خدمة مقالات كبار الكتاب والباحثين

لماذا انسحبت إثيوبيا من مفاوضات سد النهضة؟

في السادس والعشرين من فبراير، وقبل يوم واحد من موعد بدء اجتماعات التوقيع على المسودة الأمريكية الخاصة باتفاقية ملء وتشغيل سد النهضة، أعلنت إثيوبيا اعتذارها عن المشاركة، وأن الوفد الإثيوبي لن يغادر العاصمة أديس أبابا للمشاركة في الاجتماع المنعقد برعاية أمريكية في واشنطن، متذرعة بارتباط التوقيع على الاتفاقية المهمة بالأوضاع الداخلية في إثيوبيا حيث بدأت بالفعل إجراءات الاستعداد لعقد الانتخابات العامة بعد نحو ستة أشهر.

ويأتي هذا الغياب الإثيوبي عن اجتماعات السابع والعشرين والثامن والعشرين من فبراير بعد أن تسلمت مصر والسودان وإثيوبيا في الرابع والعشرين من الشهر ذاته النسخة الأولى المكتملة لمسودة اتفاق ملء وتشغيل السد، والتي أعدتها وزارة الخزانة الأمريكية بعد جولات متعددة من المفاوضات شاركت فيها الولايات المتحدة والبنك الدولي بصفة مراقب منذ نوفمبر الماضي.

وأثار هذا الموقف الإثيوبي المفاجئ العديد من الأسئلة بشأن الدوافع الإثيوبية الحقيقية للانسحاب من المفاوضات في مرحلتها الأخيرة، والتي تمثلت في عدد من الأسباب المترابطة هي:

  • استمرار إثيوبيا في سياسة المماطلة وكسب الوقت، وذلك من خلال المشاركة في جولات التفاوض، قبل الانسحاب من الجولة النهائية، وطلب مهلة زمنية إضافية، في الوقت الذي لا تزال فيه أعمال التشييد والبناء في موقع السد مستمرة دون تعطل أو انقطاع. ويعد هذا الموقف نموذجاً مكرراً لما جرى خلال المفاوضات الثلاثية قبل التدخل الأمريكي، الأمر الذي يشير لإمكانية تكراره، من خلال عودة إثيوبيا للانفتاح مجدداً على المفاوضات قبل التراجع في اللحظة الأخيرة عن توقيع أي اتفاق ملزم.
  • عكست السياسة الإثيوبية من قضية مفاوضات سد النهضة تغليباً واضحاً للاعتبارات التكتيكية ذات الأفق الزمني الضيق، على الاعتبارات الاستراتيجية التي تمثل نقطة ارتكاز الموقف المصري، وهو ما كان وراء الكثير من المواقف الإثيوبية المتعنتة غير المبررة. حيث لا يتمتع صانع السياسة الإثيوبية في ظل التحديات الجسيمة التي تواجهها داخلياً وإقليمياً بترف استشراف التداعيات بعيدة المدى لتبني نهج الحلول الأحادية في ملف سد النهضة، بما في ذلك تعريض الأمن القومي الإثيوبي نفسه للخطر.
  • يتمثل السبب الرئيسي وراء النظرة الضيقة للمفاوض الإثيوبي في الوضع الداخلي بالغ التردي الذي تعاني منه البلاد منذ وفاة رئيس الوزراء ميلس زيناوي عام 2012، حيث فقدت البلاد التوازن الذي كان قائماً بين مكوناتها السكانية المتنوعة والمتصارعة في الكثير من الأحيان على امتداد تاريخ البلاد. وعلى الرغم من أن التوازن الذي قام خلال عهد زيناوي قد عكس انحيازاً واضحاً لـ “جماعة التيجراي” التي ينتمي إليها، إلا أنه وفر الحد الأدنى من الاستقرار اللازم للخطوات الواسعة التي قامت بها البلاد على الصعيد التنموي خاصة في العقد الأخير لزيناوي مستعينة بكافة أدوات الإكراه التي امتلكتها الدولة. وقد أدى اختلال الاستقرار الداخلي لتعرض الحكومة الإثيوبية لخطر داهم يتمثل في تصاعد أعمال العنف الإثني والديني، وتصاعد النزعات المتطرفة والانفصالية لدى العديد من الجماعات، في ظل عجز الحكومة عن تقديم حلول مستدامة للمشكلات الرئيسية على المستوى السياسي والأمني والاقتصادي.
  • على خلفية النقاط الثلاث السابقة، يأتي الانسحاب الإثيوبي المفاجئ من مفاوضات سد النهضة ليؤكد سعي الحكومة الحالية لاستغلال هذا الملف لأغراض انتخابية بالأساس، في ظل تحديد موعد لعقد الانتخابات العامة في التاسع والعشرين من أغسطس من العام الجاري، وهي الانتخابات التي يسعى من خلالها آبي أحمد للحصول –للمرة الأولى- على ثقة الهيئة الناخبة بعد التغييرات الهيكلية التي أدخلها على بنية الحزب الحاكم. إذ يسعى آبي أحمد لتجنب توقيع الاتفاق النهائي الذي سيكشف بوضوح عن الفجوة الكبيرة بين الخطاب الإثيوبي الداخلي المتعلق بسد النهضة، وبين ما تسمح به التوازنات الإقليمية والدولية على أرض الواقع. كما يسعى آبي أحمد للبدء في ملء السد على الرغم من عدم اكتماله النهائي قبل مطلع عام 2023 -وفق البيانات الرسمية الفنية الإثيوبية- قبيل عقد الانتخابات لتعزيز حظوظه في الحصول على أكبر قدر من الأصوات، والظهور بمظهر السياسي القوي القادر على الصمود أمام الضغوط الإقليمية والدولية.
  • في اللحظة الراهنة، يدرك صانع القرار الإثيوبي أن فرص الوصول ليوليو القادم بدون التوقيع على اتفاق ملزم، وما يلي ذلك من البدء بصورة أحادية غير خاضعة للمراقبة في ملء خزان سد النهضة ضئيلة للغاية، وذلك في ظل الموقف المصري القوي في حماية حقوق مصر المائية والمدعم برصيد طويل من الانفتاح الإيجابي على المسار التفاوضي وصولاً لتوقيعها على مسودة الاتفاق الأمريكي، والموقف الأمريكي الحاسم الذي عبر عنه البيان العاجل الذي صدر عن وزير الخزانة الأمريكي في التاسع والعشرين من فبراير الذي أكد أنه لا يجوز ملء الخزان بدون اتفاق. هذا الوضع دفع الجانب الإثيوبي لإصدار بيان تضمن بعض الصياغات المتشددة، إلا أنه في النهاية عاد أوكد التزام إثيوبيا بالانخراط في المفاوضات مع مصر والسودان وصولاً لاتفاق نهائي منظم لعملية الملء الأول، والتشغيل السنوي لسد النهضة.
  • استمرار سلسلة التقديرات الإثيوبية الخاطئة لمواقف الأطراف المختلفة المنخرطة في مفاوضات ملء وتشغيل السد، بدايةً من الظن بإمكانية فرض الأمر الواقع على مصر من دون إمكانية حقيقية لرد فعل مصري رادع، ووصولاً للاعتقاد بإمكانية مراوغة الإدارة الأمريكية في ظل تصور خاطئ لعدم جديتها في رعاية الجولات الأخيرة من المفاوضات والتي يعتقد الجانب الإثيوبي أنه تحرك جاء لأغراض تعزيز فرص الرئيس ترامب في الفوز بولاية ثانية في انتخابات نوفمبر المقبل، وليس نتيجة استشعار الولايات المتحدة بإمكانية تحول النهج الإثيوبي المتعنت في التعامل مع قضية سد النهضة إلى مهدد حقيقي للأمن والاستقرار الإقليميين، بما يفرضه من لجوء الأطراف المتضررة إلى إجراءات استثنائية لمجابهة هذا التحدي الوجودي.

وأمام الموقف المصري الحاسم الرافض للانسحاب الإثيوبي من المفاوضات، والمدعوم بقوة من الإدارة الأمريكية، وأطراف أخرى متعددة من المجتمع الدولي، يتعين على إثيوبيا إعادة النظر في التداعيات الخطيرة التي قد تطالها على المدى الزمني القريب والبعيد، إذا ما تحول تصعيدها على مستوى الخطاب الرسمي إلى إجراءات حقيقية على أرض الواقع.

+ posts

رئيس وحدة الدراسات الأفريقية

د.أحمد أمل

رئيس وحدة الدراسات الأفريقية
زر الذهاب إلى الأعلى