
المواجهة المتعجلة.. اشتباكات الساحل السوري في الميزان الميداني
شهدت محافظتا طرطوس واللاذقية السوريتان، خلال الفترة بين 6 و9 مارس 2025، سلسلة من الاشتباكات والهجمات، تخللتها عمليات قتل واسعة تمت على أساس طائفي في كلا المحافظتين اللتين تضم قراهما أعدادًا كبيرة من المنتمين إلى الطائفة العلوية. ضراوة هذا المشهد ألقت بظلال قاتمة على المستقبل السوري في المدى المنظور، في ظل تنامي التحديات التي تواجه الإدارة الجديدة في دمشق.
حقيقة الأمر أنه خلال الأسابيع الماضية التي تلت سقوط نظام الأسد بدأت تظهر مؤشرات متتالية حول بدء تشكل “حالة مسلحة معارضة” لنظام الحكم الجديد في دمشق، حيث تمت هجمات محدودة في نطاق مدن الساحل ومدن حماة وإدلب ودير الزور والميادين، ومؤخرًا داخل العاصمة دمشق، تراوحت بين إطلاق النار على تمركزات الأمن العام ودورياته، وبين إشعال الحرائق في مناطق محددة، خاصة في منطقة الساحل. لكن كانت الهجمات الأخيرة في الساحل السوري بمثابة نقلة نوعية في شكل ومضمون هذه “الحالة المعارضة”، حيث تعد هذه هي المرة الأولى التي تنفذ فيها المجموعات المنخرطة في هذه الحالة هجومًا موسعًا ومخططًا له بشكل جيد.
ماذا حدث في الساحل السوري؟

شرارة التصعيد الميداني في الساحل السوري بدأت في مدينة جبلة جنوبي محافظة اللاذقية، حيث تعرضت دوريات تابعة لإدارة الأمن العام لكمين أثناء توجهها لاعتقال مطلوبين منتمين للنظام السابق في بلدة “بيت عانا” التابعة لناحية “الدالية”، ما أسفر عن سقوط قتلى من عناصر الأمن العام. تزامن هذا الاشتباك مع حملة أمنية كانت قوات إدارة الأمن العام قد أطلقتها في حي “الدعتور” بمدينة اللاذقية.
عقب هذا الكمين، تعرضت دوريات تابعة للأمن العام وإدارة العمليات العسكرية لعدة كمائن بشكل منسق ومتزامن في كل من طرطوس وبانياس وجبلة واللاذقية والقرداحة، ففي مدينة جبلة تم محاصرة الكلية البحرية والمستشفى الحكومي، وأسر عددًا من عناصر الأمن العام، وفي طرطوس تمت مهاجمة مبنى المحافظة، وفي بانياس تم تنفيذ عدة كمائن داخل المدينة، ومهاجمة المستشفى الحكومي، وهو نفس ما حدث في مدينة اللاذقية، بجانب محاصرة عدد من عناصر الأمن العام في مدينة القرداحة، ومهاجمة حاجز الأمن العام أمام قاعدة حميميم الجوية شمال جبلة، وقتل معظم أفراده.
يضاف إلى ما سبق تنفيذ عدة كمائن على طريق جسر الشغور – اللاذقية، وهو جزء من الطريق الدولي حلب – اللاذقية “M-4″ – بما في ذلك محاصرة قوة من الأمن العام في قرية الجنديرية، بجانب تنفيذ كمائن أخرى على الطريق الساحلي “طرطوس – بانياس”، وفي عدة مناطق بريف اللاذقية الشرقي. هذه الهجمات المتزامنة، صاحبتها هجمات محدودة في مناطق أخرى، منها هجوم على دورية للأمن العام في حي المزة بمدينة دمشق، وهجوم آخر على الأمن العام في وادي العيون وعين كروم بسهل الغاب شمال غرب مدينة حماة، وهجوم على مقر للأمن العام في بلدة “بقرص تحتاني” شرق دير الزور، بجانب تعرض حاجزين للأمن العام في مدينة الميادين شرقي سوريا، لإطلاق نار.
الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للنظام السوري الجديد بدا أنها تفاجئت بحجم الهجوم، واحتاجت عدة أيام كي تستوعبه، خاصة في ظل الكمائن التي نُفّذت لأرتال الأمن العام المتحركة على الطرق الرئيسة المؤدية من إدلب إلى اللاذقية، ومن حمص إلى طرطوس. واللافت هنا أن مجموعات مسلحة عديدة تابعة لهيئة تحرير الشام قد تحركت نحو الساحل السوري بدعوى التصدي لهجمات “فلول الأسد”، ما أنتج مشهدًا دمويًا اختلط فيه العامل الطائفي بالعامل الميداني، لقى فيه مئات من المدنيين في قرى وبلدات الساحل حتفهم، خاصة في قرى “الداليا”، “تعنيتا”، “القدموس”، “دمسرخو”، “سلحب”، “الحفة”، “المزيرعة”، “الشلفاطية”، “المختارية”، “الزوبار”، وحي “القصور” بمدينة بانياس، وحي “بسيسين” في مدينة جبلة، ووصلت عمليات القتل إلى مناطق تقع جغرافيًا في ريف حماة الغربي، مثل بلدات “الشير” و”أرزة” و”قمحانة”.
تنظيمات مسلحة تطرح تحديات ميدانية أمام دمشق

طرحت هجمات الساحل السوري -من جملة أسئلة عدة- تساؤلات حول الجهة المنفذة لها، خاصة وأن سلطات دمشق دائمًا ما تشير إلى أي عمليات تخريب أو هجمات تطال عناصرها الأمنية والعسكرية بأنها من تدبير “فلول النظام السابق”. عمليًا ظهرت خلال الأسابيع الماضية عدة تنظيمات مسلحة مناهضة للإدارة الجديدة في سوريا، تحت مسميات مختلفة لكنها ترتبط -بشكل أو بآخر- بالمحور الذي كان النظام السوري السابق يتموضع فيه، وأبرز هذه التنظيمات، (جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا (أولى البأس) – المجلس العسكري لتحرير سوريا – لواء درع الساحل – حركة الوعد الصادق – أشباح روح المقاومة – المقاومة الشعبية السورية).
يضاف إلى هذه المجموعات مجموعة كانت ناشطة سابقًا ضمن تشكيلات الميليشيات الرديفة للجيش السوري السابق، وهي “كتيبة أسود الجبل”، التي كانت تحت قيادة بسام حسام الدين، ونفذت عملية وحيدة الشهر الماضي في مدينة جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية، احتجزت خلالها عددًا من عناصر الأمن العام، لكن في نهاية هذه العملية قام قائد هذه المجموعة بتفجير نفسه.
كافة المجموعات السابقة اكتفت منذ الإعلان عنها بإصدار بيانات مكتوبة تهاجم الإدارة السورية الجديدة، إلا أن “لواء درع الساحل”، و”المجلس العسكري لتحرير سوريا”، يعتبران رأس الحربة الميدانية لهذه المجموعات، والتي من خلالها تم تنفيذ الهجمات الأخيرة في الساحل السوري، حيث يقود لواء درع الساحل، العقيد مقداد فتيحة، وكان هذا الضابط يخدم سابقًا ضمن صفوف الحرس الجمهوري السوري السابق، وفي الفرقة 25 قوات خاصة، وبعد سقوط نظام الأسد، قام بتشكيل هذا التجمع المسلح في الساحل السوري، وأصدر سلسلة من التسجيلات المصورة، التي أكدت ضلوعه في الهجمات الأخيرة على الساحل، وسبق وقام في الحادي والعشرين من فبراير الماضي بتلاوة بيان أعلن فيه أن ثلاث مجموعات مسلحة تنتمي إلى “محور المقاومة”، ستعمل جنبًا إلى جنب خلال المرحلة القادمة، وهي لواء درع الساحل، وجبهة المقاومة الإسلامية في سوريا “أولي البأس” -التي يشي الشعار المعلن الخاص بها عن ارتباط وثيق بإيران- وفصيل “أشباح روح المقاومة في المنطقة الشرقية”. هذا البيان أكد أن لواء “درع الساحل” بات يعد “عمليًا” ذراعًا ميدانية لهذا التجمع الذي مازال ملتزمًا بالعمل ضمن إطار “محور المقاومة”.
الحقيقة أن مجموعة “لواء درع الساحل” لا تعد في حد ذاتها تشكيلًا مسلحًا مستجدًا، فقد تأسست فعليًا في مايو 2015، حين أعلن الحرس الجمهوري السوري عن تشكيل “لواء درع الساحل” كرديف للجيش السوري، بهدف حماية مدن الساحل، بعد أن اقتربت آنذاك مجموعات المعارضة المسلحة من مدينة القرداحة، بعد سيطرتها على مدينة أريحا التي استكملوا بها سيطرتهم على محافظة إدلب السورية.
أما المجلس العسكري لتحرير سوريا فأُعلن عنه في السادس من الشهر الجاري، ويترأسه العميد أركان حرب غياث دلة، وهو أحد قيادات اللواء 42 في الفرقة الرابعة بالجيش السوري، وأسس عام 2017 لواءً سُمي باسمه، تضمن تجنيد متطوعين مدنيين بجانب عسكريين نظاميين من الفرقة الرابعة. واحتفظ “دلة” خلال السنوات السابقة بروابط وثيقة مع المستشارين الإيرانيين الذين كانوا موجودين على الأراضي السورية، وتولى تنسيق العمليات بين وحدات الجيش السورية والميليشيات الإيرانية، خاصة خلال المرحلة التي سبقت عام 2018، وهو العام الذي انتقل فيه لإدارة العمليات في نطاق الساحل السوري، علمًا أنه موضوع منذ منتصف عام 2020، على قائمة العقوبات الأمريكية المفروضة على الشخصيات السياسية والعسكرية في نظام بشار الأسد.

بجانب كل من مقداد فتيحة وغياث دلا، تبرز أسماء ثلاث قيادات عسكرية سورية أخرى يعتقد أنها كان لها دور بارز في الترتيبات التي تمت عقب سقوط النظام السوري السابق، بهدف إطلاق عمليات مسلحة تستهدف النظام الجديد. أولها اللواء ابراهيم حويجة، الذي شغل منصب رئيس جهاز المخابرات الجوية السورية بين عامي 1987 و2002، وكان أحد أبرز رجال الأمن السوريين خلال هذه الفترة، وأُقيل من منصبه عام 2002 ضمن إعادة هيكلة النظام الأمني السوري بعد تولي الرئيس السوري السابق بشار الأسد منصبه. واعتقلت قوات الأمن العام اللواء “حويجة” في ريف جبلة خلال الهجوم الأخير على الساحل السوري.
الشخصية الثانية هي محمد محرز جابر، والذي تولى قيادة ميليشيا “لواء صقور الصحراء” التي شُكّلت عام 2013، كقوة رديفة للجيش السوري النظامي، وتولت عناصره عمليات الانتشار في المناطق الصحراوية شرقي سوريا. أما الشخصية الثالثة، فهي ياسر رمضان الحجل، وهو أحد قيادات “قوات النمر”، وهو تشكيل عسكري خاص كان تابعًا للفرقة 25 الخاصة بقيادة العميد سهيل الحسن.
معضلات وتحديات تكتيكية أمام النظام الجديد في دمشق

الهجمات الأخيرة على الساحل السوري، كانت فعالة على المستوى التكتيكي، وتم خلالها الجمع بين تكتيكات التعرض للتعزيزات القادمة نحو الساحل من اتجاه حمص وحلب، عبر استهداف طريق “M-4″ بين جسر الشغور واللاذقية، وطريق “M-20″ بين طرطوس وحمص، وفي نفس الوقت استهداف النقاط الأساسية في المدن الرئيسة بالساحل السوري، خاصة بانياس واللاذقية وجبلة والقرداحة.
الهدف الميداني من هذا الهجوم كان تشكيل ما يشبه “منطقة فاصلة” عبر رسم خط يبدأ من تخوم جسر الشغور شمالًا إلى طريق حمص – طرطوس جنوبًا، وتشكيل ما يشبه حالة تمرد للعلويين في الساحل، وقد كانت الهجمات التي تم تنفيذها دقيقة وأسفرت عن خسائر كبيرة بالمقارنة بحجم القوة البشرية والنارية المستخدمة في تنفيذها، وتعد نتائجها مؤشرًا على أن الجهد الاستخباراتي للسلطة السورية الجديدة في أدنى مستوياته، وأن مسألة توفر القوة العسكرية البشرية المدربة والمنضبطة من المعضلات الملحة التي تواجه وزارة الدفاع.
واقع الحال أن حالة “عدم الانضباط” التي شابت التحركات العسكرية الموالية للنظام الحاكم في دمشق جاءت كتأكيد إضافي على استمرار “الحالة الميليشياوية” في ثنايا التشكيلات العسكرية السورية، بما في ذلك المجموعات المسلحة التي تم تحويلها إلى ألوية عسكرية نظامية، ولعل من أهم الأمثلة على هذه الحالة، عمليات القتل والإعدام الميداني الكثيفة التي شهدها الساحل السوري مؤخرًا، وهي عمليات سبقتها أخرى في مناطق سورية متفرقة، تمت تحت عنوان “أفعال عناصر غير منضبطة”.
عمليات الإعدام الميداني في الساحل السوري كانت أبرز مؤشر على خطورة هذه الحالة، خاصة أن سكان عدد من قرى الساحل وجهوا اتهامات لفصائل بعينها بالضلوع في هذه العمليات، منها فرقة “السلطان سليمان شاه” -المعروفة باسم “العمشات”- حيث تم تحويل هذا التشكيل المسلح ليصبح فرقة نظامية تحت اسم الفرقة 62، لكن أظهرت المؤشرات الميدانية أن عناصر هذه الفرقة قد انفتحوا في الساحل السوري بعد الهجوم الأخير، رغم أن أماكن تمركزهم الأساسية ليست في هذا النطاق، ناهيك عن أن هذه الفرقة قد اصدرت بيانًا ينفي ضلوعها في أي عمليات قتل -رغم أن إصدار هذه البيانات في أي جيش نظامي يكون منوطًا فقط برئاسة الأركان العامة- والأدهى هنا أن البيان المذكور حمل بجانب اسم “الفرقة 62″، اللقب السابق الذي كانت تحمله إبان العمليات ضد نظام الأسد، وهو “العمشات”.
على الجانب المقابل، ترجح الهجمات التي تمت خلال الأسابيع الماضية على تمركزات الأمن العام وإدارة العمليات العسكرية، في عدة محافظات سورية، وعلى رأسها الهجوم الأخير على الساحل، احتمالية وجود دور إيراني في إعادة تجميع ما تبقى من قيادات عسكرية سورية سابقة كانت قد هربت إلى العراق ضمن نحو ثلاثة آلاف من منتسبي الجيش السوري السابق، عاد أغلبهم إلى سوريا، عدا نحو مئة ضابط رفيع الرتبة، ظلوا في العراق، مع وجود أنباء غير مؤكدة عن انتقالهم إلى دول أخرى.
هذه الاحتمالية تتضمن إمكانية تأسيس ما يشبه “غرفة عمليات خارجية”، تستهدف المساهمة في إجهاد القوات الأمنية والعسكرية السورية التي تواجه أساسًا تحديات عدة على المستوى الميداني، ما بين الجنوب الذي يوجد فيه الإسرائيليون والدروز، والساحل الذي تمكنت هجمات القوى المناهضة للسلطة الجديدة في إجبار الأخيرة على الدفع بأعداد كبيرة من المقاتلين –غير المنضبطين– من إدلب وحلب، نحو الساحل، وبالتالي التسبب في إحداث مجازر سيكون لها تأثير قاتل على صورة السلطة الجديدة، وبين أنشطة تنظيم داعش التي تتزايد بشكل مطرد في نطاق محافظة دير الزور، حيث بلغت عمليات التنظيم منذ مطلع العام الجاري وحتى الآن نحو 35 عملية.
يضاف إلى ذلك أن هذا الهجوم في مضمونه، يمثل ضربة للاستراتيجية التي كانت تتبعها الإدارة السورية الجديدة خلال الفترة الماضية، حيال منطقة الساحل ومنطقة الجنوب؛ فرغم تنفيذ بعض عمليات التمشيط الأمنية بحثًا عن أسلحة ومطلوبين فإنه لم يتم تنفيذ عمليات واسعة النطاق لتحقيق هذا الغرض، خاصة في منطقة الساحل، وهو ما خلق -بجانب ضعف عديد القوة البشرية المتوفرة لدى سلطات دمشق- سيولة أمنية وتسليحية كبيرة، عززتها رغبة السلطة الجديدة في تفادي أي رد فعل سلبي من جانب الخارج.
لكن رغم ما سبق لوحظ عقب انتهاء الهجمات على الساحل السوري تسريع السلطات في دمشق لعملية “توحيد البندقية”، فتم تسريع التوافق بين الإدارة السورية الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية، وتتويج ذلك بتوقيع اتفاق مبدئي يسمح بإدماج قوات قسد في وحدات الجيش السوري النظامي، وهو توافق ربما يكون في مراحله الأولية، لكنه يمثل خطوة أساسية، تلتها خطوات أخرى مهمة في كل من محافظتي درعا والسويداء؛ ففي الأولى، بدأت لجنة تابعة لوزارة الدفاع السورية بتوثيق وتسجيل أسماء العناصر الذين اندمجوا ضمن الوزارة في المنطقة الغربية من درعا رسميًا، حيث يتم منحهم أرقامًا عسكرية، وتم تأسيس فرقة الجنوب تحت اسم “الفرقة 40″، التي ستضم أربعة ألوية في المحافظة، وبمجرد انتهاء عملية التسجيل، سيكون العناصر ملزمين بتنفيذ جميع أوامر وزارة الدفاع.
أما في السويداء، عقدت الحكومة السورية اتفاقًا مع أهالي ووجهاء المحافظة يقضي بدمج كامل التشكيلات المسلحة ضمن مؤسسات الدولة، وإلحاق الأجهزة الأمنية في المحافظة بوزارة الداخلية السورية، على أن يكون عناصر الشرطة المحلية من أبناء محافظة السويداء، وهو اتفاق يبقى، في حالة تفعيله بشكل كامل، نقطة أساسية لحلحلة التوتر السائد منذ فترة في هذه المحافظة التي تحظى بطابع طائفي خاص.

محاولة الإمساك بزمام الأمور في محافظتي درعا والسويداء جنوب سوريا تتجاهل بشكل شبه كامل التهديد الذي بات يمثله الوجود الإسرائيلي في ريفي القنيطرة ودرعا. فقد بات الجيش الإسرائيلي يمتلك سيطرة نارية وقدرة مراقبة واسعة في سوريا تمتد حتى العاصمة دمشق، بما يمنع أي محاولة من جانب سلطات دمشق للتموضع العسكري في الجنوب، حتى عمق يتراوح بين 50 و65 كيلو مترًا، أي في حدود المنطقة الفاصلة بين طريق دمشق – السويداء، وحدود الجولان.
يضاف إلى ذلك أن النهج الذي تتبعه تل أبيب حاليًا فيما يرتبط بوجودها في جنوب سوريا يؤكد أنها تسعى لوجود طويل الأمد يتضمن شن عمليات توغل ومداهمة مستمرة للحيلولة دون نشوء أي أنشطة مسلحة، وفي نفس الوقت تنفيذ عمليات جوية مستدامة لتدمير أية قدرات عسكرية نوعية تابعة للجيش السوري السابق، وهو الأمر الذي يطرح معضلات كبيرة أمام النظام الانتقالي في دمشق، سواء فيما يرتبط بالاستنزاف المستمر في القدرات العسكرية التي من الممكن الاستفادة منها في إعادة بناء الجيش، أو ما يفرضه الوجود العسكري الإسرائيلي من تحديات داخلية وأمنية.
خلاصة القول، تؤشر عمليات القتل واسعة النطاق التي تمت في الساحل السوري على أن عملية تحول القوة المقاتلة للفصائل المسلحة إلى قوات نظامية قد تأخذ وقتًا أكبر بكثير من المتوقع، وبالتالي وبما أن السلطة الجديدة في دمشق تحتاج إلى التعامل بشكل حازم مع التحديات الأمنية الراهنة، وعلى رأسها محاولات تفعيل صراع طائفي في الداخل السوري بشكل يمنع أي مسعى لمد سلطة الإدارة الجديدة في كافة انحاء سوريا؛ فإنه يُتوقع أن تعتمد دمشق في المرحلة الحالية على “المكون الثوري” في بسط الأمن لمدة أسابيع أو شهور قادمة، مع إعادة النظر في مسألة “تهميش” دور الضباط والجنود الذين انشقوا عن الجيش السوري النظامي خلال السنوات الماضية، وتسريع تنفيذ الاتفاقيات التي تمت مع المكونات المسلحة في شرق وجنوب البلاد، لكن الأكيد أن العلاقة بين دمشق والأقليات السورية -مثل الدروز والعلويين- تشوبها شكوك عديدة ومخاوف، عززتها أحداث الساحل.
على الجانب الاستراتيجي، قد تربط دمشق بين التوصل إلى اتفاق يسمح باستمرار الوجود العسكري الروسي في قاعدتي حميميم وطرطوس بضغط موسكو على طهران لتحجيم أي محاولة لتوتير الوضع الداخلي في سوريا. وهو الأمر الذي يبدو صعبًا في هذه المرحلة؛ بالنظر إلى رغبة طهران في عدم منح السلطات الجديدة في دمشق أي فرصة لالتقاط الأنفاس والاستقرار، وهذا قد يرفع من احتمالات تكرار الهجمات المتفرقة على عناصر الأمن العام في سوريا، وامتداد هذه الهجمات -في حالة تفعيل الاتفاق الأخير بين قوات سوريا الديمقراطية ودمشق- إلى مناطق شرق الفرات، وهو أمر مشروط بوجود إمدادات من العراق، لأن حجم القوة البشرية والتسليحية المتوفرة للمجموعات المسلحة المناوئة للسلطة الجديدة في الداخل لا يسمح لها بالدخول في مواجهات كبيرة مع السلطات السورية، مثل المواجهة الأخيرة في الساحل، وإلا ستضمحل هذه المجموعات بمرور الوقت.
لكن فقدان المجموعات المسلحة المعارضة للسلطة في دمشق القدرة على شن هجمات واسعة النطاق مثل هجوم الساحل لا ينفي أنها تمتلك في الوقت الحالي عناصر بشرية قادرة على تنفيذ عمليات اغتيال وهجمات خاطفة، بالنظر إلى حالة السيولة الاستخباراتية والأمنية الحالية في سوريا، ولعل الإعلان عن اغتيال السفير السوري المنشق، نور الدين اللباد، وشقيقه على يد مجهولين في شمال درعا أمس، دليلًا على هذا الأمر، وبالتالي ستبقى هذه الهجمات تمثل تحديًا نوعيًا للسلطة السورية الجديدة، بجانب التحديات التي يفرضها الوجود الأجنبي على الأراضي السورية وخاصة الوجود الإسرائيلي.
مصادر:
Sary Mumayiz and Hamdi Malik, “Uli al-Baas (Part 1): A New Islamic Resistance Front in Syria?”, Washington Institute, March 9, 2025, https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/uli-al-baas-part-1-new-islamic-resistance-front-syria (accessed March 12, 2025).
Michael Young, “What Was Syria’s Violence About?”, Carnegie Middle East Center, March 11, 2025, https://carnegieendowment.org/middle-east/diwan/2025/03/what-was-syrias-violence-about (accessed March 12, 2025).Brian Carter, “UNDERSTANDING SYRIA’S EMERGING INSURGENCY”, The Institute for the Study of War (ISW), March 10, 2025, https://www.understandingwar.org/backgrounder/understanding-syria%E2%80%99s-emerging-insurgency
باحث أول بالمرصد المصري