم عليه بالفشل. وانتقدت الصين الاستراتيجية اليابانية ورأت أن وصف الصين بأنها “التحدي الاستراتيجي الأكبر على الإطلاق” يُعد ترويجًا مُتعمدًا لمزاعم “التهديد الصين”، ويثير التوترات الإقليمية.  

● كوريا الشمالية: عقب إعلان اليابان عن مضاعفة إنفاقها العسكري؛ هددت كوريا الشمالية باتخاذ خطوة عسكرية حازمة ضد اليابان. وأضافت وزارة الخارجية في كوريا الشمالية، أنّ محاولات اليابان لاكتساب القدرة على الهجوم المضاد لا علاقة لها بالدفاع عن النفس، ولكنها محاولة واضحة لاكتساب قدرة هجومية استباقية تهدف إلى شنّ ضربات على أراضي أخرى. واتهمت “بيونج يانج” الولايات المتحدة بدعم الطموحات العسكرية اليابانية، وتقويض السلام الإقليمي، مؤكدة أن مثل تلك التحركات تُجبر كوريا الشمالية على استكمال خططها لتطوير أسلحة استراتيجية جديدة. 

● روسيا: اتهمت روسيا اليابان بالتخلي عن سياستها السلمية والاتجاه نحو “العسكرة”؛ وذلك تعقيبًا على الخطة الدفاعية المُقدرة بـ (320 مليار دولار) التي أعلنها رئيس الوزراء الياباني خلال الفترة الممتدة من عام 2023 وحتى عام 2027. وترى روسيا أن اليابان شرعت في تعزيز قوتها العسكرية بصورة غير مسبوقة، بما في ذلك امتلاك القدرة على توجيه ضربات. وأنّ مثل ذلك التحرك سيثير تحديات أمنية جديدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.  جدير بالذكر أن العلاقات الروسية-اليابانية شهدت المزيد من التدهور منذ بداية الأزمة الأوكرانية في فبراير 2022، وما أعقبه من انضمام اليابان لشركائها في مجموعة السبع في فرض عقوبات على “موسكو”.

في الأخير، يُمكن القول إن إطلاق استراتيجية الأمن القومي اليابانية يُعد ضرورة مُلحة للتعامل مع التحديات الأمنية الدولية الراهنة، والتي أظهرت أنّ النهج الياباني مُنذ نهاية الحرب العالمية الثانية بات بحاجة إلى مراجعة؛ وذلك لأن أمن اليابان يرتبط ارتباطًا وثيقًا باستقرار الإقليم (منطقة المحيطين الهندي والهادئ) والعالم، والذي يواجه كثيرًا من التحديات اليوم. ومن غير المرجح أن يؤدي دعم الجيش الياباني إلى العودة إلى السلوك العدواني؛ حيث تعتمد اليابان على الولايات المتحدة الامريكية في معظم أسلحتها المتطورة.

+ posts

باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية

أحمد السيد

باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى