مقالات رأي

محمد أبو الفضل يكتب : اختبار عملي للحكومة الليبية

اجتاز رئيس الحكومة الليبية الانتقالية عبدالحميد الدبيبة عدة اختبارات خلال الأيام الماضية، أبرزها نجاحه في تشكيل مجموعة وزارية متآلفة نسبيا من مختلف ربوع البلاد، وحصوله على موافقة مجلس النواب، وأداء اليمين الدستورية أمام البرلمان في طبرق، وصولا إلى تسلمه مقاليد السلطة بسلاسة الثلاثاء من سلفه فايز السراج.
تبين هذه المحطات أن الرجل انتهى من الترتيبات النظرية، وتمثل الشق السهل في مهمته، وعليه الشروع في الخطوات العملية التي تقود البلاد إلى إجراء الانتخابات في ديسمبر المقبل.
ولا يتبقى الكثير من الوقت لتضييعه في مناورات أو تربيطات وتحالفات، وعليه التعامل مع التحديات التي ورثها عن الحكومة السابقة، ويقوم بتفكيكها تدريجيا، ويبدد كل الهواجس حيال إمكانية التأقلم معها.
نجح الدبيبة في توصيل إشارات توحي بالثقة في حكومته مبكرا، وابتعادها عن المحاصصات الفجة وابتزاز بعض الجهات المناطقية، وأوجد انطباعات إيجابية بامتلاكه مروحة سياسية واجتماعية واسعة تمكنه من التفاهم مع جميع القوى الوطنية، حيث يراعي حسابات الجغرافيا السياسية وضوابطها جيدا، وتعد أحد مفاتيح تجاوز العقبات الراهنة، والتخلي عنها قد يدخله في دوامة من التوازنات الصعبة.
دخل الرجل مقر حكومته وسط ترحاب، وحصل على الصكوك الدستورية بنعومة، متفاديا أحد أهم العراقيل التي شككت في شرعية حكومة الوفاق السابقة، وهي عدم حصولها على موافقة البرلمان حتى رحيلها نهائيا.
ولم تفلح كل محاولات إضفاء الشرعية الدولية عليها في محو هذه الثغرة التي تحولت إلى منغص قلل من قيمة الاتفاقيات والتفاهمات العسكرية والاقتصادية والبحرية التي عقدها السراج مع تركيا.
ربما يكون تباين الظروف السياسية بين الحكومتين لعب دورا في تفسير إخفاق الأولى في الحصول على موافقة البرلمان ونجاح الثانية في ذلك، لكن المؤكد أن التطورات التي جاء فيها الدبيبة وحكومته كانت مواتية وتعمل لصالحه محليا وإقليميا ودوليا، ما يفرض عليه استثمار هذه الميزة الكبيرة التي سوف تمكنه من تخطي الكثير من المطبات إذا استوعب المعنى الذي تنطوي عليه عبارة الأجواء المواتية.
على الصعيد المحلي، لم يواجه الرجل بحالة واسعة من الاستنفار، وجرى تقديم حسن النية في التعامل معه حتى الآن لدى فئات عريضة، أملا في أن تأتي التصرفات منسجمة معها، الأمر الذي يتوقف على استمراره في تبني طروحات تتحاشى عيوب الحكومة السابقة وما أقدمت عليه من ممارسات سافرة أدخلت البلاد في نفق مظلم، كاد يهدد الحفاظ على وحدتها.
مطلوب من السيد الدبيبة أن يخرجها من هذا النفق خلال فترة وجيزة، والاستعداد لمواجهة حاسمة مع جيوش الميليشيات والكتائب المسلحة والمرتزقة الذين تمترسوا في كثير من مفاصل الدولة وأعاقوا حركتها الطبيعية، وسوف يعوقون كل توجهاته الوطنية ما لم يسرع بإنهاء دور هؤلاء ومن يقفون خلفهم من قوى متعددة.
على الصعيد الإقليمي، حصل على مباركة جميع الدول المجاورة، وبدا مناسبا لكثير من القوى التي رضيت بعملية اختياره من قبل الملتقى السياسي أو لم ترض، فقد أصبح ينطبق عليه المثل “ليس في الإمكان أبدع مما كان”، ما يستوجب أن يخلع أي عباءة خارجية التصقت به صوابا أو سهوا.
ومعروف عن الرجل أن له علاقات جيدة مع تركيا، وإذا لم يتخل عن شبكة المصالح التي تعتقد بعض الدوائر أنها تربطه بأنقرة، سيعيد سيناريو السراج الذي خسر دعما إقليميا سخيا عقب إنحيازه تجاه تركيا، التي دخلت ليبيا وهي مربوطة بذكريات تاريخية تعيد استرجاعها حاليا.
تأتي نقطة الاختبار أو المحك الحقيقي من قدرته على الدفع عاجلا نحو خروج القوات التركية من البلاد ومعها فلول المرتزقة الذين دخلوا ليبيا خلال العامين الماضيين، واعترفت الأمم المتحدة بأن عددهم وصل إلى نحو عشرين ألف عنصر، وعليه تبديد الرواسب السلبية التي خلفها تصريحه السابق ببقاء الاتفاقيات مع تركيا كما هي.
قد يحتاج تحلل الدبيبة من العلاقة مع تركيا والتخلص من قيودها بعض الوقت لترتيب أوضاعه السياسية والأمنية، وهو ما لن يكون مقبولا من المواطنين، لأن المدة التي سوف يمضيها في رئاسة الحكومة لن تتجاوز حوالي تسعة أشهر، وأي إخفاق في هذه المسألة سيقدم صورة غير ودية عنه، خاصة أن هناك غضبا عارما من ممارسات وتدخلات أنقرة السافرة في ليبيا.
على الصعيد الدولي، يحظى الدبيبة بتأييد كبير من قوى كبرى ومؤثرة، ما يمكنه من التعامل بصرامة مع الملفات الشائكة التي تعرقل تصويب المسارات الخاطئة في الدولة، مثل تنامي نفوذ تركيا العسكري وتغلغل المرتزقة والميليشيات، وعمق مراكز القوى الأمنية والاقتصادية، والفساد الذي تحول إلى مؤسسة بحاجة لجهود جبارة.
أصبحت هذه الملفات في مقدمة القضايا التي تؤرق الشارع الليبي برمته، وكل خطوة نجاح تتحقق تصب في صالح الدبيبة الذي يمكن أن يتحول إلى الرجل الضرورة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، وتتم المطالبة باستمراره على رأس الحكومة التنفيذية بطريقة قانونية، أي من خلال انتخابات شرعية، وعدم البقاء في السلطة بحكم الأمر الواقع، كما فعل سلفه، فما تم القبول به في أثناء ولاية السراج بات من الصعب تكراره.
لن تكفي التصريحات الوردية في تخطي الأزمات الراهنة التي تعرقل خلاص الدولة من نفوذ الميليشيات، فكل خطوة نحو تقويضها تثبت مكانة رئيس الحكومة في عقول وقلوب الشعب الليبي الذي يتوق لرؤية بلده مستقرا مستقلا، وتمارس المؤسسات الموحدة عملها في هدوء.
تقود رسائل التطمين التي بعث بها إلى منحه فرصة لتنفيذ أجندته الوطنية، كما أن الإنقلاب على فحواها لأي سبب يفضي إلى حدوث مشكلات أشد صعوبة مما وجده السراج نفسه، لأن حكومة الدبيبة يعول عليها الناس في خروج ليبيا من عنق الزجاجة، وربما تكون آخر محاولة لإعادة الأمن والاستقرار والحفاظ على أسس الدولة الموحدة، ولا مجال للتعثر أو البحث عن تفسيرات لتبرير الإخفاق.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى