توجه براجماتي… دلالات الدعم الفرنسي لاستقرار السودان
تسعى فرنسا بقيادة الرئيس “إيمانويل ماكرون” إلى إعادة التمركز والانتشار في الإقليم، من خلال التدخل في الأزمات المثارة مرتكزة على آليات القوة الناعمة بعيدًا عن سياسة التدخل في الشئون الداخلية للدول، لخلق موطؤ قدم لها بعيدًا عن التاريخ الاستعماري، لاستعادة مكانتها الدولية باعتبارها فاعلاً بارزًا في إدارة الملفات المثارة في الآونة الأخيرة علاوة على سعيها في ربط تفاعلات المنطقة واستقرارها بالأمن الأوروبي.
الأمر الذي تجلى في تدخلها في الملف الليبي وقيادة جهود الوساطة بين رئيس وزراء “فايز السراج”، وقائد الجيش الوطني “خليفة حفتر”، لبحث سبل التسوية بشكل سلمي لعودة الاستقرار للبلاد. وفي ظل التطورات المتلاحقة بالإقليم، فقد دعمت فرنسا الحراك السياسي السوداني، مُعلنة دعمها للسودان الجديد في سياق المرحلة الانتقالية التي تشهدها، داعيةً استمرار الحوار بين جميع الأطراف السودانية تجنبًا لإثارة الفوضى والعنف.
ومع تولي الدكتور “عبد الله حمدوك” رئاسة الحكومة في أغسطس 2019، قام وزير الخارجية الفرنسي بزيارة الخرطوم لتشاور حول عدد من الملفات المشتركة لتعزيز التعاون في المستقبل. وكان من المقرر أن يجتمع “حمدوك” مع الرئيس الفرنسي بعد زيارته للقاهرة في طريقه إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا إنها تأجلت وسيجتمع معه إبان عودته من نيويورك إلى الخرطوم.. والجدير بالذكر؛ أن فرنسا تعتبر أول دولة أوروبية تدعو رئيس الحكومة السودانية “عبد الله حمدوك “لزيارتها، لبحث التعاون بين الجانبين؛ حيث ترغب باريس في تقديم الدعم الممكن للحكومة الجديدة.
الموقف الفرنسي من مسار الحراك وتطوراته
اكتسبت القيادة الفرنسية خبرة في التعاطي مع أزمات الإقليم وإمكانية التدخل فيها بعيدًا عن استخدام آليات القوة الصلبة من خلال دعم جهود التسوية السلمية، إدراكًا منها بأهمية استقرار الإقليم الذي أصبح ساحة للتنافس بين العديد من الفاعلين الجدد. لذا فقد ترقبت الحكومة الفرنسية تطورات الحراك مع دعم الحل السياسي والاستجابة لمطالب الشعب تجسد ذلك على النحو التالي:
- إدانة العنف؛ دعت فرنسا جميع الأطراف إلى تجنب العنف، ومواصلة الحوار بين المجلس العسكري والمعارضة، تمهيدًا لإدارة المرحلة الانتقالية بشكل سلمي لعودة الاستقرار إلى البلاد.
- مساندة جهود الوساطة؛ أكدت باريس على دعمها للجهود التي تبذلها أثيوبيا والاتحاد الأفريقي، لتسوية الأوضاع في سياق التجهيز لتشكيل حكومة مدنية تقود البلاد خلال المرحلة الانتقالية.
- دعم التسوية السياسية؛ ثمنت باريس الاتفاق المُبرم بين المجلس العسكري والمعارضة حول إدارة المرحلة القادمة من مستقبل البلاد فيما يتعلق بتشكيل الحكومة بقيادة “عبد الله حمدوك” والبرلمان، معربةً عن مسانداتها مسار الديمقراطية السودانية، وانفتاحها بدمج النساء والشباب في الحكومة الجديدة.
- الإشادة بإعلان جوبا؛ أعربت باريس عن دعمها لاتفاق السلام المُبرم بين الحكومة السودان والحركات المسلحة في العاصمة جنوب السودان، تحقيقًا لإبرام اتفاق سلام شامل بين الجانبين في المرحلة المقبلة.
- تقديم مساعدات؛ قررت الحكومة الفرنسية تقديم 15 مليون بشكل سريع من أصل 60 مليون يورو لدعم الانتقال السلمي بالخرطوم، فضلًا عن التعاون بين الجانبين لحل الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد في الآونة الأخيرة، وذلك إبان زيارة وزير الخارجية الفرنسي لخرطوم في سبتمبر 2019.
- تعزيز مكانتها الدولية؛ تسعى فرنسا إلى دمج السودان في النظام العالمي مرة ثانية؛ حيث أوضحت باريس إنها ستضغط من أجل حذف السودان من القائمة الأميركية التي تعتبرها راعية للإرهاب، مع تقديم عرض إمكانية المساعدة في إعادة الثقة مع مؤسسات الإقراض الدولية لإعادة بناء اقتصادها.
دلالات الدعم الفرنسي
استندت تحركات فرنسا تجاه السودان على دعم مطالب الشعب، والحفاظ على وحدة وسيادة أراضيه من أي فوضى محتملة تكاد تعصف بالبلاد، تخوفًا من تكرار السيناريو الليبي وتداعياته التي أسفرت عن تنامي عدد اللاجئين والمهاجرين وتدفقهم نحو أوروبا، مع احتمالية ظهور أجيال جديدة من المتطرفين، مما سيؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار داخل الإقليم الأوروبي الذي مازال يعاني حتى الآن من الانقسام حول إدارة ملف الهجرة، فضلًا عن تعرضهم لمزيد من الهجمات الإرهابية التي جاءت بعضها كرد فعل لمشاركتهم في التحالف الدولي ضد التنظيمات الإرهابية في المنطقة.
هذا بجانب الأهمية الجيو سياسية للسودان في محيطها الجغرافي، علاوة على أن السودان تحتل المركز الثالث في قائمة شركاء فرنسا التجاريين في منطقة شرق أفريقيا بعد كينيا وإثيوبيا. كما يسعى “ماكرون” إلى إعادة خلق صورة ذاتية لفرنسا بعيدًا عن مرحلة الاستعمار وتبعاتها، لتعزيز التعاون والتنسيق على كافة الأصعدة، علاوة على محاولته تمهيد السودان كمنطقة نفوذ في المرحلة المقبلة.
لذا تمثل أزمات الإقليم بالنسبة لماكرون فرصة يمكن توظيفها بما يتوافق مع المصالح الوطنية الفرنسية لاستعادة مكانتها كفاعل دولي، خاصة أن باريس لا تتمتع بنفوذ كامل في ظل التواجد الأمريكي، والتموضع الروسي فيه، وذلك باستثناء دول المغرب العربي التي مازالت على علاقات وثيقة معهم.
إجمالاً، من المتوقع أن يزداد الدور الفرنسي في الإقليم بشكل إيجابي مستندًا على توظيف آليات القوة الناعمة (الدبلوماسية- الاقتصادية) نتيجة إدراكه جحم التحديات والتهديدات التي يمكن أن تنجم عن حالة عدم الاستقرار التي نجت منها بعض الدول التي شهدت موجات ثورية مثل السودان.