مكافحة الإرهاب

أمم في مرمى نيران الإرهاب.. التجربة الروسية في مواجهة التيارات المتطرفة

لا ينفك الإرهاب المسلح المتعطش للدماء يجتاح العالم منذ فجر التاريخ، ولا يقتصر مفهومه على ما يتم ارتكابه من عمليات مسلحة وجرائم بزعم الشريعة الإسلامية، بل أنه يمتد ليشمل صورا وأشكالا أخرى كثيرة لطالما عبرت عن ذاكرة العالم في مراحل مختلفة من تكوينه السياسي ، كما أنه لا يقتصر كذلك على الدول العربية والإسلامية فحسب بل يرتبط بشكل دائم بمصالح سياسية ودوافع ليس من الضرورة أن تستند إلى أسباب دينية. إنما يتحرك الإرهاب في موجات تتجه صوب المصالح السياسية والأطماع الاقتصادية الخاصة بكل جماعة إرهابية على حده.

نظرة تاريخية على الإرهاب في روسيا الاتحادية

شهدت روسيا أول ظهور للإرهاب المناهض للدولة في 1866، حيث بدأ الإرهاب في تقديم نفسه للمجتمع باعتباره وسيلة لا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية إلا من خلال استخدامها. وعليه يمكن القول بأنه في هذه الاثناء لم يكن ينظر الى الإرهابي باعتباره مذنبا ومجرما أو حتى مدان. ويمكن الاستشهاد على هذا الأمر من خلال مراجعة واقعة إطلاق النيران على رئيس إحدى البلديات الروسية في 24 يناير 1878 وحصول قاتله بعد ذلك على حكم البراءة!

وشهدت الفترة ما بين 1902 -1907 قيام إرهابيين من ذوي الخلفيات الثورية والاشتراكية بارتكاب حوالي 5.5 ألف عمل إرهابي، بما يشمل عمليات قتل الوزراء ونواب مجلس الدوما ورجال شرطة ومتقلدي منصب المدعي العام.

وفي قفزة أخرى للإرهاب، في الفترة ما بين منتصف السبعينيات وصولاً الى منتصف الثمانينات من القرن الماضي، شهدت روسيا حوالي مائة انفجار إرهابي في أنحاء متفرقة من البلاد. وبحلول يوليو 1991، كان أكثر من 1500 شخص لقوا حتفهم نتيجة للاشتباكات الدموية.

بدءا من ديسمبر 1994، شهدت الدولة الروسية الحديثة نقلة نوعية في شكل عمليات الارهاب، على إثر دخول البلاد بشكل فعلي وعلني ولأول مرة في مواجهة مسلحة مع العالم الإسلامي بسبب الحروب الروسية في الشيشان.

يذكر في هذا السياق، أنه توجد هناك في الوقت الحالي نحو 31 منظمة تندرج على قائمة المنظمات المحظورة لدى روسيا الاتحادية، يأتي من ضمنها “الإسلاميون- اليسار المتطرف- اليمين المتطرف – الانفصاليون بالإضافة الى العنف الناتج عن خلل عقلي”، إلا أنه مع ذلك يمكن القول إن معظم الموجات الإرهابية التي واجهتها روسيا جاءت من ارهابيين منتمين لمنظمات مثل داعش والحركة الإسلامية لتركستان والقاعدة.

وشن المقاتلون الإسلاميون عديدا من الهجمات العالية المستوى على الأراضي الروسية، بحيث شهدت الفترة بين 2004 و2010 هجمات إرهابية تستهدف البنية التحتية للنقل مثل هجمات على قطار موسكو وتفجير خط سكة حديد موسكو – سانت بيتربورج السريع عام 2007، حيث تسبب الانفجار في خروج القطار عن مساره. بالإضافة الى تفجيرات أخرى استهدفت مطار دوموديدوفو عام 2011، وعلى حافلة فولغراد عام 2013. كما نفذ المقاتلون أيضًا عمليات أخرى بالغة الدقة، تستهدف نشر الرعب بين السكان مثل أزمة الرهائن في مسرح موسكو عام 2002 وحصار مدرسة بيسلان عام 2004.

جذور الفكر الإرهابي المتأسلم في المقاطعات الناطقة بالروسية

تحتوي جمهوريات الاتحاد السوفيتي على كتل إسلامية تتركز في بقاع متفرقة، من ضمنها جمهوريات أوزبكستان وطاجكستان وتركمنستان وكازخستان بالإضافة الى قوميات أخرى موجودة في بقاع مختلفة داخل جمهورية الاتحاد السوفيتي سابقا. وقبل الحديث عن مدى تأثير تيارات الإرهاب المتأسلم على هذه الكتل، تجدر الإشارة الى الطبيعة الديموغرافية للشعوب المسلمة الناطقة بالروسية.

إذ يتشارك أغلب مسلمي هذه المناطق في سمات مثل الحب الشديد والإخلاص الكبير للإسلام، مع وجود نسبة مرتفعة من الجهل بجوهر القواعد الإسلامية للدين القويم. بالإضافة إلى الإخلاص الشديد لكل ما يطرحه العرب المسلمون من معتقدات وآراء، إذ ينظر سكان هذه المناطق الى العرب بحد ذاتهم باعتبارهم مصدرا من مصادر الدين والشريعة، استنادا إلى قدراتهم الطبيعية على التوغل والتعمق في معاني القرآن الكريم بلغته الأصلية العربية. وبناء عليه ينظر المسلم المتحدث باللغة الروسية إلى كل ما يقدمه المسلم العربي من سلوك باعتباره سلوكا إسلاميا قويما ورشيدا، ويجدر تقليده وتصديقه والعمل به بدون تفكير.

وهو ما يفسر بشكل كبير السبب وراء سهولة انزلاق الكثيرين منهم نحو الإرهاب الداعشي أو السلفي أو حتى الانضمام الى جماعة الاخوان المسلمون. إذ لم تكن أبدا مهمة استخدام الإسلام لأجل تطويع وتجنيد هؤلاء بالمهمة الصعبة أمام التيارات الإرهابية، التي اخترقت المنطقة بسهولة.

ويمكن ملاحظة طريقة ارسال التأُثير الإسلامي المتطرف والمتشدد والموجه خصيصًا إلى شعوب هذه المناطق، من خلال متابعة قنوات كثيرة على منصة الفيديوهات العالمية “يوتيوب”، إذ توجد قنوات مخصصة قامت –جهة ما- باستخدامها لأجل طرح خطابات شيوخ متطرفون على غرار أبو اسحق الحويني، وتخصيص ميزانية لأجل انتاج وترجمة هذه الخطابات باللغة الروسية. وبالمتابعة ايضًا يمكن ملاحظة حجم التفاعل الإيجابي الكبير مع الأفكار المتطرفة التي يدعو اليها هؤلاء المشايخ سواء على منصة يوتيوب أو أي صفحات مشابهة منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي.

وتعتبر القوقاز من أكثر المناطق انتشارا للإرهاب، وهي ايضا مصدرا للهجرة الداخلية، حيث نشر المتشددون من مهاجريها التأثير الإسلامي المتشدد إلى مناطق داخلية أخرى في روسيا. كما تعتبر المنطقة بأكملها بمثابة تربة خصبة لنشأة الأنشطة الإرهابية. ويتألف السكان المحليون من شرائح وقوميات اجتماعية مختلفة، يتمتع اغلبهم بخلفية عسكرية عدا “الأوسيتيين”.

يذكر أن منظمات إرهابية عدة انبثقت عن هذه المنطقة، مثل “المجلس الأعلى العسكري لشورى قوات مجاهدي القوقاز المتحدة”، “ومنظمة الحرمين”، و”إمارة القوقاز”، بالإضافة إلى المقاتلين في صفوف داعش والمنحدرين من هذه المنطقة تحديدًا.

تأتي منطقة الفولجا، وعلى وجه التحديد تتارستان وباشكيريا، على قائمة أهم المناطق التي تلعب دورا مهما كمنبع من منابع الإرهاب في روسيا، وفي هذا السياق أيضًا لا يُخفى الدور الذي لعبه مهاجرو القوقاز في نشر وتعميم الإرهاب الإسلامي المتشدد هناك.

وتعتبر المنطقة ساحة مفتوحة لتجنيد المتطوعين وتصديرهم لأجل المشاركة في العمليات القتالية التي تحدث في سوريا والعراق. بحيث انضمت اعداد هائلة من سكان هذه المنطقة الى جماعات إرهابية شهيرة مثل الاخوان المسلمون، ومنظمة حزب التحرير الإسلامي، وداعش وغيرها.

ونجحت جهود المتشددون من دُعاة الخليج في استقطاب العديد من العُمال المهاجرين والقادمين من بلدان آسيا الوسطي “قيرجيزستان، طاجستان، أوزبكستان”، وتفرع عن هؤلاء عديد من مقاتلي جماعات إرهابية مثل “جند الشام، جبهة النصرة، داعش”. وفي 2015، ووفقًا لتقديرات وزارة الشئون الداخلية الروسية، شارك حوالي ألف ونصف مهاجر من روسيا الاتحادية في أنشطة الجماعات الإرهابية الدولية، وتم رفع أكثر من 300 قضية جنائية ضد مهاجرين روسيون انضموا إلى منظمات ارهابية دولية.

وفي الوقت الحالي، يوجد هناك آلاف من الناطقين باللغة الروسية الذين يقاتلون مع داعش في سوريا والعراق، ويتراوح تعدادهم بين 5,000 إلى 7,000 مما يعني أن اللغة الروسية تأتي باعتبارها ثاني أكثر اللغات الأكثر انتشارا في التخاطب في أوساط داعش.

ووفقا لتقرير أصدرته مجموعة صوفان، فإن روسيا بالفعل هي أكبر مصدر للمقاتلين الأجانب في صراعات سوريا والعراق.

كيف واجهت روسيا تيارات الإرهاب المختلفة؟

اتبعت روسيا سياسات مختلفة في طريقها لمواجهة الجماعات المتطرفة، من ضمنها سياسة القبضة الحديدية والتي تعني رد الفعل العسكري الفوري والعنيف تجاه كل تحرك متطرف. وكان هذا على غرار مواجهة حركات التمرد السابقة في الشيشان-قبل تولي رمضان قاديروف الرئاسة- المعروف عن متانة علاقته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ودوره الكبير في مساعدة روسيا على مواجهة حركات التمرد في الشيشان والحد منها.

يذكر كذلك في هذا السياق، أن السبب الرئيسي وراء التمرد في الشيشان لم يكن يرجع إلى الرغبة في الدفاع عن الدين – كما تزعم داعش والإخوان المسلمون وأمثالها- بل كانت بدعوى التمرد لأجل الإنفصال عن روسيا، أي أن أسباب التمرد هناك وخروجه بعد ذلك من أراضي الشيشان والتوسع في الهجوم على المدنيين في بقاع أخرى متفرقة، لم تكن يومًا ترجع لأسباب دينية.

حددت استراتيجية روسيا 2020 لمكافحة الإرهاب، عدة مبادئ أساسية لمكافحة الإرهاب، سعت من خلالها لمكافحة مسببات الظاهرة دون الاقتصار على التعامل مع اعراضها فقط، من ضمنها تعزيز قدرات الأجهزة الأمنية، سواء كانت وزارة الداخلية أو أجهزة الأمن الفيدرالية، وإنزال ضربات قاصمة بالإرهابيين وتدمير مراكز تجمعهم وتدريبهم.

وتتبع روسيا في نفس الإطار سياسة تضييق الخناق على الكتل الإسلامية، مما يدفع أغلبها إلى التحرك في نزوح جماعي صوب الدول العربية. وفي هذا النزوح وجدت داعش والجماعات المتطرفة الأخرى فرصة شاسعة لأجل ضم وتجنيد المزيد من الأعضاء المخلصون إلى صفوفها.

وفي الماضي، اتهمت روسيا أثناء مواجهاتها المختلفة مع الحركات الإرهابية بارتكابها لانتهاكات في مجال حقوق الانسان، ولكن كلما لاحت في الأفق إشارات اقتراب النزاعات المسلحة في الدول العربية على نهايتها، ظهرت تساؤلات حول مصير المقاتلين الروس وكيف سوف تتعامل معهم القوات الروسية في حالة محاولتهم الرجوع مرة أخرى إلى بلدانهم الأصلية؟! هل تنتظر روسيا جولة جديدة فيما يُطلق عليه العالم انتهاكات في مجال حقوق الانسان؟!

كاتب

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى