
احتجاجات المزارعين ترفع علم “كالستان”.. ماذا يجرى في الهند؟
شهدت احتجاجات المزارعين على القوانين الهندية الجديدة تطورا خطيرا في 26 يناير 2021، حينما رفع المحتجون علم “كالستان” على القلعة الحمراء في “دلهي” عاصمة الهند.
وترمز القلعة الحمراء أو كما يطلق عليها الهنود “لال قلعه” إلى الوطنية الهندية في ضوء قيام امبراطور مغول هندوستان “شاه جهان” ببنائها في القرن السابع عشر، في حين يمثل علم كالستان مطالب السيخ في الهند بإعلان دولة قومية لهم في إقليم البنجاب وأن تستقل عن دولة الهند.
كيف بدأت الاحتجاجات؟

عانت الهند من تخلف القطاع الزراعي عن التطور الصناعي، وهو تخلف صنعه الاحتلال البريطاني بدرجة معينة تكفل له الاستفادة من خيرات للهند دون أن يظفر أهلها بتلك الخيرات، وبحلول عام 1966 أعلنت رئيسة الوزراء انديرا غاندي قيام الثورة الخضراء الهندية، والتحول من عشوائية الريف إلى تقنيات الزراعة الحديثة التي أدت بدورها إلى ثورة صناعية كبرى جعلت الهند قوة اقتصادية هائلة في آسيا حتى اليوم.
ولكن لكل تجربة حداثة معارضيها، وكان أتباع ديانة “السيخ” في إقليم البنجاب شمال غرب الهند هم أشرس معارضي ثورة انديرا غاندي الخضراء ولاحقاً كتب مثقفون سيخ في أوروبا وأمريكا أن تلك الثورة كانت خدمة للتوجهات الاقتصادية النيوليبرالية وشركات متعددة الجنسيات أدت إلى تمليك الأراضي الزراعية الهندية إلى الأجانب، وهي أقوال تفتقر إلى المصداقية على ضوء التوجه اليساري لأنديرا غاندي وتأميمها البنوك الهندية على سبيل المثال.
ولكن نظراً لان إقليم البنجاب يعيش على الزراعة ويعتبر أغلب سكانه من الفلاحيين، ويعتنقون السيخية، اختلف الزعيم الروحي للسيخ مع السيدة غاندي وأعلن رفضه للإصلاحات الزراعية، معلناً اعتصامه مع رفقائه في “اَمْرِيسَتار” او المعبد الذهبي كما يطلق عليه الغرب، وهو المكان المقدس للسيخ في البنجاب او “فاتيكان السيخ”.
وأمرت غاندي باقتحام المعبد المقدس وجرت اشتباكات مروعة سميت بـ مذبحة اَمْرِيسَتار ولم يمر وقت طويل قبل ان يقوم إحدى المتطرفين السيخ باغتيال انديرا غاندي في 31 أكتوبر 1984.
ومع ذلك استمرت الإصلاحات لتنتج التجربة الاقتصادية الهندية الحالية، ولكن مع ترك جرح غائر لدى السيخ، حتى ان سونيا غاندي حينما قادت حزب المؤتمر الوطني الذي تسيطر عليه عائلة غاندي – نهرو للعودة الى السلطة عام 2004، وبعد ان رفض الهنود ان تتولي رئاسة الوزراء لأصولها الإيطالية الكاثوليكية، قد قررت اسناد منصب رئيس الوزراء إلى أبرز الساسة السيخ في الحزب، مانموهان سينج، من أجل ارسال رسالة تصالح للسيخ.
سينج السيخي القادم من البنجاب، ذو السمعة التاريخية كوزير للمالية أنقذ اقتصاد الهند عام 1991، في أسابيعه الأولى بالسلطة عام 2004 قال إن الهند بحاجة إلى ثورة خضراء ثانية، وفى انتخابات 2014 خسر حزب المؤتمر الوطني الانتخابات أمام “حزب بهاراتيا جاناتا”، الذي يقوده “ناريندرا مودي” زعيم تيار “القومية الهندوسية الجديدة” في الهند والذي شكل الوزارة الهندية منذ عام 2014 وجدد انتصاره على حزب آل غاندي – نهرو عام 2019.
بحلول عام 2015 جدد مودي مصطلح سينج بان الهند بحاجة إلى ثورة خضراء ثانية، ويعتبر هذا العام هو عام إطلاق تلك الثورة، حيث راحت القوانين تتقاطر واحد تلو الاخر عبر البرلمان الهندي، الى ان تم إقرار ثلاث قوانين في سبتمبر 2020 تنظم فوضى الإنتاج غير الرسمي او الاقتصاد المواز، وفوضى التجميع والنقل، وفوضى فرض الحكومات الولايات لرسوم على المزارعين والتجار ومنصات التجارة الالكترونية، الى جانب إيجاد آلية لتسوية المنازعات الخاصة بالفلاحين.
ولكن الفلاحين في إقليم البنجاب رفضوا القوانين الثلاث، وقد استبقوا تلك الإجراءات عبر التظاهر في 9 أغسطس 2020 الذي يعد اليوم الأول لاضطرابات شعبية لا تزال جارية في الهند حتى الان.
ونظمت نقابات المزارعين ولاحقاً انضم إليهم نقابات النقل سلسلة من الاضطرابات والاضرابات، بدأت في البنجاب قبل ان يتم تأسيس حركة “ديلي تشالو”، أي “لنذهب الى دلهي” على اعتبار ان المدينة الهندية تكتب دلهي ولكن تنطق ديلي، وبالفعل قام الفلاحيين وأصحاب عربات النقل بالسيطرة على عدداً من طرق النقل السريع وإقامة حواجز حول دلهي ولا تزال الاحدث تتوالى حتى الان.
كالستان في ثقافة السيخ

نشأت ديانة السيخ شمال الهند في القرن الخامس عشر، وهم مؤمنون وموحدون بالإله الواحد، وأسسوا لاحقاً دولة خاصة بهم تحت مسمى كونفدرالية السيخ قبل إقامة “إمبراطورية السيخ” ما بين عامي 1799 و1849 قبل اصطدامهم بحكام الهند المسلمين او امبراطورية مغول هندوستان، وقد شملت إمبراطورتيهم أجزاء مما يعرف اليوم بالصين والهند وباكستان وأفغانستان.
رفض حكام الهند المسلمون الحركة الدينية الجديدة وجرى الصدام، حيث تم اعدام بعض القيادات الروحانية، وعلى ضوء ما رآه السيخ من معاناة، ابتكروا مطلب الكالسا او كالستان Khalistan، وهو حماية الضمير والدين وفقاً لتعاليم السيخ بالاستقلال عن الهند وإقامة دولتهم الخاصة، وتعني كالستان دولة الاطهار، وتنطق كالستان وليس خالستان كما تتداول بعض وسائل الاعلام العربية، وبالفعل نهضت إمبراطورتيهم التي لم تسقط الا على يد الاحتلال البريطاني لشبه جزيرة الهند عام 1849.
كالستان في قواميس لعبة الامم
لذا يعتبر مطلب كالستان مطلباً دينياً وليس قومياً فحسب، وحينما أدركت بريطانيا في اربعينات القرن العشرين أنها في الطريق لخسارة الهند، سعت إلى تقسيم هذا الكيان الضخم عبر تحريض المسلمين والسيخ على الانفصال، وقد نجحت مساعي بريطانيا وانفصل المسلمون تحت راية باكستان ثم بنجلاديش، بينما فشلت بريطانيا في إقامة كالستان في الأربعينات قبيل انسحابها من الهند، ولكن لندن قسمت البنجاب بين الهند وباكستان أملاً في إحداث مشاكل مستقبلية.
وفى سبعينات القرن العشرين ومع انتقال مسرح عمليات الحرب الباردة من الشرق الأوسط الى الشرق الأقصى، وبدأ اهتمام الغرب بدور الجوار السوفيتي والسعي الى تصدير إرهاب جماعات الإسلام السياسي الى الداخل السوفيتي عبر أفغانستان وباكستان، جيران الهند، بدأت أفكار استقلال كالستان تعود إلى المسرح الدولي مرة أخرى، وبدأ القوميون السيخ يضعون الخرائط التي تتضمن شمال الهند وبعضاً من ولايات الغرب الصيني إضافة الى البنجاب الباكستاني وليس البنجاب الهندي فحسب، وفى خرائط أخرى يتم إضافة إقليم شانديجار الهندي ايضاً.
وفى الواقع أن فكرة كالستان فكرة مبهمة في كثير من الكتب، فلا يوجد حدود جغرافية واضحة، مع صعوبة المطالب بجغرافيا امبراطورية السيخ قبل الغزو البريطاني، ويشير المؤرخين الى ان ربط البنجاب بالسيخية لم يحدث الا في اربعينات القرن العشرين حينما أدرك السيخ انهم امام دولة هندوسية وأخرى مسلمة وانه عليهم المطالبة بدولة سيخية ايضاً، وحتى اسم الدولة ذاته لا يزال هنالك اختلاف عليه ما بين كالستان وسيخستان.
ادارياً تنقسم الهند الى 28 ولاية و7 أقاليم اتحادية، والبنجاب ولاية لها حكومتها ورئيس وزراء وبرلمان خاص بها، جاجيت سينج تشوهان (1929 – 2007) مؤسس حركة كالستان قال ان رئيس وزراء باكستان ذو الفقار بوتو تباحث معه اثناء الحرب الهندية الباكستانية عام 1971 من اجل المساعدة على قيام كالستان في شمال الهند ولكن هزيمة باكستان في الحرب وتقسيمها قد انهي طموحات بوتو.
بريطانيا استضافت جاجيت سينج تشوهان حيث أعلن قيام دولة كالستان وفتح سفارة لها في بريطانيا وأصدر بعض جوازات السفر وعملة هي دولار كالستان وعين مجلس وزراء وأعلن نفسه الرئيس الأول لكالستان، الى جانب تشكيل مجالس كالستان الوطني على غرار المجالس التي شكلتها حركات الإرهاب المسلح في ليبيا وسوريا اثناء الربيع العربي.
وبالطبع لم يكن لتلك التحركات البريطانية أي إثر يذكر داخل البنجاب الذي ظل ولاية هندية، ولكن بعد الجهود البريطانية والباكستانية في السبعينات جرى الترويج للفكرة حتى أصبح لها اتباع ومريدين داخل طائفة السيخ سواء في الهند او خارجها.
وفى أوائل عام 2018 القت سلطات الهند القبض على تنظيم مسلح في البنجاب، وصرح رئيس وزراء البنجاب – وقتذاك – أماريندر سينج أن التطرف السيخي مدعوم من قبل المخابرات الباكستانية (ISI) و “المتعاطفون مع كالستان” في كندا وإيطاليا وبريطانيا والمانيا، ولم يكن ذلك هو التنظيم المسلح الأول او الأخير الداعم لفكرة كالستان او النشط في شمال الهند خاصة البنجاب، ومع ذلك نجحت الهند في احتواء إرهاب “السيخية السياسية” حتى الان.
ولا تنظر السلطات الهندية الى باكستان باعتبارها الطرف الوحيد الساعي لتقسيم الهند، اذ ان الغريم التاريخي الصين ايضاً يسعى الى تفكيك الهند على ضوء الصراع التاريخي الذي تحول اليوم الى صراع اقتصادي بين أكبر دولتين في العالم من حيث التعداد السكاني، كما ان بريطانيا لا تزال تلعب الدور ذاته الذي قامت به منذ احتلالها الهند بالتواصل مع الأقليات في إطار لعبة فرق تسد، ولا يمكن ان نذكر بريطانيا دون ان نذكر مزاحمة المخابرات المركزية الامريكية للمخابرات البريطانية في كافة مناطق النفوذ البريطاني السابق.
انديرا غاندي اتهمت المخابرات الامريكية عام 1984 – قبل اغتيالها – بالعمل على دعم الجماعات الانفصالية الكالستانية السيخية، وفى الثمانينات تحدثت أصوات هندية عديدة عن معسكرات في بريطانيا وباكستان تعمل على تدريب “المجاهدين السيخ” لمهاجمة الدولة الهندية والجيش الهندي.
الجاليات السيخ حول العالم تدخلت على الخط بشكل أحدث بعض الازمات الدبلوماسية، اذ ان وزير دفاع كندا “هارجيت سينج ساجان” من أصول هندية سيخية، من مواليد البنجاب الهندي عام 1970 قبل ان تهاجر اسرته الى كندا وينخرط في الجيش الكندي ويشارك في حربي البوسنة وأفغانستان ما بين عامي 1989 و2015، وعقب تركه الخدمة العسكرية والتي شملت العمل في صفوف المخابرات الكندية ولاحقاً جهاز الشرطة لمكافحة العصابات، انتخب عضواً في البرلمان عام 2015 ثم وزيراً للدفاع في العام ذاته حتى الان.
هارجيت سينج ساجان الخبير بشؤون الشرق الأقصى عسكرياً يدعم بشكل علني قيام كالستان عبر حسابته الشخصية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد شهدت شوارع كندا حراك سيخي داعم للاضطرابات الهندية، ما بث برودة في العلاقات بين الهند وكندا وظهر ذلك من قبل في الاستقبال الهندي الفاتر لرئيس وزراء كندا الليبرالي جاستن ترودو.
مستقبل الاضطرابات الهندية

يجب الفصل ما بين أزمة المزارعين وبين الانفصاليين السيخ، وذلك بعد أن نجحت الجهود الخارجية في الربط بين الفريقين، حيث تسعى المؤامرة الدولية على الهند لاستثمار الاضطرابات كما جرت العادة، ولا يستبعد حال استفحال الأزمة أن نرى عناوين “الربيع الهندي” على صدر الصحف البريطانية.
تتحرك السلطات الهندية بشكل هادئ لتفكيك الاحتجاجات، ومراقبة حدود بنجاب الهند مع بنجاب باكستان حتى لا يتسلل الإرهابيين المسلحين، كما جرت بعض التنازلات في تعديد نصوص القوانين الثلاث التي ناهضتها الاحتجاجات في نسختها الأولى، وكذا اقتراح بتأجيل تطبيق القوانين الثلاث لفترة انتقالية موسعة.
وعلى ما يبدو أن نمط توظيف غضب المستفيدين من فوضى غياب القوانين في صناعة احتجاجات ذات طابع سياسي هو نمط شائع لصناع الفوضى والاضطرابات الدولية، وما يجرى اليوم في الهند إشارة واضحة الى وجود استراتيجية ممنهجة للتحرك وسط تلك المشاعر الغاضبة لتنفيذ اهداف الاجندات الغربية.

باحث سياسي



