
تحالف “ترامب” واليمين الأوروبي.. أي مستقبل في ضوء الحرب التجارية؟
دَعم اليمين المتشدد في القارة الأوروبية عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض في ولايته الثانية، خاصة وأنه يتفق معهم في التأثير الإيديولوجي والتقارب الفكري، فكلاهما يتبنى الخطاب الشعبوي المعادي للنخبة، والمعارض للهجرة، وكلاهما يركز على الهوية الوطنية ويتشكك في المؤسسات الأوروبية. ولكن بالرغم من هذا التوافق فإن حرب “ترامب” التجارية الأخيرة والتي شملت حتى الحلفاء الأوروبيين باتت تهدد المشروع الأمريكي بتفكك الاتحاد الأوروبي وإضعافه، وهو ما قد يقوض تحالف “ترامب” مع قادة اليمين في أوروبا لتغليب المصالح الداخلية.
خلافات “ترامب” والقارة الأوروبية
لم يسبق لإدارة أمريكية أن أبدت عداءً صريحًا تجاه الاتحاد الأوروبي أو تجاه المشروع الأوروبي بأكمله حتى جاء الرئيس “ترامب” ليقوم بهذا الدور تحت ذريعة “استغلال الاتحاد الأوروبي للولايات المتحدة الأمريكية”. وينبع اضطهاد “ترامب” المُعلن للاتحاد الأوروبي وسياساته في المقام الأول من مظالم اقتصادية وأيديولوجية وجيوسياسية، كما تجلّت في تصريحاته وأفعاله المختلفة خلال فترة رئاسته الأولى (2017-2021)، ومنذ بدء ولايته الثانية مطلع هذا العام، ما يجعل الأمر يبدو وكأنه حربًا ثقافية مع الاتحاد الأوروبي[1] بهدف إثارة الانقسام السياسي في المجتمع الأوروبي متعدد الثقافات. وبتقسيم تلك الخلافات[2] نجد أنها تتمحور حول:
- خلافات سياسية:
ينظر “ترامب” إلى الاتحاد الأوروبي كمنافس للهيمنة الأمريكية في النظام الدولي الليبرالي، مفضلًا أوروبا الضعيفة اقتصاديا والأكثر اعتمادًا عسكريًا على الولايات المتحدة، ويمكن رؤية ذلك من خلال انتقاده المستمر للإنفاق الدفاعي لأعضاء حلف الناتو –خاصة ألمانيا- البالغ 2% من الناتج المحلي الإجمالي، ومطالبته بزيادة تلك النسبة إلى 5%[3]، متجاهلًا دور الحلف في الحفاظ على الاستقرار العالمي، ومهددًا بتقليص الضمانات الأمنية الأمريكية، بما في ذلك دعم أوكرانيا، القضية التي تستحوذ على اهتمام القارة الأوروبية وتعتبرها حربًا وجودية مع روسيا، بينما تقلل واشنطن منها وتريد إنهاءها لصالح عودة العلاقات مع موسكو.
بجانب ذلك، انسحبت إدارة “ترامب” في الولاية الأولى عام 2018 من الاتفاق النووي مع إيران (2015)، بينما حافظ الاتحاد الأوروبي على التزامه بالاتفاق وحاول إنشاء آلية دفع (INSTEX) لتفادي العقوبات الأمريكية. وحتى حين قرر “ترامب” استئناف المحادثات مع إيران بشأن برنامجها النووي هذه الأيام، لم يعط المسؤولون الأمريكيون الدول الأوروبية الرئيسة- بريطانيا وفرنسا وألمانيا- أية معلومات مسبقة حول تلك المباحثات بالرغم من أن الدول السابقة كانت هي الدافعة والوسيطة لذلك الاتفاق، وتسعى جاهدةً لدفع المفاوضات حول اتفاقٍ جديد.
وفي الولاية الأولى، رأى “ترامب” أن العلاقات السياسية والاقتصادية للاتحاد الأوروبي مع الصين وروسيا تجعله شريكًا غير موثوق، بينما تُظهر ولاية “ترامب” الثانية استعدادًا أقل للتعامل مع مسؤولي الاتحاد الأوروبي، والانخراط في العملية البيروقراطية الطويلة لاتخاذ القرارات المتعلقة بالتحالفات، وتفضيله التعامل مع القادة القوميين الشعبويين لحل القضايا الملحة، كقضية روسيا وأوكرانيا التي يشتركون جميعًا عبرها بأهمية عودة العلاقات مع الجانب الروسي في أسرع وقت.
- صدامات أيديولوجية:
تتعارض أيديولوجية “ترامب” “أمريكا أولًا” وتشككه في المؤسسات متعددة الأطراف مع نموذج الاتحاد الأوروبي للحوكمة فوق الوطنية، والقانون الدولي، والقيم الديمقراطية الليبرالية. “فترامب” ينظر إلى الاتحاد الأوروبي ككيان بيروقراطي ذي ضرائب مرتفعة يخنق المنافسة ويروج لسياسات “الوعي” التي يعارضها هو وحلفاؤه، معتبرًا أن العلاقات الثنائية أكثر مرونةً وتُتيح تفاوضًا مباشرًا يحقق مكاسب أكبر، حتى لو أضعفت التضامن الغربي.
ويزعم “ترامب” أن الاتحاد الأوروبي يقمع حرية التعبير ويزور الانتخابات، خاصة عندما يتعلق الأمر بوصول اليمين المتشدد للسلطة، وأن الاتحاد يميل نحو الأحزاب الديمقراطية الداعمة للقضايا التي لا يفضلها الحزب الجمهوري الأمريكي كالإجهاض والهجرة[4] والمناخ وحقوق المتحولين جنسيًا، وغيرها من القضايا. كما يعكس خطاب “ترامب” عداءً أوسع نطاقًا تجاه المنظمات متعددة الأطراف مثل منظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية، والتي يراها تُقيد السيادة الأمريكية.
- خلافات اقتصادية:
بالرغم من أن حجم التجارة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يقدر بنحو 1.5 تريليون دولار، فإن “ترامب” قد انتقد المؤسسة الأوروبية مرارًا وتكرارًا لما يراه ممارسات تجارية غير عادلة، وخاصةً العجز التجاري الأمريكي مع الاتحاد الأوروبي، زاعمًا أنه شُكّل “لإفساد الولايات المتحدة” اقتصاديًا، حيث أشار إلى عجز في تجارة السلع يصل إلى 300 مليار دولار (وفقا لبيانات الاتحاد الأوروبي[5]، بلغ عجز تجارة السلع الأمريكية مع الاتحاد 156.6مليار يورو في عام 2023، على الرغم من تعويضه بفائض أمريكي في الخدمات وصل إلى 104 مليارات يورو، ليصل إجمالي الميزان التجاري إلى 51.8 مليار يورو، لصالح الاتحاد الأوروبي)[6]، كما اتهم الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية وحواجز جمركية عالية على المنتجات الأمريكية مثل السيارات والسلع الزراعية، بينما يُغرق السوق الأمريكية بالسلع الأوروبية، مثل السيارات.

ولهذا هدد “ترامب” بحماية الصناعات الأمريكية من خلال الرسوم الجمركية في ولايته الأولى، خاصة على الصلب والألمنيوم عام 2018، بحجة الأمن القومي الأمريكي، وهو ما أضر بصناعات حيوية أوروبية. وفي أبريل 2025، تراوحت التعريفات الجمركية التي فرضها “ترامب” بين 10% و25% على واردات الاتحاد الأوروبي ما لم يُزد الاتحاد الأوروبي مشترياته من النفط والغاز الأمريكيين.
وتشير بعض التقارير[7] إلى أن فرض رسوم جمركية بنسبة 10% على جميع الواردات الأوروبية قد يُؤدي إلى تآكل الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا بنسبة تصل إلى 1.5%، أي ما يعادل 260 مليار يورو (270.3 مليار دولار)، ما يضرّ بقطاعات مختلفة، بما في ذلك السيارات والأدوية والأغذية والمشروبات.
منفعة متبادلة: دور “ترامب” في صعود اليمين المتشدد الأوروبي

ورغم ذلك، لدى “ترامب” أجنحة داعمة لأجندته وحربه الثقافية في الداخل الأوروبي، ويأتي في مقدمة الداعمين الأحزاب السياسية في أقصى اليمين الأوروبي[8]، وعلى رأسهم: رئيس الوزراء المجري “فيكتور أوربان”، ورئيسة الوزراء الإيطالية “جورجيا ميلوني”، ورئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيتسو، وغيرهم كالشعبوي البريطاني المناهض للاتحاد الأوروبي “نايجل فاراج”، بالإضافة إلى الفرنسي المتشدد إريك زيمور، والبلجيكي “توم فان جريكن”، ورئيس الوزراء البولندي السابق “ماتيوش مورافيتسكي”، والذي اصطدم مع بروكسل في نزاع طويل حول سيادة القانون. وفي هذا الصراع، لن يتطلب الأمر سوى العمل معهم ودعمهم لتغيير الصورة النمطية الليبرالية عن الاتحاد الأوروبي، والتأثير في سياسة الاتحاد الداخلية وتقليل التنسيق الأوروبي المشترك.
هناك العديد من هذه الأحزاب تطالب بانسحاب بلدانها من الاتحاد الأوروبي نهائيًا، اقتداءً بالتجربة البريطانية “بريكست”، ولكن منذ الاضطرابات الهائلة التي أحدثها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، باتت هذه الأحزاب تدعو عادةً إلى تغيير الاتحاد الأوروبي من الداخل، وتعزيز الأفكار اليمينية الداعية لإعطاء الأولوية للسيادة الوطنية، واضطهاد الهجرة والمهاجرين والإسلام، والدعوة إلى تجريد المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي من العديد من صلاحياتهما، وتنشر هذه الأفكار بين قاعدة كبيرة من الناخبين الساخطين من تردي الأوضاع الداخلية، الأمر الذي من شأنه أن يحول في النهاية الاتحاد الأوروبي إلى كتلة لا تعيق الأجندة المعادية للديمقراطية والليبرالية في أوروبا.
وبإلقاء نظرة سريعة داخل القارة الأوروبية، نجد أن مؤيدي “ترامب” السياسيين من اليمين المتشدد يتقدمون بالفعل تقريبًا في جميع دول الاتحاد الأوروبي[9]، وتتمتع ست دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي (كرواتيا، وفنلندا، والمجر، وإيطاليا، وهولندا، وسلوفاكيا) بحكومات يمينية أو شركاء ائتلافيين. وقد أسفرت انتخابات البرلمان الأوروبي[10] العام الماضي عن تشكيل مجموعة “وطنيون من أجل أوروبا” كثالث أكبر كتلة برلمانية أوروبية، فقد تفوق الوطنيون، وهم: (حزب ANO التشيكي، وحزب الحرية النمساوي، وحزب فيدس المجري، والتجمع الوطني الفرنسي)، على حزب المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين العريق (ECR) -وهو تشكيل يميني متطرف إلى حد كبير- بقيادة حزب إخوان إيطاليا وحزب القانون والعدالة البولندي. وحلت أحزاب يمين الوسط في المقدمة في ألمانيا واليونان وبولندا وإسبانيا، كما حققت تقدمًا كبيرًا في المجر.
كما أن الانتخابات الداخلية التي أجريت عام 2024 قد جعلت الأحزاب اليمينية المتشددة مثل “البديل من أجل ألمانيا” و”تحالف سارة فاجنكنيخت”، تشهدان صعودًا لافتا في ألمانيا. وفي فرنسا، تصدرت “ماري لوبان” وحزبها التجمع الوطني المشهد السياسي خلال جولة الانتخابات الأولى، لكن التحالفات وتكتيكات التصويت من جانب الوسط واليسار دفعت بالحزب إلى المركز الثالث في الجولة الثانية، مما أدى في النهاية إلى مجلس تشريعي منقسم تعرقل من خلاله “لوبان” صلاحيات الرئيس الفرنسي، وقد تمكنت مؤخرا من خفض الدعم لأوكرانيا من 3 مليارات يورو إلى 2.5 مليار يورو عبر مشروع الموازنة الفرنسية[11]. أما في هولندا، يُعد حزب “الحرية” اليميني المتطرف بقيادة “خيرت فيلدرز” أكبر شريك في الائتلاف الحاكم الحالي. بينما حاول “حزب الإصلاح” اليميني المتطرف بقيادة “نايجل فاراج” أن يثبت وجوده خلال اتجاه الناخبين نحوه في الانتخابات البريطانية.
ولم يكن “ترامب” العامل الوحيد المباشر في صعود اليمين الأوروبي، لكنه أسهم بعودته مجددا للبيت الأبيض في تهيئة مناخ سياسي عالمي أعطى زخمًا للأحزاب اليمينية المتشددة، فتقسيم الاتحاد الأوروبي من الداخل قد لاقى بالفعل استحسان الجمهوريين في الولايات المتحدة، واستغلت منظمات تابعة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب فترة ما قبل الانتخابات الأمريكية لإقامة روابط بين الجمهوريين الأمريكيين واليمين المتطرف الأوروبي، ويمكن رؤية ذلك عبر التدخل الأمريكي الأخير في السياسة الأوروبية، بما في ذلك التأييدات رفيعة المستوى الأمريكية للأحزاب اليمينية واستغلال المنصات الإلكترونية لذلك، هذا بجانب التقارير التي تشير إلى أن بعض الجماعات اليمينية المتطرفة في أوروبا تلقت تمويلًا أو دعمًا غير مباشر من حلفاء ترامب، ومن أشهر الأمثلة:
● أعلن “إيلون ماسك”[12]، وزير كفاءة الحكومة والرئيس التنفيذي لشركة إكس تأييده العلني لحزب “البديل من أجل ألمانيا” خلال الانتخابات البرلمانية الألمانية في فبراير الماضي[13]، داعيا الشعب الألماني إلى التصويت له، وهو ما أسهم بشكل كبير في ترسيخ مكانة حزب اليمين المتطرف وأجندته. كما دعم “ماسك” سياسيين أوروبيين شعبويين يمينيين آخرين، بمن فيهم رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني[14] وزعيم حزب الإصلاح في المملكة المتحدة نايجل فاراج[15]، وهو ما أثار احتمال أن يدعم قطب التكنولوجيا حزبه “الإصلاح في المملكة المتحدة” ماليًا.
● انتقد نائب الرئيس “جيه دي فانس”[16] القادة الأوروبيين في مؤتمر “ميونخ” للأمن، لعدم استماعهم للجماعات السياسية اليمينية، في إشارة إلى حزب “البديل من أجل ألمانيا” الحاصل على ثاني أعلى نسبة تأييد في الانتخابات الألمانية، كما انتقد الحكومات الأوروبية لرفضها اتخاذ إجراءات لوقف الهجرة غير الشرعية.
● دعم كل من دونالد ترامب وإيلون ماسك بشكل مباشر ماري لوبان[17] التي أدينت بالاختلاس وإسادة استخدام أموال البرلمان الأوروبي في فرنسا، ومنعها من تولي أي مناصب سياسية في السنوات الخمس القادمة، متهمين اليسار بإساءة استخدام النظام القانوني لسجن خصومه. وبشكل عام، يُعطي هذا الدعم فكرةً عما يُمكن توقعه في الانتخابات القادمة في بولندا ورومانيا وفرنسا وغيرها.
● نددت إدارة “ترامب” بالهجمات المزعومة على سياسيين آخرين من اليمين المتطرف في أوروبا، بما في ذلك قرار المحكمة بإعادة الانتخابات الرئاسية الرومانية[18]، والتي شهدت فوزًا مفاجئًا لمرشح من اليمين “كالين جورجيسكو”، بسبب تقارير استخباراتية رُفعت عنها السرية أفادت باحتمال تدخل روسي في حملته الانتخابية.
● التعاون بين مؤسسات يمينية أمريكية (مثل مؤسسة التراث)، والتي لها دور في مشروع 2025 الخاص ببرنامج “ترامب”، مع معاهد بحثية يمينية (مثل معهد أوردو يوريس البولندي ومعهد ماتياس كورفينوس المجري)[19]، من أجل تعزيز أجندة سيادية معادية تطرح مشروع إصلاح بديل للاتحاد الأوروبي، والتأكيد على فكرة أن الهدف الرئيس لإدارة “ترامب” الثانية سيكون “تفكيك الدولة الإدارية وإعادة الحكم الذاتي للشعب الأمريكي”.[20]
ووفق ما سبق، فمن المرجح أن يكون أحد أسباب تردد “ترامب” في الدخول في تحالفات دائمة مع الاتحاد الأوروبي هو اعتقاده بأنها تحد من حركة الولايات المتحدة وقدرتها على التفاوض لتحقيق صفقات أكثر ربحية مع شركاء متنوعين. كما أن ميل “ترامب” إلى عقد اتفاقيات ثنائية مع حكومات يمينية- خارج إطار الاتحاد- قد يكون له تداعيات كبيرة على الساحة الأوروبية؛ فالعلاقات الوثيقة التي نسجتها إدارته مع المجر – الحليف الأوروبي الأبرز “لترامب” – بالإضافة إلى تواصلها مع حركات شعبوية في النمسا وإيطاليا وبولندا وسلوفاكيا ودول أخرى، ولو بدرجة أقل، قد تؤثر بشكل ملحوظ على سياسات الاتحاد الداخلية. وعبر حق النقض والتعطيل واستغلال تلك الدول لنفوذها في المجلس الأوروبي، يمكن عرقلة قرارات الاتحاد فيما يتعلق مثلا بالعقوبات على روسيا أو سياسات اللجوء أو تعزيز شراء النفط والغاز والأسلحة من الولايات المتحدة وغيرها، وذلك في مقابل دعم واشنطن لهذه القوى السياسية في نزاعاتها داخل الاتحاد الأوروبي أو مساعدتها في مواجهة تحدياتها الفردية.
الحرب التجارية في مواجهة الحرب الثقافية

إن السرعة التي قلب بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العلاقات عبر الأطلسي رأسًا على عقب وتقويضه حلف الناتو والنأي بنفسه عن أوكرانيا أربكت القادة الأوروبيين وتحديدًا اليمين[21]، دافعًا بهم إلى الانقسام، حيث يخشى البعض أن يؤدي التضامن الثابت مع نسخة الرئيس الأميركي من القومية إلى الإضرار بجهودهم لتوسيع نطاق الدعم المحلي لهم، بينما يبدي عدد كبير منهم – خاصة في أوروبا الشرقية- تعاطفا كبيرا مع روسيا[22]، ولكن يتفق الجانبان على أن اليمين الشعبوي في أوروبا قد أصبح عرضة لأهواء الزعيم الأمريكي الذي سيتخلى عن مصالحهم من أجل مصالحه.
وحاليا، تصطدم حرب “ترامب” الثقافية بحربه التجارية على أوروبا، فالرسوم الجمركية المفروضة على أوروبا الفترة الماضية، والتي تتراوح بين 10-25% على جميع واردات الاتحاد الأوروبي، من شأنها أن يكون لها آثار سلبية على الاقتصاد الأوروبي وفي القلب منها دول اليمين. وبالفعل، تسببت تلك القرارات الاقتصادية بتنفير الجماعات اليمينية الأوروبية -التي تشكل قاعدة دعم “لترامب” في أوروبا-، وأدت إلى تراجع شعبيته، وأثبتت أن التحالف مع قوته السياسية غير مجدٍ للمصالح الأوروبية، وقلل عدد كبير من القادة الأوروبيين الداعمين له من دعمهم العلني الذي كان بارزا قبل قراراته الأخيرة.
وقد يكون التراجع عن التعاون مع الرئيس الأمريكي ينبع عن خوف حقيقي من ردود فعل الناخبين، خاصة وأن سياسات “ترامب” التجارية تستهدف قطاعات حيوية في أوروبا، مثل الصناعة الألمانية والزراعة الفرنسية، وهي مناطق تشكل معاقل انتخابية لليمين المتطرف، وكذلك سياساته الأمنية وتهديده بالتراجع عن الدفاع عن أوروبا يهدد بشكل مباشر دولًا يمينية كبولندا والسويد. ومع ذلك، لم يقترح أي حزب يميني أي أفكار طرحتها الأحزاب اليسارية أو الوسطية حول الاستقلال الأوروبي الأمني والتجاري عن الولايات المتحدة.

وهذا الانقسام اعتبره الديمقراطيون الأوروبيون بمثابة نقطة ضعف لدى اليمين المتشدد ينبغي استغلالها من أجل كبح جماح “ترامب” وحربه على أوروبا، بجانب إضعاف اليمين وأجندته، ما يعني أن “ترامب” عمل –دون قصد- بسياساته الصادمة تجاه أوروبا على صنع الدواء الذي يحتاجه الاتحاد الأوروبي ليصبح من الناحية التجارية سوقًا موحدة، ما يغذي النمو والإنتاجية التي افتقدها الاتحاد منذ فترة، حتى لو استمرت الأحزاب اليمينية باللوم على الاتحاد الأوروبي بدلًا من “ترامب”، مدعية أن بروكسل فشلت في التفاوض لحماية المصالح الأوروبية.
لذا نجد أن أوروبا[23] قد سعت بالفعل إلى بناء أو تحسين علاقاتها التجارية مع مختلف الشركاء، فقد أجرى مسؤولون -على سبيل المثال لا الحصر- محادثات مع المكسيك والهند وكوريا الجنوبية[24] وجنوب أفريقيا[25] وآسيا الوسطى، كما أعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيبدأ محادثات بشأن التجارة الحرة مع الإمارات العربية المتحدة[26] وكندا[27]، والعمل على إصلاح النظام التجاري العالمي.
أما عسكريا، فقد تسابقت بعض الدول الأوروبية – ومنها بعض الدول اليمينية- للحصول على مقعد في مناقشات حول كيفية وقف الحرب في أوكرانيا، وإقناع “ترامب” بالعودة إلى ما اعتبرته منطقًا، ووضع خطة لأمنها، وذلك خلال اجتماعات عقدت في فرنسا والمملكة المتحدة، استضاف خلالها كلٌّ من “إيمانويل ماكرون” ورئيس الوزراء البريطاني “كير ستارمر” عددًا كبيرًا من الزعماء الغربيين، وخطط كلاهما لزيارات إلى واشنطن، مع زيادة وتيرة الترويج ل فكرة الاستقلال الأوروبي عن الولايات المتحدة.
في الختام، يبدو أن التحالف بين “ترامب” واليمين الأوروبي يعاني من شرخ متزايد بسبب السياسات الأمريكية، وقد تكون أوروبا هي الخاسر الأكبر إذا انقسمت داخليًا وفشلت في بناء تحالفات داخلية قوية، لكنها قد تكون أيضًا المستفيد إذا نجحت في تحقيق استقلالها الاستراتيجي بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية، وإذا ربح “ترامب” معارك قصيرة المدى مع أوروبا عبر الضغط الاقتصادي ودعم الشعبويين، إلا أنه في النهاية سيخسر دون أن يدري الحرب الطويلة لضمان ولاء أوروبا، الحليف الأقرب للولايات المتحدة.
[1] ‘When culture war and trade war clash: Trump’s troubled alliance with Europe’s far right’, European Council on Foreign Relations, https://ecfr.eu/article/when-culture-war-and-trade-war-clash-trumps-troubled-alliance-with-europes-far-right/
[2] ‘Why Donald Trump Has Turned on Europe’, JACOBIN, https://jacobin.com/2025/03/trump-europe-dependence-military-energy
[3] ‘Trump says NATO members should spend 5% of GDP on defence’, Euractiv, https://www.euractiv.com/section/politics/news/trump-says-nato-members-should-spend-5-of-gdp-on-defence/
[4] ‘Frontex and the new Pact on Migration and Asylum’, FRONTEX, https://tinyurl.com/5fhd8mv6
[5] ‘EU trade relations with the United States. Facts, figures and latest developments’, European Commission, https://policy.trade.ec.europa.eu/eu-trade-relationships-country-and-region/countries-and-regions/united-states_en
[6] ‘EU-US trade: facts and figures’, European Council, https://www.consilium.europa.eu/en/infographics/eu-us-trade/
[7] ‘Why Trump’s plans for tariffs could be bad for Europe’s economy’, Euro News, https://www.euronews.com/business/2024/11/04/how-much-could-trumps-tariffs-damage-europes-economy
[8] ‘Who’s been invited? World’s far-right populists pack guest list for Trump’s inauguration’, Politico, https://www.politico.eu/article/donald-trump-inauguration-far-right-populists-giorgia-meloni-javier-milei/
[9] ‘Trump and his growing number of European allies threaten the European project’, Chatam House, https://www.chathamhouse.org/2024/11/trump-and-his-growing-number-european-allies-threaten-european-project
[10] “قراءة في نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي 2024″، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، https://acpss.ahram.org.eg/News/21198.aspx
[11] ‘France set to miss €3B mark for Ukraine aid’, Politico, https://www.politico.eu/article/france-miss-3-billion-mark-ukraine-aid-pledge-sebastien-lecornu-security-deal/
[12] ‘Backlash builds as Elon Musk endorses Germany’s far right’, Politico, https://www.politico.eu/article/elon-musk-endorses-germanys-far-right/
[13]“Elon Musk-Alice Weidel Full Conversation: Tesla CEO speaks to German far-right party AfD chief“, YouTube, https://www.youtube.com/watch?v=cpjKbWKZn00
[14] ‘‘Precious genius’ Elon Musk love-bombs ‘beautiful’ Giorgia Meloni at think tank awards’, Politico, https://www.politico.eu/article/precious-genius-elon-musk-love-bombs-beautiful-giorgia-meloni-global-citizens-award-un/
[15] ‘Elon Musk and Nigel Farage get flirty’, Politico, https://www.politico.eu/article/elon-musk-nigel-farage-brexit-britain-reform-donald-trump/
[16] ‘Vice President JD Vance Delivers Remarks at the Munich Security Conference’, YouTube, The White House, https://www.youtube.com/watch?v=pCOsgfINdKg
[17] ‘Trump publicly backs France’s far-right figurehead Le Pen after her conviction’, CNN, https://edition.cnn.com/2025/04/04/europe/trump-backs-le-pen-banned-far-right-france-intl-hnk/index.html
[18] ‘Chaos erupts in Romania after far-right frontrunner banned from presidential vote’, CNN, https://edition.cnn.com/2025/03/10/europe/romania-georgescu-ban-election-protest-intl/index.html
[19] ‘The Great Reset – An Urgent Need for Drastic EU Reform’, Ordo Iuris, https://en.ordoiuris.pl/civil-liberties/great-reset-urgent-need-drastic-eu-reform-0
[20] ‘The Orbanisation of America: Hungary’s lessons for Donald Trump’, European Council on Foreign Relations, https://ecfr.eu/publication/the-orbanisation-of-america-hungarys-lessons-for-donald-trump/
[21] ‘Trump is a problem for Europe’s most important hard-right leaders’, The Economist, https://www.economist.com/international/2025/03/23/trump-is-a-problem-for-europes-most-important-hard-right-leaders
[22] ‘Trump’s polarising appeal leaves European populists in a tight spot’, The Guardian, https://www.theguardian.com/world/2025/mar/08/trumps-polarising-appeal-leaves-european-populists-in-a-tight-spot
[23] ‘World’s Friendliest Superpower? As Trump Upends Globe, Europe Positions Itself’, The New York Times, https://www.nytimes.com/2025/04/11/world/europe/european-union-trade-tariffs-trump.html
[24] ‘EU and Korea deepen ties with landmark digital trade deal’, European Commission, https://ec.europa.eu/commission/presscorner/detail/en/ip_25_732
[25] ‘EU – South Africa Summit Declaration’, European Council, https://www.consilium.europa.eu/en/press/press-releases/2025/03/13/south-africa-eu-summit-declaration/
[26] ‘EU and UAE agree to launch free trade talks’, European Commission, https://ec.europa.eu/commission/presscorner/detail/en/read_25_1043
[27] ‘Read-out by President von der Leyen following her phone call with Prime Minister Mark Carney of Canada’, European Commission, https://ec.europa.eu/commission/presscorner/detail/en/read_25_1040
باحثة بالمرصد المصري