
لم يستبعد الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، تخيل قيام تحالف عسكري بين روسيا والصين، وهو الأمر الذي أثار العديد من علامات الاستفهام. وجاءت تصريحات “بوتين” خلال الجلسة الأخيرة للاجتماع السنوي السابع عشر لنادي “فالداي للحوار” والذي أنعقد في 22 أكتوبر 2020، قبل عِدة أسابيع من الانتخابات الرئاسية الأمريكية؛ وذلك عندما تم توجيه سؤال له من قِبل أحد الصحفيين، عما إذا كان من الممكن تصور نشوء تحالف عسكري بين روسيا والصين؟؛ جاءت إجابة “بوتين” بأنه من الممكن تخيل أي شيء. رغم أن الجانبين لم يأخذا ذلك بعين الاعتبار بعد.. لكن من حيث المبدأ لا يُمكن استبعاد ذلك”، مضيفًا إن التعاون مع الصين يعزز القدرة الدفاعية للجيش الصيني”، وأن المستقبل قد يشهد علاقات عسكرية أوثق بين البلدين.
ربما هذه هي المرة الأولى التي لا يرفض فيها الجانب الروسي الاحتمال لتشكيل تحالف عسكري مع الصين. كما تأتي هذه التصريحات متوافقة مع سياسات موسكو في السنوات الأخيرة، والتي سعت لاستغلال تقاربها مع بكين لتخويف الغرب من احتمال وجود كتلة صينية روسية؛ بهدف إجبارها على تخفيف سياستها تجاه روسيا.
تحولت روسيا نحو الصين بعد أن أدى ضمها لشبه جزيرة القرم في عام 2014 إلى فرض عقوبات غربية، الأمر الذي تسبب في تدهور علاقاتها مع الغرب إلى أدنى مستوى لها منذ الحرب الباردة.
روسيا تٌعزز شراكتها مع الصين
منذ تحول روسيا نحو الشرق في أعقاب انهيار علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في عام 2014، اتخذت خطوات مهمة لتعزيز شراكتها مع الصين، مع التركيز في المقام الأول على الاقتصاد والأمن.
أدت المشاريع الكبرى مثل بناء خط أنابيب سيبريا ومشاريع الطاقة الأخرى إلى مضاعفة حصة التجارة الصينية تقريبًا في إجمالي حجم التجارة الروسية في أقل من عقد من 10٪ في عام 2013 إلى ما يقرب من 18٪ في عام 2019. كما باعت روسيا أحدث المعدات العسكرية إلى الصين، مثل الطائرات المقاتلة “سوخوي -35″، ومنظومة الدفاع الجوي الروسي “إس 400″، كما أجرى البلدان تدريبات عسكرية مشتركة على نطاق واسع وبشكل متزايد، من بحر البلطيق إلى بحر الصين الجنوبي.
نتيجة العقوبات الغربية على موسكو، أصبحت الصين شريكًا استراتيجيًا لموسكو لا غنى عنه، بينما الوضع على النقيض بالنسبة للصين التي يُمكنها التخلي عن روسيا بسهولة، لأن معظم ما تستورده الصين من روسيا يمكن أن تحصل عليه من أماكن أخرى. حتى الاعتماد الصيني على الأسلحة الروسية بدأ يتضاءل مع تقدم التكنولوجيا العسكرية الصينية.
هل روسيا والصين على استعداد لتشكيل تحالف؟
رغم أن افتراض نشوء تحالف عسكري “روسي- صيني” أمر يُطرح لأول مرة منذ انهيار “معاهدة الصداقة والتحالف بين الصين والاتحاد السوفيتي” في عام 1979، إلا أن تصريحات “بوتين” الأخيرة تردد صداها بشكل كبير في جميع أنحاء العالم، وتصدرت عناوين الصحف بشكل واسع.
ليست مفاجأة أن تأتي تلك التصريحات في هذا التوقيت بالتحديد، فالمتابع للعلاقات الدولية يلحظ أن علاقات بكين وموسكو مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية في أدنى مستوى لها، وذلك منذ أن وحًّدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي جهودهما لاستهداف كلا البلدين بالقيود الاقتصادية حينًا والعزل الدبلوماسي حينًا أخر.
ورغم ذلك، انتهجت الصين سياسة حذرة في الرد على تصريحات الرئيس الروسي، إذ يبدو أن بكين تسعى لتجنب مزيد من التصعيد في علاقاتها المتوترة بالفعل مع الغرب. حيث شددت على أنه “لا يوجد حد للصداقة التقليدية بين الصين وروسيا لكن الالتزامات العسكرية المتبادلة ليست ضرورية”. وهنا تحاول الصين الحفاظ على نموذج التعاون المتوازن مع موسكو والذي يتعزز في كثير من القضايا الأخرى، وفي ذات الوقت تُعطى نفسها مساحة أخرى للحركة لبناء علاقات متعددة الأطراف مع الشركاء الآخرين.
كانت العلاقات بين روسيا والصين توصف دائمًا بأنها علاقة “شراكة” أو “صداقة”، ولكن في الأونة الأخيرة، بدأ يتم استخدام كلمة “تحالف” أو “حليف” من قِبل مسؤولين روس رفيعي المستوى في إشارة لـ “بكين”.
ففي نوفمبر 2020، هنأت روسيا الصين بالإطلاق الناجح لمهمة استكشاف القمر الجديدة “Chang’e-5” مع استخدام كلمات تهنئة من قبيل “حليفنا”، و “رِفاقنا الصينيين”. وعندما اقترح وزير الخارجية الأمريكية “مايك بومبيو” إنشاء تكتل مناهض للصين من الدول الديمقراطية، اعترضت موسكو مُوضحة أن الصين “حليف تتمتع موسكو بشراكة خاصة معه”.
بين عامي (2014 – 2018)، حصلت بكين على تكنولوجيا عسكرية روسية متقدمة (شكلت 70٪ من واردات الأسلحة الصينية)، كما تُشارك في تدريبات عسكرية على الأراضي الروسية، وتطور البلدان بشكل مشترك نظام صواريخ الإنذار المبكر. إذن هناك علاقات ثقة كبيرة في مجالات التعاون الأمني بين موسكو وبكين، وبالتالي لا ترى موسكو أي حاجة عملية لإضفاء المزيد من الطابع الرسمي عليها.
تصف الصين وروسيا علاقاتهما المشتركة بمثابة عامل استقرار في النظام الدولي، يُسهم في تخفيف النزاعات الإقليمية، كما يتشارك الطرفان الانتقاد للأحادية القطبية التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية بالتنسيق مع الغرب.
الدوافع المٌختلفة لتحالف عسكري بين الصين وروسيا؟
سيكون أحد الأسباب الرئيسية لإنشاء تحالف عسكري روسي صيني هو تفادي أي تهديد من قِبل الولايات المتحدة، أو أيًا من حلفائها.
كما أن لكلٍ من روسيا والصين أهدافه في إنشاء تحالف عسكري، على سبيل المثال، الصين محاطة بمناطق ساخنة: كالنزاع الإقليمي مع اليابان، والنزاعات على جزر في بحر الصين الجنوبي، واحتمال حدوث صدام في مضيق تايوان، فضلاً عن النزاعات التي شهدتها الحدود الصينية اليابانية في الأشهر الأخيرة الماضية. كما تُخطط الصين لاستكمال عمليات تحديثها العسكري بحلول عام 2035، وتُخطط أيضًا لأن تصبح قوة عسكرية كبرى بحلول عام 2049، وهو ما يتواكب مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية الصينية. وهذا ما أعلن عنه الرئيس الصيني “شي جين بينغ” في خِطابه للذكرى السبعين لحرب مقاومة العدوان الأمريكي ومساعدة كوريا من قبل الصين. موضحًا أن جيش قوي من الطراز الفريد من شانه أن يوفر “الدعم الاستراتيجي” لنهضة البلاد.
وإذا ما انخرطت الصين في تحالف عسكري مع روسيا فإن ذلك سيُعد تغييرًا جوهريًا في سياسة بكين، وهي التي فضلت دائمًا عدم الانضمام إلى أي تحالفات عسكرية، وسعت لحل جميع النزاعات “بالوسائل السياسية والدبلوماسية”، وهي الصيغة التي كسبت بها بكين الكثير من التعاطف حول العالم.
أما فيما يتعلق بروسيا فإن تحالفًا عسكريًا رسميًا مع بكين، سُيكسبها نفوذًا قويًا في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، وسيُمكنها من مواصلة توسعها في المحيط الجغرافي لها.
التحالف العسكري بين موسكو وبكين يطرح كثيرًا من المشكلات
رُبما يعتقد البعض أن نشوء تحالف عسكري روسي صيني غير مُجدي وغير عملي في الوقت الراهن، فهذا من شأنه أن يقيد أيدي الطرفين، كما يعمل على إثارة مخاوف الجيران وخاصة “الهند”، الذين سيضطرون إلى التخلي عن الشراكة مع روسيا والتعاون بشكل أوثق مع الولايات المتحدة الأمريكية.
في سياق آخر، سيطرح مثل هذا التحالف مُشكلات للطرفين، منها على سبيل المثال، من سيكون له اليد العليا في هذا التحالف؟، بالنسبة لموسكو، سيكون من الصعب أن تقبل دورًا ثانويًا لصالح بكين. وهو الأمر ذاته بالنسبة لبكين، فنظرًا للتوسع السريع للجيش الصيني، فمن غير المرجح أن ترتضى بكين لنفسها أن تكون الشريك الأصغر لموسكو في أي تحالف عسكري.
مشكلة أخرى، تتعلق بما يعنيه هذا التحالف؟ ولمن سيتم توجيهه؟ قد يقول البعض إن هذا التحالف يستهدف الولايات المتحدة الأمريكية – أو أي قوة أخرى- إذا ما فكرت في مواجهة أيَا من الدولتين. لكن من غير المحتمل من الناحية العملية حدوث ذلك.
يُمكن التكهن بأنه في حالة عدوان “عسكري” أمريكي على روسيا، فإن الصين ستكتفي بدعم روسيا سياسيًا ودبلوماسيًا، وستمتنع عن المشاركة في الحرب”. وبالمثل ستفعل روسيا ذلك إذا ما فكرت الولايات المتحدة الأمريكية في مهاجمة الصين عسكريَا.
وتفاديًا لهذه المشكلات، رُبما يستمر الطرفان في مواصلة إجراء مناورات برية وبحرية مشتركة، وتبادل التكنولوجيا العسكرية؛ بدلاً من الدخول في تحالف عسكري رسمي، يفتح الباب لكثير من المُشكلات للجانبين. على سبيل المثال، في نهاية عام 2019، أجرت روسيا والصين وإيران تدريبات في خليج عمان، وفي عام 2015 تم اجراء تدريبات مشتركة في البحر الأبيض المتوسط.
- روسيا ليست بحاجة لتحالف عسكري رسمي
تاريخيًا، كان الاتحاد السوفيتي هو الزعيم الفعلي لحلف وارسو، واليوم روسيا شريك مهم في منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)، التي تم إنشاؤها في عام 1992 وتضم ست دول “روسيا وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان”. ويُنظر لروسيا على أنها القوة الرائدة في هذه المنظمة.
كما تنظر موسكو للهند على أنها حليف مهم، رغم أن تصاعد التوترات الأخيرة بين بكين ونيودلهي وضع الكرملين في موقف صعب. كما تجد روسيا نفسها في وضع حرج مع تركيا، لاسيما بعد قيام الأخيرة بشراء منظومة الدفاع الجوي الروسية المضاد للطائرات “إس 400″، والأهم من ذلك أن تركيا لا تزال عضوًا في الناتو. ومن غير المرجح أن يغير الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” الشركاء العسكريين ويتخلى عن الناتو من أجل الانضمام إلى روسيا.
كل تلك الأمور المتشابكة والمعقدة تجعل روسيا تتوخى الحذر في سعيها لقيام تحالف عسكري رسمي مع الصين في الوقت الراهن، حتى لا تفقد حلفائها.
- روسيا لديها تاريخ سيء من التحالفات العسكرية
دائمًا ما كانت روسيا تقف مع الجانب الرابح في أي تحالف عسكري، وذلك منذ تأسيس الإمبراطورية الروسية تحت حكم بطرس الأكبر، وقد أكسبتها هذه التحالفات الكثير من الثقل على الأرض.
إلا أنه، وفي أحيان أخرى، وجدت روسيا نفسها في تحالفات سيئة للغاية. فعندما دخلت في تحالف عسكري مع الإمبراطورية النمساوية، فإنها ساعدت النمسا في حربها ضد المجر عندما قامت الثورة المجرية 1848، وتم سحق الثورة المجرية بفضل التدخل الروسي.
وبعد أقل من عقد من الزمان عندما وجدت روسيا نفسها في حالة حرب مع فرنسا وبريطانيا العظمى وتركيا في حرب القرم، رفض وزير الخارجية النمساوي الأمير “فيليكس شوارزنبرج” (Felix Schwarzenberg) مساعدة روسيا، وقال بشكل صريح “النمسا ستذهل العالم بنكران الجميل لروسيا”
حدث ذلك مرة أخرى عندما تحالفت روسيا مع فرنسا عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، وعندما وجدت روسيا نفسها في حالة حرب مع اليابان، ظلت فرنسا محايدة. وخلال الأزمة البوسنية في 1908-1909، رفضت فرنسا دعم روسيا ضد النمسا وألمانيا.
كانت المصلحة المشتركة التي دفعت الفرنسيين والروس للتعاون هي مصلحة اقتصادية مشتركة في الأساس، حيث اهتمت روسيا بالتصنيع وقدم المستثمرون الفرنسيون رأس المال.
كل تلك الأمثلة التاريخية، تجعل روسيا تتشكك في دعم الصين العسكري لها إذا ما نشبت حرب بين روسيا أو أي دولة أخرى، حينها ستكتفي بكين بالدعم السياسي والدبلوماسي فقط، ولن يندهش أحد من ذلك.
بالنظر إلى جميع العوامل المذكورة أعلاه، يٌمكن القول إن تشكيل تحالف عسكري بين الصين وروسيا يبدو غير مرجح في الوقت الراهن. ويمكن النظر إلى تصريحات الرئيس الروسي على أنها اعتراف بالمستوى العالي للعلاقات بين البلدين، وكذلك تحذير لخصومهما من خطر التقليل من درجة الثقة والتعاون بين البلدين.
موقف الإدارة الامريكية من التقارب الروسي الصيني
لا تتوقع روسيا أي تحسن في العلاقات مع الولايات المتحدة في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة، فالإدارة الديمقراطية تتفق فيما بينها على عِظم التهديد الروسي. وعلى الرغم من الجهود الدبلوماسية الروسية لإثبات التزامها بالسلام العالمي، فإن الغرب لديه تفسير أخر.
كما ساهمت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في توسيع الوفاق بين روسيا والصين. فضلًا عن القضايا المتوترة بين الغرب من جانب وروسيا والصين من جانب أخر، منها القلق الغربي من التوسع الصيني في بحر الصين الجنوبي. كل تلك الأمور حفًّزت روسيا والصين على السعي للتحوط من المخاطر المشتركة وتعميق أواصل الشراكة بينهما.
على الجانب أخر، تدرك الصين جيدًا التحديات التي تمثلها السياسة الخارجية الأمريكية. والتي تسعى للحد من خِطة التنمية الوطنية الصينية، ونية الصين لبناء “جيش حديث وقوي”. ورغم أنه من غير المرجح أن تكون الاستجابة لتقارب الصين وروسيا المتنامي ذات أولوية لفريق السياسة الخارجية لجو بايدن، لكن القضية سُتطرح حتمًا في المناقشات بين فريق الأمن القومي.
يرى الرئيس “جو بايدن” الصين “منافسًا” للولايات المتحدة في معركة الهيمنة على القيادة العالمية، بينما ينظر لروسيا باعتبارها “الخصم” الأكثر عداءً للقوى الكبرى، لذلك لا يمكن لواشنطن تجاهل العلاقة بين بكين وموسكو.
على أي حال، ستكون القضية على رادار البيت الأبيض لأن الفريق الجديد يخطط لجعل استعادة العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة أولوية على أجندته الخارجية، ولا شك أن العلاقة الصينية الروسية ستأخذ حيزًا كبيرًا على دول أعماله.
وستكون المهمة الأساسية لهم هي محاولة فهم التقارب بين موسكو وبكين، ولماذا هذا التحالف غير مرغوب فيه بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، وما هي الجوانب التي يمكن للغرب أن يُحدث تأثيرات بشأنها حتى يتمكن من تحقيق غاياته الخاصة، وما هي الأساليب التي يمكنه استخدامها للقيام بذلك.
المصادر:
- Danil Bochkov, “Are Russia and China poised to forge an alliance?”, (CGTN, 05-Dec-2020): https://news.cgtn.com/news/2020-12-05/Are-Russia-and-China-poised-to-forge-an-alliance–VYMgFFBQsw/index.html
- “Russia-China Military Alliance ‘Quite Possible,’ Putin Says”, (The Moscow Times, Oct. 23, 2020): https://www.themoscowtimes.com/2020/10/23/russia-china-military-alliance-quite-possible-putin-says-a71834
- Peter Suciu, “A Russia-China Military Alliance? Not So Fast.”, (The National Interest, November 3, 2020): https://nationalinterest.org/blog/buzz/russia-china-military-alliance-not-so-fast-171806
- Djoomart Otorbaev, “Is a military alliance between China and Russia possible?” (CGTN, 15-Nov-2020): https://news.cgtn.com/news/2020-11-15/Is-a-military-alliance-between-China-and-Russia-possible–VpYsZttEKQ/index.html
- Alexander Gabuev, “Is Putin Really Considering a Military Alliance with China?” (The Moscow Times, Dec. 2, 2020): https://www.themoscowtimes.com/2020/12/02/is-putin-really-considering-a-military-alliance-with-china-a72207
باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية