آسياتركيا

تركيا والاتجاه شرقًا.. استخدام آسيا بديلًا استراتيجيًا للغرب

في الوقت الذي تتسع فيه هوة الخلاف بين تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي “الناتو” وشركائها في الحلف سواء من جيرانها الأوربيين نتيجة تدخلاتها في شرق المتوسط بحثًا عن موارد الطاقة، أو واشنطن التي تشهد خلافًا في علاقاتها مع أنقرة مؤخرًا، تعمل الأخيرة على تدعيم علاقاتها مع عدد من دول آسيا وتكتلاتها وبخاصة الصين.

فتركيا التي تنقسم جغرافيًا إلى شطرين آسيوي وأوروبي ابتعدت بحسب وصف المفوضية الأوروبية عن أي وقت مضى عن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، متهمة أردوغان بـ”تقويض اقتصاد تركيا وانتقاص مساحة الديمقراطية وتدمير استقلال المحاكم” وهو ما رفضته أنقرة قائلة إنها ملتزمة بعملية الانضمام للاتحاد. 

يضاف إلى ذلك التباعد الذي تشهده العلاقات بين واشنطن وأنقرة مع شراء الأخيرة لمنظومةS-400  الصاروخية الروسية، في الوقت الذي دعمت فيه الولايات المتحدة وحدات حماية الشعب الكردي في حربها ضد تنظيم داعش الإرهابي، والتي تنظر إليها تركيا باعتبارها إرهابية، ما خلق حالة من تضارب المصالح بين الطرفين. 

هذه التوترات والتغييرات يزيد عليها الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد التركي الذي يعاني تقلصًا زاد في الفترة الأخيرة مع التداعيات التي فرضتها جائحة كورونا؛ إذ يتوقع الاقتصاديون أن ينكمش الاقتصاد التركي خلال 2020، على أن يعود لتحقيق نمو بنسبة تصل إلى حوالي 4.5% في العام التالي. 

والحقيقة أن هناك عاملًا تاريخيًا آخر يتمثل في أن مساعي الدول الغربية تجاه الدولة العثمانية مطلع القرن العشرين لا تزال تقيم بعض الشكوك لدى الأتراك، وربما هو ما دفع الحكومة التركية لاتخاذ نهج آخر في السياسة الدولية مع مطلع القرن الحادي والعشرين يبتعد عن الغرب. هذه العوامل وغيرها دفعت الحكومة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية إلى الاتجاه شرقًا، وتدعيم العلاقات مع دول ومنظمات كبرى في آسيا. 

منظمة شنغهاي للتعاون

المنظمة التي تأسست قبل حوالي عشرين عامًا وتتخذ من العاصمة الصينية بكين مقرًا لها تشغل فيها تركيا مساحة بصفة شريك حوار Dialogue Partner منذ عام 2013؛ حيث إنها العضو الوحيد في الناتو الذي يرتبط اسمه أيضًا بالتكتل الهادف إلى تعزيز التعاون بين دوله في عدة مجالات بينها المجال الأمني. 

اللافت أن هذه المنظمة تضم 8 دول في عضويتها أبرزهم الصين وروسيا والهند إضافة إلى باكستان و4 دول من دول الاتحاد السوفييتي السابق هي قرغيزستان وأوزبكستان وكازاخستان وطاجيكستان. وتلوح تركيا بين الحين والآخر بالانضمام إلى عضوية المنظمة التي يتكون معظم أعضائها ومراقبيها وشركائها من الدول السوفييتية السابقة بدلا من الاتحاد الأوروبي، حيث كان أحد أهم هذه الوقائع عام 2016 مع التوتر بين أنقرة والاتحاد وحينها ردت الصين بأنها مستعدة للنظر في أي طلب للعضوية تقدمه تركيا

تركيا وشرق آسيا والحرب الكورية

تاريخيًا ترتبط العلاقة بين تركيا الحديثة وشرق آسيا بمشاركتها ضمن قوات الأمم المتحدة التي قادتها الولايات المتحدة للمشاركة في الحرب الكورية”1950 -1953″ إلى جانب كوريا الجنوبية في الجارة الشمالية والقوات الصينية الشيوعية. 

ووفقًا لوزارة الدفاع الأمريكية شارك في هذه الحرب ما يقرب من 15 ألف جندي تركي. هذه المشاركة شكلت فيما بعد شكل العلاقة بين تركيا وهذه المنطقة من العالم، بل وشكلت الأساس الذي سمح لها للانضمام إلى حلف الناتو عام 1952. 

مبادرة تركية من أجل آسيا

أطلق وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو في أغسطس 2019 مبادرة تحمل اسم ASIA A NEW أو آسيا من جديد، حيث تحدث حينها عن تحول القوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق، وأن آسيا بدأت في الظهور كمركز للقوة. لكن في الوقت نفسه أكد أن هذه المبادرة لا تعني أن بلاده ستدير ظهرها للغرب عبر هذه المبادرة. 

ويرى المحللون أن تركيا ستعمل من خلال هذه المبادرة على اكتشاف أسواق جديدة لزيادة صادراتها، خاصة مع الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد مؤخرًا، وأن الحكومة التركية قد تسعى لجعل المبادرة طويلة الأجل عبر توسيع محتواها لتشمل التعليم والجيش والاستثمارات الأجنبية المباشرة وعلاقات الأفراد بالأفراد والحكومات بالحكومات. 

وسياسيًا تحتاج أنقرة إلى تنويع شراكاتها السياسية في ظل تراجع علاقتها مع الغرب، وعزلتها النسبية في الشرق الأوسط. وبحسب موقع “ذا ديبلومات” المعني بشؤون منطقة آسيا والمحيط الهادئ فإن هذه المبادرة تتناغم مع المشاعر المعادية للغرب لدى الرأي العام التركي، وأن الحديث عن العلاقات آسيا يحتل مكانًا أوسع في النقاشات الجماهيرية. 

على الجانب الآخر تواجه هذه المبادرة خطر استخدامها كأداة مساومة في التعاملات مع الغرب، خاصة في أوقات الخلاف –مثل التلويح بالانضمام لمنظمة شنغهاي- واتخاذها من هذه الزاوية يهدد نجاحاها.

الصين وتركيا.. صداقة متشككة

نتيجة المشاركة التركية في الحرب الكورية ضد الصين لم تبدأ العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة والصين الشعبية إلا عام 1971، ولم تتطور إلا مع تسعينيات القرن العشرين مع نهاية الحرب الباردة لأسباب استراتيجية، فرغم أن الاستراتيجية الأمنية لدى تركيا تقوم على أساس عضويتها في حلف الناتو إلا أن العلاقة الأمنية بين بكين وأنقرة لافتة للنظر.

فعملت تركيا مع شركة استيراد وتصدير الآلات الدقيقة الصينية المعروفة اختصارًا بـCPMIEC لنقل تكنولوجيا الصواريخ قصيرة المدى التي لم تتمكن من الحصول عليها من حلفائها الغربيين حينما اشتدت المواجهة بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني PKK. 

اسم الشركة ظهر مرة أخرى حينما فازت بمناقصة طرحتها أنقرة لاستيراد منظومة للدفاع الجوي مضادة للصواريخ، إذ قدمت المؤسسة الصينية أرخص الأسعار متفوقة على تحالف أمريكي وآخر فرنسي، لكن تركيا أعلنت إلغاء الصفقة التي بلغت قيمتها 3.4 مليار دولار معزية ذلك إلى أنها ستعمل على إنتاج منظومتها الخاصة بها محليًا.

الشق الاقتصادي هو الجانب الأهم في العلاقات التركية الصينية. فيشير الخبراء إلى تضاعف حجم التجارة بين الجانبين من مليار دولار عام 2000 حتى وصلت لأعلى مستوى لها عام 2013 بقيمة 28,29 مليار دولار، وسجلت خلال العام 2019 حوالي 21,08 مليار دولار.  

ونتيجة الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الاقتصاد التركي قدمت الصين يد العون، على سبيل المثال قدم البنك الصناعي والتجاري الصيني ICBC لتركيا قرضًا بقيمة 3.6 مليار دولار لقطاعي الطاقة والنقل بحسب تقارير.  

وخلال العام الماضي أوردت تقارير تحويل البنك المركزي الصيني مليار دولار أمريكي بموجب اتفاقية لتبادل العملات بين البلدين وقعت عام 2012 لتتزايد التساؤلات حول خطة بكين لإنقاذ تركيا اقتصاديًا. 

حول هذا الأمر قال الباحث في الشؤون التركية سونر جابتاغي إن تركيا تبحث عن الاستثمارات الأجنبية المباشرة؛ نظرًا لقلة مواردها الطبيعية والتي قد تجدها في الصين، لكن الصين –بحسب سونر- لا تمثل بديلًا قويًا لأسواق تركيا الخارجية في الغرب؛ حيث إن الميزان التجاري يصب في صالح بكين. 

في الوقت نفسه يشير الباحث في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى إلى أن الشركات التركية تواجه مؤخرًا صعوبات في الحصول على ائتمانات من مستثمرين أوروبيين وأمريكيين، ما قد يدفع المستثمرين الصينيين لملء الفراغ الذي تركه الغرب، ما يجذب أنقرة إلى محور روسيا-الصين سياسيًا في وقت لاحق. 

وبحسب وكالة أنباء شينخوا بدأت تركيا بالفعل في استخدام اليوان الصيني في عمليات التمويل عام 2020 بموجب اتفاقية وقعت العام الماضي بين الجانبين حيث استخدمت الشركات التركية العملة الصينية في دفع فواتير وارداتها. 

وتبقى مبادرة الحزام والطريق الصينية هي العامل الأهم في العلاقات بين بكين وأنقرة، فوفقا لفورين بوليسي فإن هذه المبادرة تشكل لتركيا مصدرًا للنقد السائل، فيما يسمح للصين لوضع قدم استراتيجية في البحر المتوسط، وقد أنهت تركيا خط سكة حديدية يمتد من كارس شرقي تركيا مارا بالعاصمة الجورجية تبليسي والأذرية باكو على بحر قزوين ترتبط شبكة المواصلات بالصين لتأسيس بنية تحتية للمبادرة. 

واستطاع تحالف صيني عام 2015 شراء 65% من ثالث أكبر محطة حاويات في تركيا –كومبورت- في إسطنبول، إضافة إلى مساعدة المستثمرين الصيني في إنقاذ مشروعات أردوغان سيئة الإدارة، كما نجح تحالف صيني آخر في شراء 51% جسر يافوز سلطان سليم الذي يربط أوروبا وآسيا عبر مضيق البوسفور بعد فشل توقعات الإيرادات وأراد الكونسورتيوم الإيطالي التركي المسيطر على الجسر الخروج.

من ناحية أخرى، فإن هذه المبادرة تساعد على تحسين الصورة الذهنية لأردوغان وتقديمه كرئيس يمكنه تطوير البنية التحتية وجذب الأموال والقيام بمشاريع واسعة النطاق.

ولدعم تدفق الأموال وقع صندوق الثروة التركي مع المؤسسة الصينية لتأمين الصادرات والائتمان اتفاقًا لتعزيز التعاون الثنائي في مارس 2020 تنظر بموجبه الأخيرة في تقديم دعم تأميني للصندوق بقيمة 5 مليارات دولار. 

لكن رغم ذلك يبقى موطنا الخلاف الأساسيين بين الدولتين في القضية السورية التي تدعم فيها بكين دمشق دبلوماسيًا، فيما تدعم تركيا فصائل مما يعرف بالمعارضة المسلحة للإطاحة بالأسد.  أما الموطن الآخر للخلاف فهو قضية الأويغور الذين تدعمهم تاريخيًا أنقرة حتى قبل تأسيس الدولة التركية الحديثة، وهي عرقية تقع غربي الصين في إقليم “تشينجيانغ” ذاتي الحكم حيث يرغب في الانفصال وإقامة دولة “تركستان الشرقية”. 

وتاريخيًا، تُعدُّ تركيا وفقًا للمحللين مركز تجمع الشتات للأويغور وقياداتهم حيث يقدر عددهم بحوالي 50 ألف شخص في تركيا، وهو الأمر الذي يثير خلافًا كبيرًا بين بكين وأنقرة.

والحقيقة أن الموقف التركي تباين خلال السنوات العشر الأخيرة، فبعد وصف أردوغان ما يحدث للأويغور بأنه يشكل عملية إبادة جماعية، عاد مرة أخرى في الآونة الأخيرة للتقليل من الحديث عنهم في وسائل الإعلام التركية، فيما ألقت السلطات التركية على زعيم منظمة تركستان الشرقية الإسلامية والمصنفة إرهابية لدى الاتحاد الأوروبي عام 2016 والمقيم لديها منذ عام 2001 عبد القادر يبقان  لكنها أطلقت سراحه عام 2019.  يضاف إلى ذلك توقيع الحكومة التركية عام 2017 اتفاقية لتبادل المجرمين مع الصين نظر إليها الكثير من المحللين على أنها تستهدف الأويغوريين المطلوبين لدى بكين ويعيشون في تركيا. 

كل هذا ربما يؤشر إلى أن الحكومة التركية ربما تسعى إلى تحقيق مزيد من التقارب مع الصين مع وجود ورقة الأويغور التي قد تعمل أنقرة على استخدامها في علاقتها مع الصين. 

تركيا في شرق وجنوب شرق آسيا

خلال العقد الأخير عملت تركيا على توسيع نطاق تعاملاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع منطقة آسيا والمحيط الهادئ لا سيما منطقة شرق آسيا، حيث تعتبر وزارة الخارجية التركية عبر موقعها أن القرن21 هو عصر نهضة منطقة آسيا والمحيط الهادئ. 

دبلوماسيا عززت تركيا موقفها في هذه المنطقة عبر افتتاح سفارات لها في دول ميانمار عام 2012 و كمبوديا وبروناي عام 2013 ولاوس عام 2017، وعدّت وزارة الخارجية التركية 6 دول هي الصين واليابان وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة شركائها الاستراتيجيين في هذه المنطقة. 

أما اقتصاديا، فقد وقعت تركيا اتفاقيات للتجارة الحرة مع كل من كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة، فيما أعلنت وزارة التجارة التركية مؤخرًا الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية دولًا مستهدفة من بين 15 دولة لتطوير العلاقات التجارية معها عبر تشجيع القطاع التركي بحوافز عامة. 

لكن رغم ذلك يمثل العجز في ميزان التجارة الثنائية مع دول آسيا مشكلة تحتاج إلى إيجاد استراتيجية جديدة، فمن بين 10 دول رئيسية تواجه تركيا معها أعلى معدل في ميزان العجز التجاري هناك 4 دول آسيوية هي الصين (- 17.8 مليار دولار ، المرتبة الثانية) ، كوريا الجنوبية (- 5.4 مليار دولار ، المرتبة الرابعة) ، اليابان (- 3.6 مليار دولار في المرتبة الثامنة ، وماليزيا (-1.8 مليار في المرتبة العاشرة). 

وتولي أنقرة أيضًا اهتمامًا بتطوير العلاقات مع دول رابطة جنوب شرق آسيا ASEAN . فمنذ عام 2008 نشطت وكالة التعاون والتنمية التركية (TİKA) في مجال التعاون الإنمائي من خلال مشاريع مختلفة مع عدد من دول الرابطة بما في ذلك مجالات المساعدة الإنسانية، كما شاركت في مشروعات بين عامي 2005 و 2015 تقدر بقيمة 147,8 مليون دولار، كما منحت عام 2017 صفة شريك حوار قطاعي مع الرابطة، ويتوازى ذلك مع اكتمال إقامة أنقرة  لعلاقات دبلوماسية كاملة مع كل دول الرابطة العشرة  بإقامة علاقة مع لاوس في نفس العام. 

وارتفع حجم التجارة بين تركيا ودول الرابطة من 1.3 مليار دولار عام 2002 إلى 8.32 مليار دولار عام 2019، كما مُنحت تركيا صفة مراقب عام 2014 في قوة الشرطة متعددة الجنسيات لدول الآسيان.

وبحسب المراقبين، فإن أنقرة وآسيان سيعملان على إيجاد أرضية مشتركة تضمن تحقيق مكاسب للطرفين، حيث تحتاج دول الآسيان إلى حلفاء وشركاء حتى لا تتعرض للضغط بين الصين والولايات المتحدة، وبالتالي سيبحثان في نقاط القوة لإيجاد مجالات استثمار محتملة تمكنهم من الجمع بين قوتهم لبناء شراكات استراتيجية.

خلاصة، مع فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على أشخاص ومؤسسات تركية نتيجة لأنشطتها في شرق البحر المتوسط، وبحث إمكانية اتخاذ خطوات أكثر صرامة في مارس 2021 مع حلول القمة الأوروبية ما يبعدها خطوات بل ربما إلى الأبد عن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، قد تجد تركيا في الاتجاه شرقًا ملاذًا آمنًا، خاصة مع ترحيب دول منظمة شنغهاي للتعاون بانضمام أنقرة.

مع تزايد احتمالية فرض عقوبات أمريكية نتيجة شراء تركيا منظومة إس 400 الروسية، قد يرفع من معاناة للاقتصاد التركي الذي يئن في الآونة الأخيرة قد تلجأ بشكل متسارع إلى الصين التي تحتاج لإيجاد موطئ قدم لها في البحر المتوسط واستكمال مبادرة الحزام والطريق عبر وجود ممر وسيط بين أوروبا وآسيا، لكن ذلك مشروط بإيجاد آلية لحل قضية الأويغور التي تشكل حجر العثرة الرئيس لتطوير العلاقات بين أنقرة وبكين. 

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى