أوروباالأمريكتان

هل يمثل الاتفاق الأمريكي الألماني مؤشر لبدء تشغيل “نورد ستريم 2″؟

يهز خط أنابيب الغاز الطبيعي “نورد ستريم-2” (Nord Stream- 2) الذي يجري بناؤه تحت بحر البلطيق من روسيا إلى الساحل الألماني الجغرافيا السياسية، فدائمًا ما يثير هذا الخط مخاوف الولايات المتحدة الأمريكية ودولاً أخرى من تزايد النفوذ الروسي على سوق الطاقة الأوروبي بمجرد تشغيل هذا الخط.

على صعيد أخر وعقب زيارة المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” لواشنطن منتصف يوليو الماضي، توصل الجانبين الى اتفاق بشأن استمرار العمل في خط الغاز والانتهاء من أعماله وبدء تشغيله في أقرب وقت ممكن، فهذا الاتفاق الذي توصل إليه الجانين ينهى الخلافات الطويلة والتوترات التي استمرت لسنوات بين الجانبين بشأن مشتريات الغاز الألمانية من روسيا.

وفي السطور التالية سنتطرق لمدى أهمية هذا الخط؟ وأسباب التخوف الأمريكي؟ ولماذا تغير الموقف الأمريكي نحو القبول بالأمر الواقع؟ مع قراءة للاتفاق الأمريكي الألماني وانعكاسات ذلك على الأطراف المختلفة.

أهمية خط الغاز الطبيعي نورد ستريم 2

المشروع الذي أوشك على الاكتمال، عبارة عن خط غاز طبيعي يمتد من الحقول الروسية إلى الساحل الألماني، ويمتد لمسافة 764 ميلاً تحت بحر البلطيق. وسيضاعف الخط الذي تبلغ تكلفته الإجمالية ما يقرب من 9.5 مليار يورو (ما يعادل 11 مليار دولار) طاقة خط نورد ستريم الأصلي الذي تم افتتاحه في عام 2011. وسيقوم الخط بتوريد الغاز إلى ألمانيا – وهي دولة تعتمد بشكل كبير على واردات الغاز والنفط – بتكلفة منخفضة نسبيًا.

ومن بين أكبر المساهمين في هذا المشروع شركة “غازبروم” الروسية، التي تغطي أكثر من نصف التمويل. كما تم إبرام اتفاقيات تمويل إضافية للمشروع مع مجموعات “إنجي” الفرنسية، “أو إم في” النمساوية، و”شل” بين هولندا وبريطانيا، والشركات الألمانية “يونيبر” و “وينترشال ديا”.

وتتأتى أهمية هذا الخط من كونه يساعد ألمانيا في تأمين إمدادات منخفضة التكلفة نسبيًا من الغاز في وقت يقوم فيه المنتجون الأوروبيون بخفض الإنتاج. كما أنه جزء من جهود شركة “غازبروم” المستمرة منذ عقود لتنويع صادراتها إلى أوروبا.

أسباب التخوف الأمريكي

تعارض الولايات المتحدة الأمريكية هذا الخط، بحجة أنه يمنح الكثير من القوة السوقية (وبالتالي الجيوسياسية) للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بما يُعزز من حكمه الديكتاتوري للبلاد، لذا عارض المسؤولون الأمريكيون في ظل الإدارتين الرئاسيتين السابقتين نورد ستريم 2، خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى زيادة نفوذ موسكو الاقتصادي والسياسي عبر أوروبا، نتيجة اعتماد الأخيرة على الغاز الطبيعي الروسي، فعلى سبيل المثال (في عام 2020 بلغت واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي الروسي 43%). كما أن التخوف من أن يتم استخدامه لابتزاز حلفاء الولايات المتحدة. كما ترى واشنطن أن استكمال هذا الخط سيسهم بشكل كبير في عزل أوكرانيا، لكن روسيا توضح إن الاهتمام الأمريكي بأوكرانيا مجرد خدعة، وأن الولايات المتحدة تعمل على تعطيل ووقف الصفقة حتى تتمكن من شحن المزيد من الغاز الطبيعي المسال الخاص بها إلى أوروبا، وهو ما عبر الرئيس السابق “دونالد ترامب” بأن الولايات المتحدة تريد بيع المزيد من الغاز الطبيعي المسال (الذي أطلق عليه اسم “غاز الحرية”) إلى أوروبا من أجل منافسة الغاز الروسي.

هل نورد ستريم 2 مشروع لعزل أوكرانيا؟

قبل افتتاح الخط الأول من “نورد ستريم”، كانت روسيا ترسل حوالي ثلثي صادراتها من الغاز إلى أوروبا عبر خطوط أنابيب في أوكرانيا. ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي تركت العلاقات المضطربة بين البلدين “شركة غازبروم” عرضة للاضطرابات، وفي عام 2009، أوقف نزاع على الأسعار تدفق الغاز عبر أوكرانيا. منذ ذلك الحين، ساءت العلاقات بين روسيا وأوكرانيا، وبلغت ذروتها في الثورة الأوكرانية التي أطاحت بالرئيس الموالي لروسيا وأدت إلى استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم في عام 2014.

وفي هذا السياق، تعتبر أوكرانيا “نورد ستريم 2” بمثابة “حبل مشنقة” روسي حول رقبتها، وذلك لأن جزء كبير من الغاز الطبيعي الذي يتدفق من روسيا إلى أوروبا حاليًا يمر عبر أوكرانيا، مما يكسب البلاد حوالي ملياري دولار سنويًا من رسوم العبور، وهو ما يمثل جزء هام من ميزانية الدولة، وحال استكمال هذا الخط ستكون أوكرانيا أول وأكثر المتضررين.

ومنذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، وعدت روسيا بالحفاظ على تدفق الغاز عبر أوكرانيا حتى نهاية عام 2024 على الأقل، لكن الحكومة في كييف قلقة أنه بمجرد اكتمال خط الغاز “نورد ستريم 2” ستحول روسيا إمداداتها من الغاز مباشرة إلى ألمانيا، بما يُسهم في إضعاف وعزل كييف.

العقوبات الامريكية ضد نورد ستريم 2

لمعاقبة الكرملين على ضم شبه جزيرة القرم، حاول الكونجرس الأمريكي تعطيل الانشاءات الجارية في خط الأنابيب من خلال فرض عقوبات على بعض الشركات المشاركة في الإنشاء. بينما اتخذ الرئيس الأمريكي الحالي “جو بايدن” نهجًا أكثر واقعية، عندما أوضح أن إدارته تُصر على معارضة المشروع لأسباب أمنية، وذلك لإرضاء صقور روسيا في الكونجرس، وفرضت عقوبات على الكيانات والسفن المرتبطة بخط الأنابيب، كانت هذه العقوبات أكثر بكثير من تلك التي فرضها الرئيس الأسبق “ترامب”. 

وكانت العقوبات الأمريكية قد أجبرت الشركات المتعاقدة في انشاء الخط على التوقف، ولم يكن يتبقى حينذاك سوى 99 ميلاً على أن ينطلق في عام 2019.

الاتفاق الأمريكي الألماني بشأن خط الغاز

وفي خطوة أثارت غضب الدول والمشرعين المعارضين لخط الأنابيب، تخلت إدارة بايدن عن تلك العقوبات في مايو 2021. وأعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية “نيد برايس” أنه من غير المنطقي فرض عقوبات على الحلفاء بسبب مشروع اكتمل انشائه بنسبة تزيد عن 90%، بالإضافة إلى ذلك، أوضح إن الإعفاءات من العقوبات تتماشى مع التزام بايدن بإعادة بناء العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين، كما أن استمرار العقوبات ستأتي بنتائج عكسية للولايات المتحدة الأمريكية خاصة في علاقتها عبر الأطلسي.

وخلال زيارة المستشارة الألمانية –أحد الداعمين بقوة لخط الغاز نورد ستريم 2-  للولايات المتحدة الأمريكية منتصف يوليو الماضي، ناقشت مع الرئيس بايدن خط أنابيب نورد ستريم 2.

كانت ميركل قد تعرضت لضغوط من المشرعين الألمان لإسقاط المشروع بعد تسميم المعارض السياسي الروسي “أليكسي نافالني” في عام 2020. لكنها ردت بأن إنشاء خط الأنابيب لا ينبغي ربطه “بالحالات الفردية” مثل قضية نافالني. ومن بين المعارضين الآخرين أوكرانيا وبولندا وسلوفاكيا – وهي دول تقع بين روسيا وألمانيا تجمع رسوم عبور الغاز المتدفق عبر أراضيها. تم التخفيف جزئيًا من مخاوفهم بعد أن توصلت شركة غازبروم إلى اتفاق لمواصلة نقل الغاز عبر أوكرانيا حتى عام 2024 على الأقل.

كما يرسم الاتفاق بين الولايات المتحدة وألمانيا، مسارًا للمضي قدمًا في المشروع مع معالجة المخاوف بشأن التأثير الجيوسياسي للاعتماد المحتمل على الغاز الروسي.

بنود الاتفاقية

مع وصول خط الغاز الطبيعي “نورد ستريم 2” مراحله النهائية. توصلت الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا إلى اتفاق لمعالجة الخلافات القائمة منذ فترة طويلة بشأن هذا الخط ويتضمن الاتفاق ما يلي:

  • تستثمر ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية 50 مليون دولار في البنية التحتية الاوكرانية للتكنولوجيا الخضراء، بما في ذلك الطاقة المتجددة والصناعات ذات الصلة. كما ستدعم ألمانيا محادثات الطاقة في “مبادرة البحار الثلاثة”، وهي منتدى دبلوماسي لأوروبا الوسطى.
  • ستحاول برلين وواشنطن ضمان استمرار أوكرانيا في تلقي ما يقرب من 3 مليارات دولار كرسوم عبور سنوية تدفعها روسيا بموجب اتفاقها الحالي مع كييف، والذي يمتد حتى عام 2024.
  • تسعى الولايات المتحدة وألمانيا بموجب مسوَّدة الاتفاقية إلى تشجيع استثمارات تصل إلى مليار دولار، فيما يسمى بالصندوق الأخضر لمساعدة أوكرانيا في الانتقال إلى مصادر طاقة نظيفة. إذ ينصُّ الاتفاق على التزام ألمانيا باستثمار مبدئي بقيمة 175 مليون دولار في الصندوق. كما ستقوم ألمانيا بتعيين مبعوث خاص بتمويل قدره 70 مليون دولار لدعم مشاريع الطاقة الثنائية مع أوكرانيا.
  • بموجب الاتفاقية، إذا حاولت روسيا استخدام الطاقة كسلاح اقتصادي أو ارتكاب عدوان على أوكرانيا، فإن ألمانيا ستتخذ إجراءات بنفسها بينما تضغط أيضًا من أجل اتخاذ تدابير على المستوى الأوروبي، بما في ذلك فرض عقوبات للحد من صادرات الطاقة الروسية.
  • ستحتفظ الولايات المتحدة بصلاحية فرض عقوبات مستقبلية على خطوط الأنابيب في حالة الإجراءات التي يُنظر إليها على أنها تمثل إكراهًا روسيًا في مجال الطاقة.

في السياق ذاته، رفضت ألمانيا مطلبًا أمريكيًا بتضمين ما يسمى بفقرة “مفتاح إيقاف التشغيل” في قواعد تشغيل خط الأنابيب. وكان هذا سيمكن برلين من تعليق تدفق الغاز إذا اتخذت روسيا خطوات عدوانية تجاه جيرانها أو حلفائها الغربيين. جادل المفاوضون الألمان بأن مثل هذا التدخل الحكومي في مشروع مملوك للقطاع الخاص يمكن سيمثل تحدي قانوني للاتفاقية، لكن برلين وافقت بدلاً من ذلك على عدم رفض عقوبات مستقبلية ضد قطاع الطاقة الروسي.

وقد أثار الحديث عن الصفقة غضب المسؤولين الأوكرانيين، الذين ينظرون إلى شبكة خطوط الأنابيب الحالية في بلادهم كنقطة ضغط مهمة ضد روسيا في الصراع بين البلدين المستمر منذ سبع سنوات.  وفي طمأنة للجانب الأوكراني شددت المستشارة الامريكية “أنجيلا ميركل” على أن ” نورد ستريم-2″ ليس بديلاً عن إمدادات الغاز التي تمر عبر أوكرانيا.

متى يبدأ تشغيل خط الغاز؟

بعد الاتفاق بين بايدن وميركل، من المتوقع أن يتم الانتهاء من الخط بحلول نهاية أغسطس الجاري، ومن المقرر أن يبدأ “نورد ستريم 2” في نقل الغاز في وقت لاحق من هذا العام، خاصة بعد إعلان الحكومة الألمانية الانتهاء من إصدار جميع التصاريح المتعلقة بالإنشاء، كما توقعت أن يتم إطلاقه في وقت مبكر من هذا العام، حيث لا تزال الشركات المشاركة في إنشاء الخط تقوم بعملها.

كما أعرب “بايدن” للمستشارة الألمانية أن الولايات المتحدة لديها مخاوف مستمرة بشأن كيفية تهديد المشروع لأمن الطاقة الأوروبي، وتقويض أمن أوكرانيا وأمن الحلفاء والشركاء، لكنه في الوقت ذاته وجه الموظفين للعمل بشكل مشترك مع نظرائهم الألمان لإتمام الاتفاق. ووصف السناتور الجمهوري “تيد كروز” من تكساس اتفاق الولايات المتحدة مع ألمانيا بأنه “استسلام كامل وشامل” من قبل الرئيس الأمريكي جو بايدن لبوتين.

انعكاسات الاتفاقية على الأطراف المختلفة.. الجميع فائز

الاتفاق بين ألمانيا والولايات المتحدة، والذي يبدو للوهلة الأولى أنه في صالح روسيا، هو في الواقع مفيد لجميع الأطراف – حتى أوكرانيا.

بالنسبة لألمانيا: يُمثل استكمال هذا الخط انتصارًا للسيادة الألمانية، فرغم المعارضة الشديدة داخليًا وخارجيًا، إلا ان المستشارة الألمانية تمكنت من التوصل لاتفاق مع الولايات المتحدة الامريكية يُفضى باستكمال المشروع. فالاتفاق الذي بدى بالنسبة لبعض الدول مثل –كييف ووارسو- وكأنه انتصار للكرملين، فهو في الواقع انتصار لألمانيا، فدون أن تعبر برلين عن دعمها المشروع، فإن الكرملين سيكون عاجزًا عن استكماله بمفرده.

بالنسبة لروسيا: تعني الصفقة بين الولايات المتحدة وألمانيا أنها ستكون قادرة على مضاعفة حجم الغاز الطبيعي المُصدَّر مباشرةً إلى ألمانيا عبر خط الأنابيب تحت بحر البلطيق، مع تجاوز الطريق الحالي عبر أوكرانيا.

بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية: بالسماح لألمانيا بفعل ذلك بمباركة الولايات المتحدة، تكون إدارة بايدن قد تمكنت بعدم السماح للدول الأخرى بتركها على الهامش، بل باتت الأن الصديق والحليف والضمان لمصالح الأخرين وذلك بمشاركتها هذا الجهد مع الألمان.

بالنسبة لأوكرانيا: فإن الغرب يحاول تعويضها عن وضعها الضعيف من خلال تضمينها في انتقال الطاقة على مستوى أوروبا. فالطاقة الجديدة ستكون هي المجال الذي ستتمتع فيه أوكرانيا بالفعل بكفاءة عالية، وإذا اغتنمت الفرصة، فقد تصبح مُصدرًا للطاقة الخضراء إلى الاتحاد الأوروبي. حيث نصت الاتفاقية على الالتزام بالحفاظ على وضع أوكرانيا كدولة عبور للغاز؛ والعمل على حماية أوكرانيا؛ واتخاذ إجراءات ضد روسيا إذا حاولت استخدام إمدادات الطاقة لممارسة ضغط سياسي على جارتها، كما فعلت ذلك في الماضي. تلتزم الولايات المتحدة وألمانيا باستخدام كل نفوذهم لتسهيل تمديد ما يصل إلى عشر سنوات لاتفاقية نقل الغاز بين أوكرانيا وروسيا عندما تنتهي صلاحيتها في عام 2024.

تعزيز الاستثمار في الطاقة الخضراء: في الواقع، لا يمكن فهم الاتفاقية الأمريكية الألمانية بشأن نورد ستريم 2 إلا في سياق الانتقال إلى الطاقة الخضراء الذي يخطط الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لتنفيذه خلال الخمسة عشر إلى العشرين عامًا القادمة.

إذ مثل الانتقال إلى الطاقة الخضراء على الأرجح أحد العوامل الحاسمة في إقناع بايدن بقبول الأمر الواقع والتوصل إلى اتفاق مع ميركل. فالرئيس بايدن مصمم على استعادة صورة الولايات المتحدة كدولة يمكنها تنسيق الجهود العالمية وقيادة الطريق نحو  حل المشكلات العالمية.

+ posts

باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية

أحمد السيد

باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى