
د. طه عبد العليم يكتب : في أصول مشروع سد النهضة
منذ فجر التاريخ وحتى الآن، عاشت مصر تحارب تهديد أو غزو قوى الاستعمار، وتكافح شح أو فيض تدفق مياه النيل وانتصرت، وتدافع عن دورها في بناء روافع التقدم والحضارة، وانتصرت فى جميع هذه المعارك. ويجمع مشروع سد النهضة الإثيوبي على النيل الأزرق بين خطر نقص تدفق مياه النيل، وضغط قوى دولية وإقليمية تستهدف إخضاع إرادة مصر، وخطر وأد مشروع إعادة بناء مصر بعد ثورة 30 يونيو. لكن يقينى لم- ولا ولن- يتزعزع فى قدرة وطننا العظيم مصر- بشعبه وجيشه وقيادته- على دحر مؤامرة سد النهضة، بجانب تصفية منابع الإرهاب العميل، وإنجاز التنمية الشاملة والمستدامة، رغم كل التهديدات والتحديات المحدقة.
وأسجل، أولا، أن مصر مجرد واحة فى محيط صحراوي؛ ولولا النيل، بمنابعه الاستوائية ثم بمنابعه الحبشية، لما توافرت البيئة التي مكنت المصريين من ترويض النهر الجامح، واكتشاف الزراعة ورى الحياض، وريادة صنع الحضارة الإنسانية. فقد هبط سكان مصر الى وادى النيل مع حلول عصر الجفاف محل العصر المطير قبل عصر الأسرات الفرعونية. ولو لم يصل النيل الأزرق لكانت مصر أرضاً فقيرة يسكنها البدو والرعاة، لأن تربة مصر بغرينها الخصب المتجدد من صنعه؛ ولولاه ما كان شريط الوادي وواحة الدلتا سيوجدان؛ والأهم أن نحو 66% من مياه مصر تستمدها من النيل الأزرق وحده؛ ولهذا فإنه المورد الأول لمائها. كما سجل جمال حمدان (شخصية مصر البشرية، المجلد الثانى من مؤلفه الموسوعي العميق: شخصية مصر).
وثانيا، أن المصريين الأوائل- شأن بعض الشعوب الأخرى- واجهوا التحول الطبيعى العميق فى مناخ جزء من أفريقية وآسيا نحو الجفاف. وكان هذا هو التحدي، فماذا كانت الاستجابة؟ من الأقوام من لم ينتقل من مكانه ولم يغير من طرائق معيشية، فلقى الإبادة والزوال جزاء إخفاقه. ومنهم من استبدل طريقة معيشته بأخرى، وتحولوا من صيادين إلى رعاة رحل، ومنهم من رحل صوب الشمال أو الجنوب؛ لكن منهم من استجابوا لتحدى الجفاف؛ بتغيير موطنهم وتغيير طرائق معيشتهم معا؛ فكان هذا الفعل المزدوج، الذى قل أن نجد له مثيلاً، هو العمل الإرادي الذى خلق مصر كما عرفها التاريخ، وجسد دور القلة الخالقة فى نشأة الحضارة، كما سجل المؤرخ البريطاني أرنولد توينبى فى دراسته عن نشوء الحضارة وسقوطها. فقد هبط أجدادنا الرواد الى وادى النيل، وحولوا المستنقعات إلى حقول تجرى فيها القنوات والجسور؛ واستخلصوا أرض مصر من الأجمة التى خلقتها الطبيعة، وبدأ المجتمع المصري قصة مغامراته الخالدة؛ كما شرح محمد شفيق غبريال، فى كتيبه الفريد (تكوين مصر عبر العصور). وأقول باختصار، إنه إذا كان تكوين مصر من صنع المصريين، فان مصر المكانة كانت هبة المصريين.
وثالثا، أن النيل الأزرق يهبط من أثيوبيا الى مصر؛ مقتحماً ومجاوزاً شلالات وصحراوات ومنعطفات مستمرة، ويجرى نحو الجنوب الشرقى، ثم يشق مجراه إلى الشمال الغربي، فيبلغ سهل السودان!! ثم ينضم اليه رافدان هما (الرهد والدندر)، ومن الهضبة الشمالية الغربية لبحيرة تانا ينبعان، وبالقرب منهما ينبع الرافد الثالث وهو (العطبرة)؛ آخر رافد للنيل وأنفعها. وعند الخرطوم يتعانق النيلان الأزرق والأبيض، ولن ترى غير نيل واحد بعد الآن!! ويترك النيل اتجاهه نحو الشمال، وكان يمكن أن يضيع شرقا أو غربا، لكنه يعود مجددا نحو الشمال، نحو مصر!! ويشق لنفسه طريقاً فى صحراء محرقة مقاوما الجفاف، ويوقفه حاجز من الصوانٍ فيدور حوله ولا يجف، ويقهر الشلالات والجنادل فيقرض ستة كيلو مترات، ويصل إلى مصر التى أوجدها؛ وما فتىء يرويها منذ الأزل. (كما سجل إميل لودفيج فى كتابه الرائد والبديع: النيل حياة نهر).
ورابعا، أنه طوال رحلة النيل الأزرق، قد يعرج النهر نحو الشرق أو الغرب، أو يندفع إلى الشمال أو حتى إلى الجنوب، لكنه يحافظ دائماً على اتجاهه المحورى نحو مصر، إلى درجة أن المنبع والمصب- الفاصل الهائل في خطوط العرض- يقعان على خط طول واحد أو يوشكان. وبصدفة جيولوجية يسيرة كان يمكن للنيل أن يضيع فى الصحراء الكبرى. وتقع أسفل طمى النيل بطانة حصباوية رملية، تكونت بمصر فى العصر المطير، تمتص بمساميتها ونفاذيتها قدراً كبيراً من مياه الفيضان وتصرفها، ولولاها لتحول الوادى إلى مستنقع هائل، ولولا هذا لكان الغرين الحبشى لعنة على تربة مصر، لا هدية. (كما أضاف جمال حمدان فى شخصية مصر البشرية).
وخامسا، أن موارد المياه فى مصر لا تسقط عليها فى الداخل وإنما تدخلها من الخارج، وعبر الفرعون اخناتون عن ذلك يقول: إن النيل يخرج لمصر وحدها من العالم الآخر، فى حين أن للبلاد الأخرى نيلاً يهبط إليها من السماء!! وتُبدى تدفقات النيل معدل تفاوت مرتفعاً للغاية؛ ومن هنا كانت قراءة مقياس النيل منذ آلاف في مصر، فانفردت بسجلاته السنوية الكاملة. وليس من السهل تحديد ما هو الأكثر تخريباً: الفيضان العالي جداً أم المنخفض جداً، لكن المثل الشعبى حسم الموقف: الغَرَق ولا الشَرَق. والأمر أن الغَرَق، إن أهلك المحصول والحياة فى الأراضي المنخفضة والعادية المنسوب، قد تنجو منه الأراضي العالية، أو أنه بما يترك من طمى كثيف فى كفيل بمحصول مضاعف فى العام التالى، وأما الشَرَق فمعناه الوحيد هلاك الزراعة كلها في عامة دونما تعويض فى العام التالى.
وأخيرا، أن النيل مقتل كامن أو ممكن لمصر نظرياً وبالقوة على الأقل. وبكل الحكمة وبنهج التعاون بدلا من الصراع، والتفاوض قبل الصدام، واستنادا الى قوى مصر الشاملة، يقود الرئيس عبد الفتاح السيسي معركة مصر الظافرة بقبنا ضد مؤامرة سد النهضة. ويبقى أن نتذكر أمرين: أولهما، أنه ومنذ وقت مبكر حسد بعض سكان المنبع- وهم فى اعتقادهم مصدر النيل– سكان المصب؛ لكن العداء الحقيقي- ومعه فكرة الماء كسلاح سياسي- أتى من الدخلاء؛ حيث كان تسييس قضية مياه النيل من خلق أو إيعاز الاستعمار. وثانيهما، أن مصر الرسمية- قبل عهد السيسي- قد أكدت أن حماية النيل مسألة حياة أو موت، وإذا لم تحارب من أجل مسألة فيها حياتك وموتك، حياة شعبك وماء شعبك وأرضك، فلأى شئ آخر تحارب إذن؟
نقلا عن صحيفة “الأهرام”