أفريقيا

العثمانية التركية الجديدة في إفريقيا

منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، شهدت السياسة الخارجية التركية انفتاحا على مناطق الشرق الأوسط، آسيا الوسطى، القوقاز والبلقان. ولكن، وبعد انقضاء أكثر من سبعين عاماً من التهميش، بدأت السياسة التركية في الانخراط في القارة الإفريقية، إداركاً منها بأن تأثرها الدولي والإقليمي لن يكون فاعلاً إلا من خلال انفتاحٍ جديد على القارة السمراء، وخاصة بعد فشل خطة ” الإنفتاح على إفريقيا ” التي وضعتها الخارجية التركية عام 1998 نتيجة تدهور الاوضاع السياسية الداخلية المضطربة آنذاك.

وتمثّل هذا الانفتاح في نظرية ” العمق الإستراتيجي ” ضمن استراتيجية القوة الناعمة ” صفر مشاكل ” ومهندسها وزير الخارجية التركي الأسبق ” أحمد داوود أوغلو “. وقد بدأ النفوذ التركي في التزايد منذ فترة الربيع العربي عام 2011 وحتى الآن، وزاد بشكل مضاعف منذ تولي رجب طيب إردوغان رئاسة تركيا عام 2014 في إطار تطلعاته أن تكون بلده قوة إقليمية ذات امتداد عالمي ضمن رؤية ” تركيا 2023 “. 

وانبثق ذلك التوسع من خسارة أنقرة نفوذها في القاهرة بعد ثورة الثلاثين من يونيو عام 2013 التي أطاحت بحلفائها من تنظيم الإخوان الإخوان والعداء القائم مع الإدارة السورية، لتبحث عن مناطق نفوذ جديدة لاستعادة أمجاد العثمانية القديمة، مستخدمة استراتيجية قومية/إسلامية مُزدوجة، وسياسة خارجية مُتعددة الأبعاد على أدوات الدبلوماسية، الإقتصاد، العسكرية، المساعدات الإنسانية والثقافية، مستغلة إياها كستار لدعم الإرهاب الذي يُعد في حد ذاته أداة رئيسة ضاغطة لأنقره تخدم سياستها الخارجية ذات الطابع الإستعماري الواضح.

أدوات التوسع التركي في إفريقيا

1- الدبلوماسية :

منذ توليه رئاسة تركيا عام 2014 وحتى 2019، زار أردوغان 21 بلدا إفريقيا، كما حضر مراسم تنصيبه رئيسا للبلاد فى يوليو 2018 بعد الانتخابات الرئاسية، رؤساء كل من الصومال، جيبوتي، إثيوبيا، تشاد، غينيا الاستوائية، غانا، غينيا بيساو، غينيا كوناكري، موريتانيا وزامبيا.

C:\Users\thund\Desktop\Africa-Turkey.jpg
C:\Users\thund\Desktop\Untitled-28.png
C:\Users\thund\Desktop\1200px-Turkish_Army_Base_-_Mogadishu.jpg
C:\Users\thund\Desktop\HAiti (1).1024..jpeg

وبينما كانت تمتلك تركيا 12 سفارة في إفريقيا عام 2009، فقد وصل هذا العدد حالياً إلى 42 سفارة و4 قنصليات عامة. كما نالت تركيا صفة المراقب لدى منظمة الإتحاد الإفريقي عام 2005، وحصلت كذلك على صفة الشريك الاستراتيجي عام 2008.


هذا إلى جانب ما تلعبه المؤسسات التركية من دورٍ بارزٍ فى تعزيز نفوذ أنقره لدى القارة السمراء، وأبرز تلك المؤسسات هي وكالة الأناضول الرسمية للأنباء، الوكالة التركية للتعاون والتنسيق ” تيكا “، إدارة الكوارث والطوارئ ” أفاد “، معهد يونس إمره للثقافة التركية، ووقف ” معارف ” لإنشاء المدارس في دول العالم، والخطوط الجوية التركية.

2- الإقتصاد :

تمتلك القارة الإفريقية فرصا واعدة للاستثمار، وسوقا استهلاكية ضخمة مدعومة بتعداد سكاني يقارب 1.3 مليار نسمة، وتسعى أنقرة لاقتناص أسواقاً وشركاء جُدد تُضاف لما لديها من أسواقِ وشركاءٍ في روسيا وأوروبا.

فقد بلغ حجم التبادل بين أنقرة والعواصم الإفريقية خلال عام 2017 حوالي 17.5 مليار دولار، ووصل في 2019 إلى 21.5 مليار دولار، وبعد أن كان في مستوى 3 مليارات في عام 2003. وهناك توقعات بأن تتجاوز الاستثمارات التركية في البلدان الإفريقية الـ7 مليارات دولار في الوقت الحالي.



ووقعت تركيا، حتى الآن، اتفاقيات تعاون تجاري واقتصادي مع 46 بلداً إفريقياً، إضافة إلى اتفاقية تحفيز وحماية الاستثمارات بشكل متبادل مع 28 دولة، واتفاقية تجنب الازدواج الضريبي مع 12 دولة في القارة السمراء. كما تعقد تركيا اجتماعات اللجنة الاقتصادية المشتركة مع 27 بلداً إفريقياً، ولديها مجلس علاقات اقتصادية خارجية مع 43 دولة إفريقية.

وبهدف تعزيز التفاعل بين أنقرة وعواصم القارة، تسير الخطوط الجوية التركية رحلات منتظمة إلى 53 وجهة في 35 بلدا إفريقيا.

وأبرمت تركيا اتفاقايات في مجال الطاقة مع السودان وكينيا والنيجر والكاميرون، وعززت من استمثاراتها في الصومال -ذات الأهمية- على قطاعات الصحة والمطارات والموانىء، . كما تعد تركيا أكبر مستثمر أجنبي في الجزائر بحجم استثمارات بلغت قيمتها 4.5 مليار دولار عام 2019.

3- التواجد العسكري :

أولت تركيا الصومال اهتماماً خاصاً لموقعها الجيوستراتيجي في القرن الإفريقي والمطل على مدخل مضيق باب المندب، وتوّجت هذا الاهتمام بافتتاحا قاعدتها العسكرية الخارجية الأكبر والثانية لها بعد قاعدتها الأولى في قطر، على بعد 10 كم جنوب غربي مقديشيو، وتحوي مدرسة تسمح بتدريب 1000 جندي في آن واحد، ومن المتوقع أن يصل عدد من سيتدرب بها من جنود صوماليون إلى 10000 جندي، ويتمركز بها 200 جندي تركي.


ويأتي بناء القاعدة بالقرب من مضيق باب المندب، كبداية لسلسلة من القواعد العسكرية المستهدف العمل على إنشائها خلال السنوات القليلة القادمة في الدول الأفريقية، وتحديداً دول الساحل والصحراء، كالسودان وتشاد والنيجر، تحت ذريعة التعاون العسكري وتدريب جيوش تلك الدول وتسليحها لمواجهة الإرهاب الذي وفقا لمحللين ستعمل أنقره نفسها على نشره وتصديره لتلك الدول واستخدامه كأداه -إلى جانب باقي أدواتها سالفة الذكر- للضغط على حكومات تلك الدول لتنفيذ أجندتها العسكرية الخادمة لسياستها الخارجية.

رغم خسارة تركيا حليفها في السودان وهو الرئيس المعزول ” عمر البشير ” وكذا خسارتها لإدارتها جزيرة سواكن المطلة على البحر الأحمر والتي كان يمكن من خلالها أن تُنشىء قاعدة جديدة في مواجهة الأراضي السعودية من الجانب الآخر للبحر وتطويقها بالاشتراك معه القاعدة الشرقية في قطر والجنوبية في الصومال، إلا أنها مازالت لديها مساعٍ لإنشاء قواعد عسكرية هناك.

4- دعم الإرهاب بالمسارين الناعم والخشن :

تعتمد تركيا في استراتيجيتها للنفوذ في الداخل الإفريقي على الاستغلال الديني ( استخدام الإرث العثماني الإسلامي القديم في القارة )، لخلق جماعات ذات فكر متطرف ذات ولاءٍ لأنقره، وباستخدام أدواتها الناعمة ممثلة المساعدات الإنسانية ومنظمات الإغاثة والمدارس والمنح الدراسية، والخشنة ممثلة في شحنات الأسلحة وتفقدات المقاتلين من التنظيمات الإرهابية الموالية لها في سوريا. 

ففي الصومال والسودان والنيجر والكاميرون ومدغشقر، نجد نشاطا مكثفا لعدد من الوكلات والمؤسسات التركية التي تقدم المساعدات والإغاثة، كوكالة التعاون والتنسيق ” تيكا ” ومؤسسة ” ديانيت ” التي تعمل تحت مديرية الشؤون الدينية التي توفر المنح العلمية للدراسات الاسلامية للطلاب من إفريقيا والبلقان وأمريكا اللاتينية ووسط اسيا في تركيا، إلى جانب هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات ” IHH ” التي تنشط في 135 دولة على مستوى العالم وتعمل على جمع التبرعات تحت ذريعة حفر الآبار وبناء المساجد والمستشفيات والمدارس ودور الأيتام والمراكز الثقافية.

وكان موقع “نورديك مونيتور ” قد كشف عن وثائق أمريكية تفضح عملية تحويل مبلغ 600 ألف دولار من الاستخبارات التركية إلى حركة الشباب الإرهابية في الصومال،  قبل الهجوم المسلح الذى وقع في نيروبى في يناير 2019، وقامت الحكومة التركية بوقف التحقيقات التي انطلقت بعد الإخطار الذي أرسله مكتب مساعد وزير الخزانة الأميركي لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية.

C:\Users\thund\Desktop\34325356.jpg

وفي ليبيا سارع إردوغان بتوقيع اتفاقية التعاون الأمني والحدود البحرية مع فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الموالية لأنقره نهاية نوفمبر 2019 والذي كان ذريعة لتدفق المساعدات العسكرية التركية “مركبات مدرعة – طائرات مسيرة بدون طيار – أنظمة دفاع جوي – ضباط وخبراء عسكريون” والعناصر الإرهابية المسلحة لدعم مليشيات الوفاق في معركتها ضد الجيش الوطني الليبي، لخلق واقع جديد لإنقاذ مصالح أنقره المهددة في أرض عمر المختار، والتي تشمل عمليات الإعمار، التنقيب عن الغاز والنفط، إنشاء قواعد عسكرية، التوسع في النفوذ في منطقة شمال أفريقيا وحزام الساحل والصحراء إنطلاقاً من الأراضي الليبية التي ستصبح بمثابة نقطة الإرتكاز، لتطويق الدولة المصرية بالنفوذ التركي في المناطق المذكورة وصولا لمنطقة القرن الإفريقي التي تشهد وجودا عسكريا تركيا فعليا متمثلاً في القاعدة العسكرية سالفة الذكر بالصومال.

وعليه، فإنه يتوجب علينا الإشارة لشركة SADAT التركية الأمنية الخاصة، التي تضلع في تدريب العناصر الإرهابية بإشراف من جهاز الإستخبارات التركي وإرسالهم خارج الحدود التركية لمناطق الصراع المختلفة وعلى رأسها ليبيا. وبحسب المصادر السورية فإن أغلب من وصلوا إلى الأراضي الليبية، هم تركمان سوريون، غادروا الأراضي السورية باتجاه مدينة غازي عنتاب التركية ومن ثم غادروا من هناك إلى أنقرة، ومنها بالطائرة إلى تونس، فالحدود البريّة مع ليبيا. وقد أوكلت الاستخبارات التركية مهمة تجنيد السوريين الّذين سيحاربون في ليبيا إلى فصيل “السلطان مراد”، وهو من الفصائل السورية الموالية لأنقرة ويقوده مقاتلون تركمان سوريون.

خاتمة :

ا شك في أن تركيا تتبع سياسة استيعاب موسعة مع دول القارة الإفريقية، في محاولة منها لإعادة تشكيل شعوبها دينيا وثفاقيا واجتماعيا بما يخدم مصالحها، ويضمن لها استعادة إرثها العثماني القديم، لخلق عثمانية جديدة تقوم على تبعية سياسية واقتصادية وعسكرية، واستغلالاً لظروف وأوضاع تلك الدول ذات الحاجة الماسة للمساعدة والدعم في مختلف المجالات سالفة الذكر، ولعباً على أوتار الدين والتاريخ والتخلص من التبعية للمستعمر الأوروبي القديم.

ولكن، وعلى الجانب الآخر يبقى الدور المصري المتصاعد في المنطقة العقبة الرئيسية أمام الأطماع التركية، ويأتي ذلك نتاجاً لانتهاج القاهرة لسياسات ذات آثار تركمية لردع تحركات أنقره على مختلف المحاور :

– بناء قوة عسكرية قادرة ذات أذرع طولى ورادعة على المستوى الإقليمي.

– استعادة زخم الدبلوماسية والقوى المصرية الناعمة وتعزيز الصورة الذهنية للدولة المصرية لدى الدول الإفريقية.

– بناء محاور أمنية وصياغة مفاهيم مُوحدة للأمن المشترك وتعزيز التعاون العسكري مع تجمع دول الساحل والصحراء من خلال إنشاء المركز الإقليمي لمكافحة الإرهاب وكذا المساعي لتشكيل قوة أفريقية مشتركة لمكافحة الإرهاب.

– تعزيز العلاقات الاقتصادية والثقافية وتشجيع الاستثمارات والمشاريع التنموية والمحاور والتحالفات التجارية مع الدول الإفريقية لاحتواء أطماع أنقرة في المنطقة بشكل عام ومنعها من الاشتباك مع الجوار الجغرافي للقاهرة بشكل خاص.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى