5 مقاييس لبناء الأمم
الصحة والتعليم والأمن والمساواة والديمقراطية مقومات التقدم
المؤلف: هيوارد ستيفن فريدمان
دار النشر: برومثيوث بوكس (نيويورك)
يدمج كتاب “قياس أمة” الصادر عن دار نشر “برومثيوث بوكس” في نيويورك المهارات البحثية والإحصائية والتحليل ومهارات البيزنيس ويري في المقدمة أن مؤسسات الأعمال الكبري عندما تدخل في مرحلة ركود فإنها تلجأ إلي ما يسمي “الذكاء التنافسي” بحيث يمكن جمع كل المعلومات الخاصة بالمنافس والاداء والعوائد والإيرادات والسياسات والإجراءات ومن ثم تقوم الإدارة العليا بدراسة البيانات والمعلومات من اجل إستقراء واقع المنافسة وهو ما حدث مع شركة عملاقة مثل “أي بي إم” في مطلع التسعينيات والتي وجدت نفسها متراجعة فقامت بوضع يدها علي أسباب الأزمة وأهمها إرتفاع التكاليف مقارنة بالأخرين في السوق ثم وضعت إستراتيجية للتطوير صعدت بها إلي أن تصبح علي قمة الإبداع والإبتكار لمدة عشرين عاماً علي التوالي. ويقول المؤلف أن الدول مثل شركة كبري عليها أن تدرس أسباب التراجع في مجالات حيوية مثل الصحة والتعليم والديمقراطية والمساواة. فبلد مثل الولايات المتحدة اليوم تراجعت في السنوات العشرين الأخيرة ولم تعد مثلما كانت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في مقابل تطور كبير في دول أخري في كفاءة الحياة بشكل أفضل مما هو الحال في أمريكا اليوم. الملفت في الكتاب هو دعوة المؤلف الأمريكيين إلي النظر في تجارب الدول المتقدمة الأخري لأن نظرة الشعب إلي نفسه علي أنه في مكانة متقدمة لا تسمح للأخرين بمنافسته هو تفكير ضار بالمصلحة الأمريكية وهو دعوة أيضا للشعوب الأخري لتأمل كيف تصنع الأمم تقدمها وحضارتها وحداثتها. ونستعرض أهم مقومات صناعة التقدم هنا:
- الصحة: نبضات قلب الأمة
الرعاية الصحية تقع في قلب التقدم البشري- حسب مبادرة الحكومة الأمريكية للصحة العالمية- والتي علي أساسها يتحدد شكل وحجم مشاركة كل الأفراد في تقدم الأمة حيث لا يوجد تقدم دون صحة جيدة ولا يمكن تحفيز الأفراد دون إتاحة رعاية كاملة وهو ما أشار إليه الأباء المؤسسون للدولة الأمريكية في إعلان الإستقلال من حيث الحق في الحياة بإعتباره من الحقوق التي لا يمكن إنكارها.يقول المؤلف أن الأمريكيين ينفقون أكثر من أي بلد اخر في الدول المتقدمة علي الرعاية الصحية إلا أنهم لا يحصلون علي الرعاية الأفضل علي الأطلاق رغم إستخدام السياسيين الأمريكيين لجملة “امريكا تقدم افضل رعاية صحية في العالم” علي الدوام ولكنها غير متحققة في الواقع وتنحدر الولايات المتحدة اليوم في قائمة معدل الأعمار في نادي الصفوة ويطرح اسئلة عن أسباب فقد الكثير من الأمهات والمواليد في العيادات الصحية أثناء عمليات الوضع رغم ريادة أمريكا في الرعاية الصحية وأسئلة حول السمنة المفرطة رغم تراجع معدلات التدخين ورغم ان الإنفاق العام علي الرعاية الصحية يعادل مرتين معدل إنفاق الدول المتقدمة الأخري. ويقول المؤلف أن جزء ليس بالصغير من الشعب الأمريكي لا يحظي بتأمين صحي او لا يمكنهم الوصول إلي الخدمة المناسبة رغم وجود أعظم مراكز الأبحاث والمستشفيات في العالم في بلادهم. في المحصلة أو التوصيات يري فريدمان من واقع تحليل البيانات الأمريكية والغربية الأخري أن هناك مشكلات ثقافية وإجتماعية تتشابك مع عيوب في البنية الهيكلية للنظام الصحي تؤدي إلي تراجع في مستوي الخدمة الصحية ويوصي بضرورة تغيير عادات مثل نوعية الغداء والاطعمة وإتباع أنظمة غذائية صحية للمواطن العادي. ويعطي المؤلف مقارنات شيقة للغاية مثل السعرات الحرارية في الوجبة الأمريكية والوجبة اليابانية )التي تعتمد علي الأرز والسمك( ويقول أن الأمريكية بها سعرات حرارية تزيد بألف وحدة عن مثيلتها اليابانية وهي السعرات الموجودة في “ساندويتشين” من الهامبورجر فقط! كما أن الوجبة اليابانية أقل في الدهون مما جعل معدل السمنة في اليابان أقل عشر مرات من مثيله في أمريكا. وجدت دراسة أن ٧٥ ٪ من دعم الغداء يتوجه إلي منتجات الالبان واللحوم بينما قرابة أقل من ١٪ للفاكهة والخضروات. المعني أن دعم الحكومة لبعض المنتجات يؤثر في اي مجتمع علي الصحة العامة.
- الأمن في الداخل
في مقدمة الفصل الخاص بالأمن كأحد دعائم بناء الأمة يشير فريدمان إلي مقولة بنجامين فرانكلين “أن هؤلاء الذين يتنازلون عن الحريات الأساسية من أجل أن ينعموا بأمان مؤقت محدود لا يستحقون لا الأمن ولا الحرية”. في خاطب حالة الإتحاد عام ١٩٤١، حدد الرئيس الأمريكي فرانلكين روزفلت الحريات الأربع الأساسية التي يجب أن يتمتع بها الناس في جميع أركان الأرض وهي حرية التعبير والرأي وحرية العبادة والتحرر من الحاجة والحرية من الخوف والتحرر من الخوف. وما يعنيه روزفلت بالتحرر من الخوف هو التمتع بالحياة في ظل ثقة بالأمان الشخصي وأن الإصابة أو التعرض للمخاطر والخسائر ليست جزء من الحياة اليومية ويقول المؤلف أن الأمان هو شعور جماعي لدي جماعة من الأفراد يعيشون في مكان واحد. ويعقد مقارنات بين مستويات الامان بين الدول المتقدمة والولايات المتحدة ويركز علي معدلات الجريمة والعنف وحيازة الأسلحة وينتهي إلي توصيات مهمة منها أن السيطرة علي حيازة الأسلحة في المجتمع سوف تؤدي إلي تغيير حقيقي ويري أن الحل ليس في اللجوء الي تعديل دستوري لن يحدث ولكن في إجراءات أخري مثل دورات في تأمين إستخدام السلاح للمتقدم مثلما هو الحال في كندا ومثلما يتم التعامل مع رخصة قيادة السيارة وفحص السير الذاتية للمتقدمين لحيازة سلاح شخصي وقاعدة بيانات قومية للأسلحة والذخائر كما هو الحال في دول الاتحاد الاوروبي. كما ينصح بتعديل نظام السجون لتقلي معدلات الجريمة حيث أن غالبية المساجين، في العادة، ليس من النوع الخطر او المجرمين الجنائيين وبالتالي عزلهم عن المجتمع ليس هو الحل وأكثر تكلفة من دمجهم فيه. ففي ولاية واحدة مثل ميشيجان تصل نفقات السجون السنوية ٢٠ ٪ من الموازنة العامة وتنفق الولاية علي السجون أكثر من إنفاقها علي التعليم العالي وهو ما دفع سلطات الولاية إلي تبني برامج للدمج في المجتمع لمتعاطي المخدرات.
- التعليم
يقول توماس جيفرسون “لو أن هناك أمة تتوقع أن تكون جاهلة وحرة، في حالة من الحضارة، فإنها تتوقع ما لم يدرك وما لا يمكن إدراكه”. في العالم المعاصر ومع زيادة تعقيدات العلوم يحتل التعليم منزلة رفيعة ورغم تلك الأهمية يتفاوت الأداء بين مجموعة الدول المتقدمة حيث يزداد التركيز علي تحسين كفاءة التعليم بإعتباره قاطرة النجاح الإقتصادي وباتت الدول الأقل إهتماما بالتعليم خارج المنافسة العالمية . ومن النقاط المهمة التي تعني المجتمع المصري في تلك الدراسة ما يقوله الباحث عن كلا من “المعايير” و”التمويل” في العملية التعليمية حيث وجد أن بلدا متقدما مثل الولايات المتحدة تعاني من عدم وجود معايير واحدة للمناهج الدراسية مقارنة بدول مثل كوريا الجنوبية أو اليابان. وفي أمريكا أيضا، هناك قيود دستورية تحد من وجود معايير فيدرالية موحدة للمناهج نتيجة عدم الرغبة في توسيع صلاحيات الحكومة الفيدرالية علي حساب الولايات إلا أن هناك منظمات واتحادات تعمل اليوم علي الوصول بالمناهج إلي المستويات المطلوبة من خلال جهد كبير علي المستوي القومي. والهدف هو تعظيم المكاسب التي يحصل عليها الطالب من خلال معايير قوية شبه موحدة.
بالنسبة لقضية التمويل، هناك درس واضح أن إرتفاع أعداد المرسين يرفع كفاءة العملية التعليمية بدليل أن الرواتب في الولايات المتحدة تحصد ما بين ٥٠٪ – ٦٠ ٪ من موازنة التعليم بينما الإنفاق علي التعليم في الدول الديمقراطية الأخري يصل إلي ما بين ٧٠ ٪-٨٠ ٪ بما يعني أن نصف العاملين في المؤسسات التعليمية في الولايات المتحدة هم مدرسون بينما يرتفع الرقم أكثر في الدول الأخري التي تحقق طفرات تعليمية تراها أمريكا تهديدا لها ووجود أعداد أكبر من الإداريين هو مؤشر سلبي لمستقبل التعليم. ويقول المؤلف أن النصيحة الأولي هي تحسين مستوي التعليم الإبتدائي مع وجود مراقبة صارمة للجودة والنصيحة الثانية هي الإستثمار في تطوير مستوي المدرسين وتشير الأحصائيات إلي أن الأداء الأفضل بين الدول المتقدمة يكون في الدول التي توظف أكبر عدد ممكن من خريجي الجامعات والكليات المتخصصة في التعليم الإبتدائي والنصيحة الثالثة هي تحقيق المساواة في العملية التعليمية بتشجيع الطلاب الفقراء علي الإستفادة من العملية التعليمية في مختلف المراحل.
- الديمقراطية
في تحليل نواقص الديمقراطية في الولايات المتحدة هناك دروس من البحث العميق لفريدمان يمكن الأستعانة بها لتحقيق التعافي للديمقراطيات الوليدة من بينها تشجيع المزيد من الناخبين علي التصويت حيث أن واحدة من العيوب المزمنة في النظام السياسي الأمريكي هو عدم خروج أكثر من نصف عدد الناخبين للتصويت لدوافع عديدة من بينها عدم الثقة في الحكومة والإستقطاب السياسي الحاد وعدم الإيمان الكامل بفوائد العملية الإنتخابية ومن الأفكار الممكنة إختصار مسألة التسجيل قبل التصويت حيث لا تطبق بعض الدول شرط التسجيل المسبق للناخبين، وهناك تجارب ناجحة في ألمانيا والنمسا وفرنسا وبلجيكا. والأمر الثاني هو فتح أمام تمثيل أكبر لكل فئات الشعب من خلال قوائم نسبية ترتب المرشحين بدرجات تسمح بدخول أكبر عدد من نواب الأحزاب المختلفة في إتجاهاتها وهي من التجربة الاسترالية. ويري الباحث فريدمان أن واحدة من الأمور الهامة في كل الديمقراطيات هي التصحيح المستمر للمشكلات والعوار الموجود في الدساتير القائمة وعلي السياسيين أن يطرحوا أسئلة مهمة مثل: طالما أننا نتعامل مع الديمقراطية بمعايير اليوم .. ما هو الممكن عمله من أجل جعل الحكومة أكثر كفاءة؟ والسؤال الثاني هو كيف يمكن الإستعانة بتجارب الدول الأخري لتحديث الدساتير القائمة؟
- المساواة
من المقولات الدالة التي يشير إليها فريدمان في الفصل الخاص بالمساواة ما ذكره قاضي المحكمة العليا لويس برانديس عندما قال قبل عقود “يمكن أن يكون لدينا ديمقراطية، أو يمكن أن يكون لدينا تركيز شديد للثروة في قبضة حفنة من البشر، ولكن لا يمكن أن نجمع بين الإثنين”. ويقول الباحث الأمريكي أن تعبير المساواة Equality لا يوجد تعريف موحد له، ولا يوجد أيضا قياس واحد للمساواة. من هنا، يأتي التعريف للمساواة في المجتمع الأمريكي مرتبط بما يعرف بالجدارة أو الحكم بالإستحقاق، وهي قدرة أي شخص علي الحصول علي ما يناسب تعليمه وكفاءته وموهبته وليس بسبب حصوله علي ميراث أو نفوذ عائلي او غيره. وعند تطبيق الجدارة الحقيقية فإن كل شخص، بغض النظر عن خلفيته الإجتماعية أو الإقتصادية أو حالته المادية أو عرقه أو لونه، يكون له الحق في تحقيق ما يصبو إليه سواء كان طموحه سياسيا أو إقتصادياً أو إجتماعياً أو فكرياً.