
بحر الصين الجنوبي.. ساحة الحرب الباردة الجديدة
في جغرافيا بعيدة عن الشرق الأوسط، المسرح التاريخي للحروب، وتحديدًا في جنوب شرق آسيا، نسمع بين الحين والآخر عن توترات في بحر الصين الجنوبي، حتى يظن البعض ان الأمر يخص الصين وحدها، ولكن الحقيقة ان بحر الصين الجنوبي هو ثاني أكبر مسطح مائي بعد المحيطات الخمس، والأول هو البحر الأبيض المتوسط، ويطل على بحر الصين الجنوبي 8 دول، وهي الصين وإندونيسيا وماليزيا وبروناي والفلبين وسنغافورة وتايوان وفيتنام.
يمر عبر هذا البحر ثلث حركة الملاحة البحرية التجارية ونصف حركة التجارية العالمية، ويصل المحيط الهادي بالمحيط الهندي، وبالتحديد هو يربط بين المحيط الهادئ عبر مضيق تايوان ومضيق باشى، وببحار سولو وسليبيس عبر مضائق مينداناو وبالاباك، والمحيط الهندي عبر مضيق مالقا وببحر جافا عبر مضيق كاليمنتان وكاسبا.
مضائق بحر الصين الجنوبي تسيطر على عبور النفط القادم من الخليج العربي إلى الصين بنسبة 82 %، ما يعني أن هذا البحر هو بمثابة منفذ الصين الى النفط، كذلك هو الممر البحري الآمن لنفط الخليج العربي إلى الدول الاقتصادية الصناعية في شرق آسيا الملقبة بالنمور الاقتصادية الآسيوية. ثلث الإنتاج العالمي من النفط، ونصف الإنتاج العالمي من الغاز يمر عبر هذا البحر.
يمر 70 % من نفط كوريا الجنوبية عبر مضيق مالقا، 60 % من نفط اليابان وتايوان عبر بحر الصين الجنوبي، لذا لا عجب حينما بدأت إيران في ممارسة القرصنة على بوارج النفط في الخليج العربي صيف 2019 أن رأينا اليابان تتوسط بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية لإنهاء التوتر ولاحقًا أرسلت اليابان بوارج حربية لضمان حرية الملاحة فيما يتعلق ببوارج النفط في الخليج العربي ومضيق هرمز.
وعلى ضوء التوترات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، نسجت واشنطن سلسلة تحالفات مع دول بحر الصين الجنوبي، وعضدت من مطالب تلك الدول في وجه الصين، حيث يشهد هذا المسطح المائي إشكالية سيادة ضخمة ونزاع للسيطرة على الجزر ومياهه ومضائقه المتعددة، وقد استبقت الصين بحكم قوتها باقي دول البحر بالسيطرة على 80 % من مياهه والجزر التابعة له، وعام 2012 أصدرت الصين جواز سفر يضم خارطة تضم بحر الصين الجنوبي كاملًا.
ولقد حاول الغرب أن يخلق حربًا ثقافية حيال السيطرة الصينية على البحر، بالقول ان تسمية البحارة البرتغاليين لهذا البحر بالصين الجنوبي كانت تسمية خاطئة، ولكن الصين ابتكرت قسمًا كاملًا في وزارة الخارجية بعنوان “قسم الجغرافيا” مهمته توثيق الأصول التاريخية والجغرافية لبحر الصين الجنوبي وسيطرة الصين بمختلف عصورها على هذا المسطح المائي الحيوي الذي يقع في شرق وجنوب شرق الصين، لتشهد قاعات الدبلوماسية ما يمكن تسميته الحرب الاركيولوجية أو حرب الآثار لإثبات سيطرة الصين على هذا البحر منذ فجر التاريخ.
وإلى جانب صعود الصين كقوة اقتصادية عظمي في سنوات ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فإن الخلاف على بحر الصين الجنوبي وتعاظم الاهتمام الأمريكي بهذا المسطح المائي يأتي عقب تقارير أولية بأن المنطقة تعوم على بحر ضخم من النفط والغاز، ما جعل خبراء النفط عالميًا يطلقون على المنطقة الخليج العربي رقم اثنين، أو البحر المتوسط الآسيوي على ضوء اكتشافات الغاز الضخمة في البحر الأبيض المتوسط، ويكفي أن الأرقام الرسمية تشير إلى أن احتياطي النفط والغاز في بحر الصين الجنوبي تتفوق على مثيلاتها في بحر قزوين.
الولايات المتحدة لا تريد أن تظفر الصين بغنيمة النفط والغاز في بحر الصين الجنوبي وحدها، وفى نفس الوقت فإن دول حوض البحر تريد أيضًا حصة الأسد من الاكتشافات المستقبلية لذا لا عجب ان نرى تعاونًا متصاعدًا بين دول حوض الصين الجنوبي والولايات المتحدة في مواجهة الصين.
الخبير الجيوسياسي الأمريكي البارز روبرت كابلان ذكر في العديد من مقالاته أن بحر الصين الجنوبي هو خط المواجهة في الحرب الباردة بين أمريكا والصين كما كان الحال في ألمانيا بين أمريكا والاتحاد السوفيتي في سنوات الحرب الباردة في القرن العشرين.
ولكن معالجة أمريكا لملف بحر الصين الجنوبي تأخذ منحى أعمق من الحرب الباردة، إذ تدرك واشنطن أن من يسيطر على حركة التجارة الدولية يصبح القوة الاقتصادية بل والسياسية الأولى عالميًا، استنادًا لنظرية المؤرخ ألفريد ثاير هامان (1840 – 1914) Alfred Thayer Mahan الضابط البحري الأمريكي برتبة أدميرال صاحب النظريات الأمنية التي أثرت في أجيال من صناع القرار في أمريكا، وصاحب كتاب “تأثير القوة البحرية في التاريخ 1783 – 1660” الصادر عام 1890 The influence of sea power in history 1660 – 1783.
حيث ذكر في كتابه:”لدى الولايات المتحدة القدرة على تخليق الثروة، القوة البحرية مطلوبة لزيادة الثروة عبر التجارة البحرية، القوة البحرية مطلوبة لتأمين زيادة الثروة، لأن القوة الوطنية للبلد عالميًا تنمو عبر زيادة النفوذ السياسي الناعم الذي تحققه التنمية التجارية”.
وكان المؤرخ العسكري العتيد يقصد أن القوة البحرية أقوى من القوة البرية وأن من يملك السيطرة في المجال البحري أقوى ممن يملك السيطرة على المجال البري، وعلى إثر نظرية هامان فإن الولايات المتحدة منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى اليوم تسعى للسيطرة على كافة المعابر البحرية والمسطحات المائية المؤثرة في عالم السياسة والتجارة والاقتصاد.
تاريخيًا.. لم تحكم أمريكا سيطرتها على العالم الغربي إلا بالسيطرة على بحر الكاريبي واندلاع الحرب الأمريكية الاسبانية عام 1898 ثم حفر قناة بنما 1904 – 1914، هكذا توفر لدى أمريكا الامكانية الجيوسياسية لتصبح قوة عظمي، ولم يعد متبقيًا إلا وجود حرب عالمية بثقل الحرب العالمية الثانية لصعود أمريكا حتى اليوم.
باحث سياسي