كورونا

الحرب البيولوجية.. بين حقائق التاريخ ونظرية المؤامرة

أثارت التصريحات الصينية التي اتهمت الجيش الأمريكي بزرع فيروس “كورونا” في مدينة “ووهان” الصينية مهد الوباء الذي يجتاح العالم اليوم، الجدل حول مصطلح نظرية المؤامرة وسيناريوهات المؤامرة المتعلقة بالحروب البيولوجية والكيميائية.

ويصنف الإرهاب الكيميائي أو الحرب البيولوجية أو العدوان البيئي باعتباره توظيفا للأمراض والعدوى والأوبئة في العمل السياسي والحربي بما يتضمن أعمال تلويث البيئة وضرب المحاصيل الزراعية الاستراتيجية او الثروات الحيوانية والطبيعية الحيوية.

وبعيدا عن نظريات المؤامرة الخاصة بفيروس “كورونا” وما جرى في “ووهان” الصينية بداية من نوفمبر 2019، فأن كتب التاريخ وعلوم السياسة تحمل لنا حقائق موثقة ومفزعة حول توظيف الأوبئة والأمراض والسم وتدمير البيئة ومقدرات الشعوب في إطار الصراعات السياسية والحروب العسكرية بين الأمم.

الإرهاب البيولوجي أثناء الحرب العالمية الأولى

في كتاب “الحرب الكيميائية والبيولوجية ” (1) الصادر عام 2002، يستعرض المؤلفون الثلاث سجل المانيا القيصرية خلال الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) فيما يعرف بالحروب الكيميائية، حيث نشرت برلين الآفات الزراعية التي تفسد المحاصيل الزراعية في دوقية فنلندا الروسية، كما نشرت فرق تخريب تسمم الخيول في كامل أراضي الإمبراطورية الروسية القيصرية، بالإضافة إلى ارسال الجمرة الخبيثة بالبريد إلى العديد من مسئولي الحكومات في الأرجنتين والولايات المتحدة.

كلفت هيئة أركان الجيش الامبراطوري الألماني رودولف نادولني برئاسة وحدة للحرب البيولوجية خاصة ضد الزراعة، وأنشأ ضابط المخابرات الألماني والمواطن الأمريكي الدكتور أنطون كاسيمير ديلجر مختبرا سريا بولاية ماريلاند، والذي أنتج غددا – بحسب الكتاب – تم استخدامها لتصيب الماشية في الموانئ في ولايات ماريلاند ونيويورك وكنتاكي.

وفي الأرجنتين، استخدم العملاء الألمان أيضا الغدد في ميناء بوينس آيرس ودمروا محاصيل القمح بفطر مدمر، وبحسب الدراسة ذاتها أصبحت ألمانيا نفسها ضحية لهجمات مماثلة حيث أصيبت الخيول المتجهة إلى ألمانيا بأمراض فطرية من قبل عملاء فرنسيين في سويسرا.

إبادة السكان الأصليين لأمريكا وأستراليا

وحينما بدأت الدول الأوروبية عموما وبريطانيا على وجه التحديد في غزو القارة الامريكية ثم القارة الأسترالية، وابادة السكان الأصليين للقارتين، لعبت الحرب البيولوجية دورا مهما.

في اطار لعبة الإبادة الثقافية لتاريخ الامريكان الأصليين، تم تسميتهم بمصطلح “الهنود الحمر”، وتاليا بدأت حروب الإبادة الجماعية والعرقية تجري على قدم وساق بحق القبائل الامريكية، ولعل واحدة من أقسى محطات إبادة سكان أمريكا الأصليين كانت حرب “بونتياك” أو مؤامرة “بونتياك” أو تمرد بونتياك، ما بين عامي 1763 و1766، حيث شكلت القبائل الأمريكية اتحادا فيما بينها في منطقة البحيرات الكبرى الامريكية، التي تشكل اليوم أجزاء من 8 ولايات أمريكية هي: إلينوي وإنديانا وميشيجان ومينيسوتا ونيويورك وأوهايو وبنسلفانيا وويسكنسن، بالإضافة إلى مقاطعة أونتاريو الكندية التي تضم 40% من سكان كندا اليوم، ومقاطعة كبيك ثاني أكبر مقاطعات كندا الثلاثة عشر.

وزعت سلطات جيش الاحتلال البريطاني في أمريكا معونات على المناطق المستهدفة، عبارة عن صناديق أنيقة تضم بطاطين ومناديل مصابين بالجدري تم جلبها من أوروبا خصيصا من أجل زراعة الجدري بين القبائل الامريكية في منطقة البحيرات الكبرى.

تسببت هذه الهجمة البيولوجية في إبادة نصف مليون أمريكي أصلي ينعتون حتى اليوم في كتب التاريخ الأمريكي بالمصطلح الاستعماري “هندي احمر”، وعلى أثر هذه الحرب البيولوجية سيطر الاحتلال البريطاني على ما نعرفه اليوم بثمانية ولايات من أصل خمسين للولايات المتحدة ومقاطعتين من أصل 13 تتألف منهم دولة كندا.

الوحدة السرية بالجيش الياباني

يلاحظ ان الحروب البيولوجية المعلنة خلال الحرب العالمية الأولى كانت المخططات الألمانية فحسب، وذلك لان المنتصر لن يعلن عن سجل جرائمه بينما المانيا خسرت الحرب وتسببت الخسارة في ثورة شعبية اسقطت النظام الامبراطوري وانتجت النظام الفيدرالي الألماني.

وحدث ذلك خلال الحرب العالمية الثانية ايضاً، رغم بعض الدراسات المتعلقة بأنشطة جيوش الحلفاء، ولكن كتب التاريخ تذكر جرائم جيوش المحور على ضوء استسلام تلك الجيوش عقب الهزيمة وكشف كافة وثائقها امام المؤرخين عكس الدول المنتصرة.

من أشهر الوثائق، ما خرج من طوكيو عاصمة اليابان، عن وحدة الجيش الإمبراطوري الياباني السري 731، ومقرها في منشوريا ويقودها اللفتنانت جنرال شيري إيشي.

أجرت هذه الوحدة أبحاثًا حول الأسلحة البيولوجية، اغلب تلك التجارب أجريت على السجناء الأجانب في سجون اليابان (4) خصوصاً سجناء الدول التي احتلتها طوكيو اثناء الحرب وعلى رأسها الصين.

وشهد ثلاثة من قدامى المحاربين في الوحدة 731 في مقابلة عام 1989 أنهم قاموا بتلوث نهر هوروستين بالتيفويد بالقرب من القوات السوفيتية خلال معركة خلخين جول(5).

عام 1940 قصفت القوات الجوية الإمبراطورية اليابانية سلاح الجو مدينة نينجبو الصينية بقنابل خزفية مليئة بالبراغيث التي تحمل وباء الطاعون الذي قامت الوحدة 731 بتصنيعه (6).

وخلال المحاكمات التي أجريت عقب استسلام اليابان وبدء الاحتلال الامريكي، شهد المتهم اللواء كياشي كاواشيما أنه في وقت مبكر من عام 1941 قام حوالي 40 من أعضاء الوحدة 731 بنشر البراغيث الملوثة بالطاعون عبر الطائرات في أجواء مدينة تشانجده الصينية ما تسبب في تفشي وباء الطاعون (7).

واتفقت كافة المصادر التي سبق الإشارة اليها الى ان 400 ألف صيني قد ماتوا كنتيجة مباشرة للاختبار الميداني الياباني والاستخدام العملي للأسلحة البيولوجية وذلك خلال الحرب العالمية الثانية.

خلال الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، خططت اليابان لاستخدام الطاعون كسلاح بيولوجي ضد المدنيين في مدينة سان دييجو بولاية كاليفورنيا غرب الولايات المتحدة الامريكية خلال عملية أزهار الكرز في الليل، وكانت طوكيو تأمل في أن يقتل الوباء عشرات الآلاف من المدنيين الأمريكيين وبالتالي يثني الوباء أمريكا عن مهاجمة اليابان.

كان من المقرر إطلاق الخطة في 22 سبتمبر 1945 ليلًا، ولكن العملية لم يتم تنفيذها بسبب استسلام اليابان في 15 أغسطس 1945 (8).

عندما انتهت الحرب، جند الجيش الأمريكي بهدوء بعض أعضاء الوحدة اليابانية في جهوده ضد المعسكر الشيوعي في السنوات الأولى من الحرب الباردة، وتم منح شيرو إيشي رئيس الوحدة 731 حصانة من الملاحقة القضائية لجرائم الحرب مقابل تقديم معلومات إلى الولايات المتحدة عن أنشطة الوحدة (9).

اكتشف لاحقاً أن شيرو إيشي ترأس “قسما كيميائيا” من وحدة سرية أمريكية مخبأة داخل قاعدة يوكوسوكا البحرية، هذا القسم كان يعمل خلال الحرب الكورية، ثم عمل على مشاريع غير محددة داخل الولايات المتحدة من عام 1955 إلى عام 1959 (10).

ولم تكن الولايات المتحدة الامريكية هي الدولة الوحيدة التي استفادت من التجارب اليابانية في الحروب البيولوجية، اذ ان الاتحاد السوفيتي بدوره سجن وجند العشرات من ضباط وعلماء هذه الوحدة الشيطانية.

كما ان الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي وبعض الدول الأخرى في أوروبا واسيا وحتى بعض الدول العربية تسابقت على تجنيد وايواء خبراء التسليح النووي والبيولوجي الهاربين من المانيا النازية من اجل الاستفادة بخبراتهم في هذه الدروب.

على الرغم من عدم وجود دليل على استخدام الأسلحة البيولوجية من قبل الولايات المتحدة، اتهمت الصين وكوريا الشمالية الولايات المتحدة بإجراء اختبارات ميدانية واسعة النطاق ضد الأسلحة البيولوجية ضدهم خلال الحرب الكورية (1950-1953). في وقت الحرب الكورية، على ضوء وجود هؤلاء العلماء الهاربين من المانيا النازية واليابان.

الأصول التاريخية للإرهاب الكيميائي

وتؤكد كتب التاريخ ان استخدام العوامل الكيمائية والبيولوجية في الحروب قد بدأ من 1500 قبل الميلاد، حيث كانت الشعوب اليونانية والعراقية والفارسية والرومان يلجئون الى تسميم مياه العدو بسم الثعبان، او قيام الرماة بغرس أسهمهم في سم الثعبان او دم انسان ميت او حتى البراز من اجل إصابة جنود العدو بالتيتانوس (11).

خلال العصور الوسطى، تم استخدام ضحايا الطاعون في الهجمات البيولوجية، عن طريق قذف قلاع العدو بـ الجثث المصابة باستخدام المقاليع، عام 1346 خلال حصار كافا/كَفَة التي تقع اليوم في شبه جزيرة القرم تحت اسم فيودوسيا، قام التتار بقصف المدينة بجثث المحاربين التتار المصابين بالطاعون، ما كفل للتتار اجتياح المدينة وغزوها، علماً بأن بعض المؤرخين يذهبون الى ان هذه العملية ربما تكون مسؤولة عن ظهور الطاعون في أوروبا.

ولاحقاً استخدم الروس الأسلوب ذاته نقلاً عن التتار، أي قصف المدن المستهدفة بجثث المصابين بالأمراض بغية نشر المرض وهو ما تحقق بالفعل.

الإرهاب البيئي وتأسيس إسرائيل

حرصت دولة إسرائيل منذ اعلان قيامها في 15 مايو 1948 ان تظهر المواقف المبكرة الغامضة فيما يتعلق بالملف النووي وادعاءات وجود الأسلحة البيولوجية، كنوع من الردع الإعلامي والدعائي لجيرانها العرب، والحاصل ان المنظمة الصهيونية المؤسسة لدولة إسرائيل والتي كانت تنسق مع الوكالة اليهودية بالإضافة الى المنظمات الصهيونية العاملة داخل فلسطين قبل اعلان قيام اسرائيل، كانوا يدركون أهمية الإرهاب البيولوجي باعتباره حل مهم لحماية ما اسماه ديفيد بن جوريون في مراسلاته “اقلية سوف تعيش وسط اغلبية عربية”.

في 4 مارس 1948 وقبل اعلان قيام إسرائيل ببضعة أشهر، بن جوريون رئيس الوكالة اليهودية وحزب العمل الإسرائيلي والمنظمة الصهيونية العالمية، ولاحقاً اول رئيس وزراء لإسرائيل وأول وزير للدفاع، كتب 1948 إلى إيهود أفريل الناشط في الوكالة اليهودية يطلب منه البحث عن وتجنيد العلماء اليهود الأوروبيين الشرقيين الذين يمكنهم “إما زيادة القدرة على قتل الجماهير أو علاج الجماهير؛ كلا الأمرين مهمان”(12).

استمرت الشائعات حول عمليات الأسلحة البيولوجية في القرى والبلدات الفلسطينية خلال حرب 1948، كما أثارت تقارير الصليب الأحمر الدولي الشكوك في أن ميليشيا الهاجاناه الإسرائيلية أطلقت بكتيريا السالمونيلا في إمدادات المياه لمدينة عكا، مما تسبب في تفشي التيفويد بين السكان.

وفي 23 مايو 1948 قبض الجنود المصريون في قطاع غزة على أربعة جنود إسرائيليين متنكرين في زي عرب بالقرب من آبار المياه.

البيان الصادر عن وزارة الدفاع المصرية بتاريخ 29 مايو 1948 أشار الى أنه تم القبض على أربعة “صهاينة” وهم يحاولون إصابة الآبار الارتوازية في غزة بـ “جراثيم التيفويد” (13) وهنالك تضارب في كتب التاريخ حول نهاية العناصر التخريبية الصهيونية الأربع، قيل انهم عرضوا على محكمة عسكرية مصرية سريعة في غزة وصدر حكم بالإعدام وتم تنفيذه، وفى كتب أخرى انه جرى اشتباك بين العناصر الأربع والجيش المصري وتم تصفية المخربين الأربع.

كورونا ونظرية المؤامرة

ومما لا شك فيه ان انتشار وباء ضخم بقدر كورونا دائماً ما يصاحبه حزمة من نظريات المؤامرة، ولكن بدون شك ان اثبات المؤامرة من عدمه من داخل الحكومات او عبر وثائق أثناء حدوث الوباء هو امر مستحيل، هي حقائق ربما نعرف عنها القليل بعد عدة سنوات ربما تصل الى ربع قرن من الزمن، ولكن ان تجد ورقة واحدة رسمية تثبت او تنفي المؤامرة في زمن الوباء نفسه فهذا أمر مستحيل.

+ posts

باحث سياسي

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى