
تعدٍ واختراق إثيوبي جديد للحدود السودانية يكشف عن سياسة المماطلة وانتهاكات مبدأ حسن النوايا
يتزامن الحديث حول الترسيم الحدودي بين السودان وإثيوبيا من أجل حل النزاع المتجدد بين الدولتين، مع إعلان الناطق باسم القوات المسلحة السودانية العميد ركن عامر محمد الحسن عن مقتل أحد عناصر الجيش وإصابة آخرين، في ظل اشتباكات سارية مشاة من الجيش الإثيوبي مع الجيش السوداني على نهر عطبرة في منطقة الفشقة المتنازع عليها بين الدولتين، وجاء على إثرها انعقاد اللقاءات الثنائية من الاتفاق حول تشكيل لجنة وترسيم الحدود، ليعطي إشارة واضحة حول المواقف الزائفة التي تنتهجها الدولة الإثيوبية من الإعلان عن اتفاقات كمحاولة لاحتواء عمليات التصعيد بينهما يقابلها انتهاكات صارخة لهذا الإعلان، وربما ينعكس جليًا في الانسحابات المتكررة من مفاوضات سد النهضة والاستمرار في عمليات استكمال بناء السد والإعلان مجددًا عن العودة للمفاوضات عقب التصعيد المصري أمام مجلس الامن والتقارب المصري السوداني واستمرار الانتهاك الإثيوبي من خلال التصريح الرسمي لوزير الري الإثيوبي عن عدم الأحقية التاريخية لمصر في مياه النيل، مما ألقى بالضوء على المواقف الإثيوبية المستمرة في انتهاك المفاوضات، والذي يسبقه مبدأ “حسن النوايا”.
توترات متكررة واعلان عن اتفاقات الترسيم الحدودية بين السودان وإثيوبيا
أثار التوتر الحدودي بقيام مليشيات الشفتة الإثيوبية التي اعتادت الاعتداء على المزارعين السودانيين وسرقة ماشيتهم بالاعتداء على المزارعين السودانيين في ولاية القضارف، وأعقبها توغل الجيش الإثيوبي في منطقة الفشقة الصغرى منتهكًا السيادة السودانية واتفاقية 1995 التي تقوم على إخلاء الطرفين للمنطقة الحدودية بينهما من القوات المسلحة، ووضع مهمة حماية الحدود إلى كتائب الدفاع الشعبي السودانية ووكتائب محلية موازية من إثيوبيا بدعوى محاربة تهريب المخدرات والإتجار بالبشر، وفي المقابل استنفرت الحكومة السودانية وأعادت الجيش السوداني للمنطقة مرة أخرى بعد 25 عامًا.
وفي محاولة إثيوبية لاحتواء الأزمة وفي ظل التحرك السوداني والذي بدأ بزيارة رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان للمنطقة وبصحبة مدير جهاز الاستخبارات جمال عبد الحميد ورئيس أركان الجيش السوداني محمد عثمان حسين وتعهده بالحفاظ على الحقوق السودانية في المنطقة، وعليه قامت السلطات الإثيوبية بقيادة آبي أحمد رئيس الوزراء بإيفاد رئيس أركان الجيش الإثيوبي آدم محمد وأعقبه اتصال الأول بالبرهان وذلك في 10 أبريل الماضي.
انتهت المفاوضات إلى اتفاق الدولتين على إعادة قوات الدولتين للمنطقة الحدودية وتشكيل لجنة لمباشرة ترسيم الحدود بين الجانبين على خلفية قيام مزارعين إثيويبين بالزراعة داخل الأراضي السودانية، على أن تبدأ اللجنة المشتركة في وضع العلامات المحددة للحدود في أكتوبر القادم على أن تنتهي من عملها مارس 2021.
ولكن جاء الحديث عن الاعتداءات الأخيرة بولاية القضارف واشتباك سرية مشاة من الجيش الإثيوبي مع القوات السودانية على نهر عطبرة أسفرت عن مقتل ضابط برتبة نقيب وإصابة 6 أخرين، وفي ضوء ذلك تم تعزيز القوات في معسكر بركة نورين، كما صرح الناطق باسم القوات المسلحة السودانية العميد عامر محمد حسن بتكرار الاعتداءات على الأراضي والموارد السودانية، ليضع علامة استفهام حول مستقبل الاتفاق.
الانتهاكات الإثيوبية للاتفاقيات بين المماطلة وتحقيق أغراض سياسية خفية
يبدو أن إعلان إثيوبيا للمفاوضات هي سياسة إثيوبية لمزيد من المماطلة وميوعة القرارات، ففي ظل اللقاءات التي يجريها المسؤولون الإثيوبيون مع نظرائهم السودانيين، ما هي إلا محاولات لتطويل مدد المفاوضات، وتحقيق المصالح الإثيوبية على حساب مصالح جيرانها من السودانيين، وتحقيق هدفها السابق في إعادة القوات المسلحة الإثيوبية إلى الداخل السوداني، والذي ظهر جليًا في فبراير 2019 حينما قدم وزير الخارجية الإثيوبي آنذاك تقريرًا للبرلمان الإثيوبي يعلن فيه عن ضرورة ضبط الحدود مع السودان -في إشارة ضمنية لعودة القوات المسلحة الإثيوبية للحدود- في ظل ما أسماه بتدفق الأسلحة عبر الحدود السودانية لإثيوبيا مستغلًا الوضع المتوتر في الداخل السوداني في ظل الاحتجاجات السودانية التي تطالب بسقوط البشير.
ولم تكن هذه الهجمات والاتفاقيات السودانية هي الأولى، بل استمرت إثيوبيا في انتهاج سياسة التطويل والتسويف والتحرك الزائف تحت مظلة “مفاوضات السلام”، فمنذ عام 2013 تم التوقيع على اتفاقية لتأمين السلام على الحدود، وتشكيل قوة مشتركة لمراقبة الحدود في عام 2014، إلا أن الاعتداءات الإثيوبية لم تتوقف وقامت قافلة عسكرية بمهاجمة قوات سودانية بقذائف وأسلحة آلية، واستمرت الأحاديث حول اقتراب التوصل لاتفاق بين البلدين على ترسيم الحدود حتى عام 2017، وفي نوفمبر 2018 تم الاتفاق أيضًا على تشكيل لجنة مشتركة لتأمين الحدود ومحاربة تهريب المخدرات والإتجار بالبشر، إلا أن الاعتداءات الإثيوبية لم تتوقف.
وهو ما يدل على الرغبة الإثيوبية في التواجد العسكري على الحدود لضمان التواجد الإثيوبي في الأراضي السودانية المنزرعة في ظل ما يعاني منه الداخل الإثيوبي من نزاعات داخلية على الموارد وخاصة من المزارعين من إقليم الأمهرة الذين أظهروا أطماعًا في الأراضي الخصبة بمناطق “الفشقة” المتنازع عليها بين البلدين، وهي المنطقة التي شهدت توترات مؤخرًا من خلال التوغل العسكري الإثيوبي في منطقة شرق سندس بالفشقة الصغرى في منطقة زراعية تخص مزارعين سودانيين بالقضارف في مساحة تقدر بنحو 55 ألف فدان، وهي من أخصب المناطق الزراعية بالبلاد، وسبقها في يونيو 2016 أن اعتدت جماعة الشفتة الإثيوبية على المزارعين السودانيين في موسم الحصاد.
وتشهد الحدود السودانية الإثيوبية مزيدًا من التطورات وسط أطماع في السيطرة على الأراضي الزراعية السودانية، وهو الأمر المتوقع أن يتفاقم مع انتشار أنباء تعرض الدولة الإثيوبية لمجاعة جراء انتشار الجراد والذي يتضاعف تاثيره مع تأخر وصول إمدادت الأمم المتحدة عقب الإجراءات الاحترازية التي تتخذها الحكومات من سياسة الإغلاق التام للحد من انتشار فيروس كورونا وفرض الحظر الذي على إثره تم تأجيل الانتخابات الإثيوبية المقرر لها أغسطس المقبل وبالتالي لا يمكن الحديث عن انهائها في الوقت الحالي لاستكمال مخطط التأجيل، وهو الأمر الذي سينعكس على المشهد الإثيوبي الداخلي الذي سيقف عقبة أمام الحديث عن إجراءات ترسيم حدود حقيقية، بل ستكون مزيدًا من فقاعات النظام الإثيوبي الحالي التي يطلقها للوصول لأهدافه من الوجود العسكري وتوفير الإمدادات الغذائية لدولة مهددة بانعدام الأمن الغذائي.
ووسط محاولات الاحتواء التي تدعيها السلطات الإثيوبية وسط التخوف من التقارب المصري السوداني، إلا أن الجانب الإثيوبي يستمر في عملية التصعيد والذي أظهره تسمية سفير إثيوبيا في السودان من قومية الأمهرة التي تسيطر على الأراضي السودانية في الفشقة، بالرغم من عدم استكمال السفير الذي تم سحبه مدته، كما تأتي كإجراء مخالف للعرف الإثيوبي في تسمية السفراء الإثيوبين من أقاليم العفر والأورومو المسلمة بحسب الخبراء، وبالتالي تم تفسير الأمر كرسالة تصعيد جديدة بين البلدين.
وعلى صعيد متصل هناك نزاعات أخرى بين الدولتين متمثلة في إقليم بني شنقول – جوميز الواقع على الحدود السودانية الإثيوبية وعاصمته أسوسا، والذي سلمه البريطانيون للدولة الإثيوبية، ويناضل من أجل العودة للسودان، وشهد توترات إبان شروع الحكومة الإثيوبية من بناء السد الإثيوبي وكانت تسيطر عليه قومية التيجراي، هذا إلى جانب النزاعات المسلحة التي يعاني منها الإقليم.
ووسط الصراعات الداخلية التي يعاني منها الحزب الحاكم “الازدهار” بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد من معضلة تأجيل الانتخابات إثر فرض حالة الطوارئ كإجراء احترازي لمواجهة أزمة كورونا، أسفرت عن تحديات جديدة من رفض المعارضة للأمر واستمرار الحديث عن إجراء انتخابات في إقليم التيجراي، والاقتصاد الإثيوبي الهش وانتشار الجراد وانعدام الأمن الغذائي سيضع مزيدًا من القيود على الترسيم الحدودي “الوهمي” الذي تتحدث عنه الحكومة الإثيوبية في محاولة لتهدئة الوضع، وفي ظل الانتهاكات الإثيوبية للاتفاقيات المعلنة التي سيقابلها تصعيد عسكري في حال تزايد النزاعات الداخلية والتي سيكون بطلها قومية الأمهرة والاورومية المتنازعة على الحدود الصومالية بسبب نقص الموارد الغذائية وإحداث حالة من الضغوط الداخلية بما يجعل الجانب الإثيوبي في احتياج لعدوان خارجي، لجذب تأييد جبهته الداخلية، وهو ما تؤكده الشواهد الحالية.
استفاقة سودانية
منذ عام 1957 تتوالى اعتداءات ميلشيات “الشفتة” الإثيوبية على المناطق السودانية المتاخمة للحدود السودانية – الإثيوبية الواقعة بولاية القضارف جنوب السودان، وخاصة منطقة الفشقة؛ إذ تقدم هذه الميلشيات على حماية المزارعين الإثيوبيين الذين يقتحمون الحدود ومعهم الآلات والمعدات الزراعية لاستزراع هذه المنطقة المعروفة بخصوبة أراضيها، وذلك تحت مرأى ومسمع من الجيش الإثيوبي والحكومة الإثيوبية.
التعامل السوداني مع هذه الاعتداءات كان طيلة العقود الماضية هو التجاهل أو اللجوء للتفاوض مع الحكومة الإثيوبية وصولًا إلى اتفاقات صورية تقضي بانسحاب هؤلاء المزارعين، مع وعود دائمة بعقد اجتماعات للاتفاق على ترسيم الحدود بين البلدين، ووقف هذه الاعتداءات الإثيوبية تمامًا، وآخر هذه الوعود كانت خلال الزيارة التي أجراها وفد سوداني رفيع المستوى يوم 15 مايو الجاري برئاسة وزير شؤون مجلس الوزراء عمر بشير مانيس، إضافة إلى وزيرة الشؤون الخارجية أسماء محمد عبدالله، ووزير الدولة بالخارجية عمر قمرالدين، ومدير جهاز المخابرات العامة الفريق جمال عبدالمجيد.
وهي الوعود التي لم يلتزم الجانب الإثيوبي أبدًا بتطبيقها، حتى وصل عدد المزارعين الإثيوبيين المعتدين على أراضٍ داخل الحدود السودانية إلى 1786 مزارعًا حسب تصريح لوزير الدولة في الخارجية السودانية عمر قمر الدين الذي أفاد أنه تم الاتفاق خلال الزيارة الأخيرة على أن تبدأ اللجنة المشتركة في وضع العلامات المحددة للحدود في أكتوبر القادم على أن تنتهي من عملها في مارس 2021.
الجانب السوداني بات واضحًا أنه أدرك حقيقة التعامل الإثيوبي مع مختلف القضايا، وهو اللجوء إلى التفاوض وكسب الوقت، مع تحقيق ما تريده إثيوبيا عمليًا على أرض الواقع، وهو ما ظهر واضحًا في تعامل أديس أبابا مع قضية سد النهضة، ولذلك بالتزامن مع اللجوء السوداني إلى اللقاءات المباشرة مع إثيوبيا والموافقة على التعهدات باستمرار المفاوضات بدأ هو الآخر في تطبيق ما يريده على أرض الواقع، وبناء عليه جاء تغير موقف السودان في قضية مفاوضات سد النهضة، ورفضه توقيع اتفاق جزئي مع إثيوبيا لبدء ملء وتشغيل السد في يوليو المقبل.
وكذلك ظهر الأمر في تعامل السودان الصارم مع الاعتداءات الإثيوبية على الحدود السودانية، بدءًا من انتشار الجيش السوداني في 28 مارس الماضي في منطقة الفشقة لأول مرة منذ 25 عامًا، وزيارة رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى المنطقة في 8 أبريل الماضي، وصولًا إلى تصدي القوات السودانية لاعتداءات الميلشيات الإثيوبية والجيش الإثيوبي على المنطقة بدءًا من مارس الماضي، وصولًا إلى الاشتباكات الأخيرة التي بدأت يوم 26 من الشهر الجاري وأفضت إلى نشر المزيد من القوات هناك تأهبًا للمزيد من الاشتباكات والمواجهات.
ذلك وأن إثيوبيا تعمل بشكل واضح على استخدام هذه المنطقة كورقة في عملية التفاوض بشأن سد النهضة، فإما أن يسير السودان في المسار الإثيوبي، أو يُهدّد بإثارة الصراعات في هذه المنطقة. إلا أن السودان أدرك أن إثيوبيا لم تكن يومًا دولة تحترم اتفاقاتها ومعاهداتها، بدليل تعاملها مع قضية سد النهضة حتى الآن وصولًا إلى تصريح وزير مياهها بأن “المحادثات الثلاثية بشأن سد النهضة فيها ميول مصر لاستدعاء والتأكيد على ما يسمى بالحقوق التاريخية في المياه التي لا يمكن قبولها من قبل إثيوبيا”. كما أدركت الخرطوم إن أديس أبابا تريد السيطرة على أراضٍ سودانية لتحقيق مصالحها، وتريد بناء سد النهضة دون إتمام الدراسات الفنية اللازمة له، وهو ما يمثل تهديدًا محدقًا بدولتي المصب وخاصة السودان التي ستتعرض للإغراق الكامل في حال انهيار السد، فضلًا عن جفاف الكثير من المناطق مثلما أكد العديد من الخبراء السودانيين، ولذلك صرّح وزير الدولة بالخارجية السودانية عمر قمر الدين بأن “مخاوف السودان من إنشاء سد النهضة تطغى على آماله في هذا المشروع وأن هناك مخاوف من انهيار السد”.