لماذا زاد التكالب على مصر.. غاز شرق المتوسط يُجيب
حازت منطقة شرق المتوسط على اهتمام عدد من الفواعل الإقليميين والدوليين، وذلك في أعقاب الاكتشافات الهائلة من الغاز، حيث ارتفاع حجم الاحتياطات من الغاز الطبيعي في المنطقة من 122 تريليون قدم مكعب عام 2010 ليصل نحو 340 تريليون قدم مكعب وفقا لتقديرات هيئة المسوح الجيولوجية الامريكية.
وقد بدأت سلسلة الاكتشافات عام 2009 على أثر إعلان إسرائيل عن اكتشافها لحقل تمارا، بالإضافة إلى حقل ليفياثان 2010 بالقرب من حيفا، ويُقدر حجم الاحتياطات التي تم اكتشافها في الحقلين مجتمعين نحو 26 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى اكتشاف حقل أفروديت 2011 قبالة السواحل القبرصية باحتياطي يقدر بنحو 5- 8 تريليون قد مكعب، فضلا عن عدد من الاكتشافات الأخرى ومن بينها اكتشاف مصر لحقل ظهر2015 الذي يُقدر بــــ 30 تريليون قدم مكعب باعتباره أكبر حقل غاز تم اكتشافه في الآونة الأخيرة.
“الغاز” يُحرك شهية أردوغان
لم تختلف سياسة أنقرة تجاه شرق المتوسط عن سياسة أردوغان الخارجية منذ عام 2011 والتي ارتكزت على انتهاك القوانين والمواثيق الدولية، ناهيك عن عدم احترام قدسية الحدود والسلامة الإقليمية للدول، الذي تجلى في عدة صور من بينها التدخلات العسكرية المستمرة في سوريا سواء من خلال عملية درع الفرات 2016، أو غصن الزيتون 2018، بالإضافة إلى الدعم المتواصل للميليشيات المسلحة في ليبيا وتزويدها بالأسلحة والمعدات العسكرية، وعليه يمكن التأكيد على أن التدخلات والانتهاكات المٌستمرة لتركيا في منطقة شرق المتوسط وانتهاك القوانين والأعراف الدولية المنظمة لتقاسم الثروات بين الدول في المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة لا يمكن أن يخرج عن الخط العام للسياسة الخارجية لتركيا التي لا تُراعي ولا تحترم القوانين الدولية.
واتصالا بما سبق يمكننا الوقوف على حدود وطبيعة التحركات التركية في شرق المتوسط، إذ مثلت التحركات التركية في المنطقة حالة من زعزعة الاستقرار والاستفزازات المستمرة لعدد من الدول وقد جاءت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة (20 سبتمبر2019) في رسالة بعثها لندوة عُقدت في أنقرة تحت عنوان ” القول الفصل في قبرص” لتؤكد رغبة أنقرة في مواصلة عدائها لدول المنطقة، حيث أكد أردوغان إن تركيا لن تترك ثروات شرق المتوسط ولن تتهاون مع من يحاول استبعاد تركيا من الحصول على ثروات شرق المتوسط حيث لفت أردوغان إلى “أن الذين يعتقدون أن ثروات قبرص ومنطقة شرق المتوسط تابعة لهم لوحدهم فقط، سيواجهون حزم تركيا، وان بلاده ستدافع بحزم من حقوق القبارصة الاتراك في شرق المتوسط”.
وعليه يمكننا الوقوف على طبيعة ومؤشرات التصعيد التركي فيما يلي:
- المناورات العسكرية: تسعى تركيا إلى فرض أمر واقع في منطقة شرق المتوسط من خلال العمل اكتساب شرعية دولية عبر البحث والتنقيب عن الغاز شرق المتوسط تحت مزاعم أنها تناصر حقوق جمهورية قبرص الشمالية التي لا تعرف بها أية دولة أو مؤسسة دولية سوى أنقرة، ومن هنا قامت تركيا بالشروع في عدد من المناورات العسكرية ضمن التحركات التصعيدية والاستفزازية في منطقة شرق المتوسط وجاءت أبرز هذه المناورات في (فبراير 2019) والتي عُرفت باسم ” الوطن الأزرق” وقد شملت هذه المناورات ثلاثة بحار محيطة بتركيا ( البحر الأسود، بحر إيجة، البحر المتوسط)، بالمثل أعلنت البحرية التركية عن انطلاق مناورة ” ذئب البحر” في الفترة من ( 13 حتى 25 مايو 2019) في البحار الثلاثة سالفة الذكر وقد وصفت هذه المناورة بأنها أكبر مناورة بحرية في تاريخ تركيا حيث شهدت مشاركة نحو 131 سفينة بحرية و57 طائرة حربية، و33 مروحية، الأمر الذي يعكس الرغبات التركية في تطوير وتحديث إمكاناتها وقدراتها البحرية من اجل التنقيب على الغاز الطبيعي خاصة في منطقة شرق المتوسط، الأمر الذي يمكن الاستدلال عليه من خلال حجم الانفاق العسكري لتركيا، وفقا لتقديرات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فأن أنقرة سوف تزيد قوتها البحرية بحلول عام 2023 بنحو 24 سفينة جديدة، ناهيك عن اربع فرقاطات، ورغم المعاناة الاقتصادية في تركيا وتراجع سعر الليرة فقد بلغت ميزانية الدفاع التركية خلال عام 2018 نحو 19 مليار دولار بزيادة 24% عن عام 2017.
- مخالفة الاتفاقات الدولية: يعتبر رفض تركيا للاتفاقيات الدولية مؤشرا أخر للتصعيد في شرق المتوسط حيث أعلنت أنقرة في فبراير 2018 على لسان وزير خارجيتها “مولود جاويش أوغلو” رفضها اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر وقبرص والتي تم التوقيع عليها في ديسمبر 2013؛ إذ اعتبر “أوغلو” آنذاك أن الاتفاقية لا تحمل أية “صفة قانونية”، فضلًا عن ذلك، أبدت تركيا اعتراضها على اتفاقية ترسيم الحدود بين إسرائيل وقبرص والتي أقرها الجانبان في عام 2010، هذا الرفض يؤكد التعنت التركي والرغبة في مخالفة قواعد والاتفاقات الدولية من أجل البحث عن مصالحها في منطقة شرق المتوسط.
- التلويح باستخدام القوة: لجأت تركيا إلى التهديد باستخدام القوة العسكرية ضد قبرص واليونان حال عدم امتناعهما عن عمليات التنقيب والبحث عن حقوق الغاز في منطقة شرق المتوسط، وهو ما عبر عنه الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في فبراير 2018، خلال كلمته أمام اجتماع الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية، عندما قال إن “حقوقنا في الدفاع عن الأمن القومي في منطقة عفرين شمال غرب سوريا هي نفسها في بحر إيجة وقبرص، وقيام القوات المسلحة التركية بعملية غصن الزيتون لتطهير عفرين شمال سوريا من التنظيمات الإرهابية لن يعوق تركيا عن حماية حقوقها في البحر المتوسط وبحر إيجه”، وهو ما يؤكد رغبات أنقرة الاستعمارية القائمة على خلق حالة من الفوضى وإثارة المشاكل مع دول الجوار.
- اعتراض مسار السفن: عمدت تركيا طيلة الفترات الماضية إلى منع مرور السفن، والحيلولة دون استمرار شركات التنقيب في القيام بمهامها الاستكشافية، الأمر الذي بدا واضحًا في فبراير 2018 عندما قامت أنقرة بعرقلة ومنع الحفار “سابيم 1200” التابع لشركة إيني الإيطالية من التنقيب عن الغاز الطبيعي في المياه القبرصية. وهو ما اعتبره البعض منافيًا لحقوق المرور البريء المنصوص عليه ضمن اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. الأمر ذاته تكرر في عام 2011 عندما قامت تركيا بإرسال سفن حربية إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص اعتراضًا على قيام شركة “نوبل إنجري” الأمريكية بأعمال تنقيب في المناطق الاقتصادية لقبرص.
دوافع التصعيد التركي
ثمة دوافع وعوامل رئيسية وراء التصعيد التركي في شرق المتوسط، وهو ما يُستدل عليها من خلال إعلان وزارة الطاقة في تركيا عام 2017 عن عزمها حفر أول بئر للغاز الطبيعي في البحر المتوسط، وما أعقبها من ارسال نحو 4 سفن بغرض التنقيب والبحث عن الغاز الطبيعي في تلك المنطقة، وعليه يمكننا التعرض لدوافع تركيا من هذا التصعيد فيما يلي:
- مواجهة التحديات الاقتصادية: تعمل تركيا عبر محاولات التنقيب عن الغاز الطبيعي شرق المتوسط لتحقيق جملة من الأهداف من بينها التغلب على الوضع الاقتصادي المتأزم حيث أنها تراهن على ان اكتشافات الغاز سوف تؤدي إلى انعاشها اقتصادياً، خاصة مع احتياج السوق المحلي التركي لهذه الموارد في ظل افتقار تركيا لموارد الطاقة بشكل عام، حيث تسعى من خلال هذه التحركات لسد فجوة الاحتياج للطاقة إذ أن أنقرة تستورد نحو 92 % من احتياجاتها النفطية من الخارج.
- تجاوز عزلتها الدولية، ساهمت التحركات التركية في شرق المتوسط في عزل أنقرة عن محيطها، حيث تم استبعادها من منتدى غاز شرق المتوسط الذي أعلنت مصر تأسيسه (يناير2019) والذي ضم بجانب مصر كل من الأردن، فلسطين، قبرص، اليونان، إسرائيل وإيطاليا، ناهيك عن أن التحالف الثلاثي بين مصر واليونان وقبرص والذي بدأ في الظهور ( نوفمبر 2014) الأمر الذي ساهم في مزيد من العزلة لتركيا، وعليه تسعى أنقرة عبر هذه التحركات من فرض واقع واستباق مزيد من التنسيق المُحتمل بين مختلف دول المنطقة بما يعزز من عزلتها، خاصة في ظل التوقعات بشأن قيام مصر واليونان بالاتفاق على ترسيم الحدود البحرية فيما بينهما.
- التغطية على أزمات الداخل: تأتي تحركات تركيا تجاه شرق المتوسط ضمن سياسة الالهاء التي يتعمد أردوغان ممارستها خاصة في ظل ما يمر به من أزمات تتعلق بالجانب الاقتصادي وتراجع سعر الليرة أو حتى فيما يتعلق بالإخفاقات والهزائم السياسية التي لحق بها حزب العدالة والتنمية والذي مُني بخسارة أكبر البلديات التركية خلال الانتخابات البلدية (مارس2019)، فضلا عن حالة التصدع والانشقاقات داخل الحزب والذي مثل استقالة أحمد داود أغلو أبرز ملامحها، الامر الذي يدل على أن هذه التحركات ما هي إلا محاولة من أردوغان لتغطيه على فشله الداخلي ومحاولة تزييف وعي الرأي العام التركي والهاءه في قضايا وموضوعات أخرى.
وقد قوبلت التحركات التركية بحالة من الرفض الدولي سواء من قبل مصر، قبرص، اليونان، الولايات المتحدة الامريكية والتي عبرت في مجملها عن أن تحركات تركيا تعد انتهاكا للقانون الدولي، وقد أعلن الاتحاد الأوروبي (يونيو2019) جملة من الإجراءات العقابية على تركيا بسبب إصرارها على التنقيب شرق المتوسط ومن بين هذه العقوبات اقتطاع 145.8مليون يورو من المبالغ الأوروبية التي يفترض أن تستفيد منها أنقرة عام 2020، فضلا عن تعليق مفاوضات النقل الجوي الشامل، بالإضافة إلى وقف كافة الاجتماعات رفيعة المستوى مع أنقرة.
غاز شرق المتوسط.. وتهديد المكانة القطرية
تُعتبر قطر ضمن أكبر الدول حول العالم في تصدير الغاز الطبيعي، حيث بلغت صادراتها عام 2018 نحو 78.8 مليون طن وفقا لعدد من التقديرات، وقد مثلت القارة الأوروبية أكبر الوجهات لصادرات الغاز الطبيعي القطري حيث قدرت بنحو 16.94 مليون طن خلال عام 2018.
وعليه فان اكتشافات مصر للغاز الطبيعي في شرق المتوسط وتحولها لمركز إقليمي للطاقة لا سيما مع انتاج مصر لنحو 6.8 مليار قدم مكعب من الغاز يوميا، ناهيك عن تحولها لدولة مصدرة للغاز بدلا من كونها دولة مستوردة، كل ذلك سوف يُساهم في تقليل الاعتماد الأوروبي على الغاز الطبيعي من قطر، خاصة أن مصر لديها محطتين لتسييل الغاز الطبيعي في مدينتي أدكو ودمياط، الأمر الذي قد يمنح مصر فرصة تجميع غازات الحقول الأخرى المٌكتشفة شرق المتوسط ومن ثم تسييلها ونقلها للدول الاوروبية، إذ تشير الإحصاءات والتقديرات أن مصر ستصبح ضمن الدول العشر الكبرى في الاحتياطيات النفطية، بالنظر إلى احتواء حوض المتوسط على مخزون هائل من الغاز الطبيعي، وفقا لهذه التطورات فان قطر تعتبر أول المتضررين نظرًا لتحقيق مصر اكتفائها الذاتي، فضلًا عن استحواذها المتوقع على بعض الأسواق التي كانت تستورد من الدوحة.
في هذا السياق أكدت وكالة ” بلومبرج” الامريكية إن “الاكتشافات الضخمة لحقول الغاز الطبيعي في مصر، أضرت بمكانة قطر في السوق العالمية”، مشيرةً إلى أن “واردات الشرق الأوسط للغاز الطبيعي انخفضت بنسبة 37 % عام 2018″، وأضافت الوكالة في تقرير لها “هناك في الشرق الأوسط 5 دول مستوردة للغاز، مصر والكويت والأردن والإمارات العربية المتحدة، وإسرائيل”.، وتابعت، “اكتشافات الغاز في مصر سواء في حقل ظهر العملاق والحقول الأخرى وتحقيق اكتفائها الذاتي، أدت إلى تقليل الطلب على الغاز وانخفاض واردات الغاز الطبيعي في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي فإن خروج مصر من قائمة الدول المستوردة أضر بمكانة قطر في السوق العالمية.
مجمل القول : يمكن التأكيد على أن اكتشاف مصر للغاز الطبيعي شرق المتوسط، والانعكاسات المُحتملة لهذه الاكتشافات على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر، وكذلك الدور الإقليمي والريادي في هذا المجال، والذي يؤهل مصر للخروج من نادي مستوردي الغاز والانتقال لتصبح من الدول المُصدرة، جعل عدد من الدول الإقليمية وفي مقدمتها تركيا وقطر تعمل على توجيه مزيد من العداء للدولة المصرية نظرا، لآن تفوق القاهرة وريادتها المحتملة في مجال الطاقة سيكون سببا في تراجع وتقليص نفوذ هذه الدول.