أوروبا

التقارب الأمريكي الروسي وتحديات الأمن الأوروبي

قلق متنامٍ في الأوساط الأوروبية عقب إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بدء التفاوض مع روسيا، عدو المعسكر الغربي الرئيس، من أجل إنهاء الحرب على أوكرانيا، دون الالتفات إلى رأي القادة الأوروبيين والرئيس الأوكراني حول الأمر، وهو ما جعل الطرفين يواجهان معًا تحديات دبلوماسية وعسكرية، وسط مخاوف من أن يُضحى بمصالح أوكرانيا، ويُعرّض الأمن الأوروبي لخطر حقيقي محتمل من شأنه أن يحمل في طياته تنازلات وأعباء جديدة مكلفة.

مع دخول الحرب الأوكرانية عامها الرابع بدعم كبير من الولايات المتحدة، حاذى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مصالح الولايات المتحدة مع مصالح الكرملين، وأنهى عزلة موسكو متحدثًا لأول مرة هاتفيًا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومعلنًا عن بدء المفاوضات لإنهاء الحرب التي باتت عبئًا على الجميع، مع استبعاد أوكرانيا وأوروبا من العملية التفاوضية الأولية التي أقيمت في الرياض بحضور وفدين من واشنطن وموسكو، بقيادة وزراء خارجيتهما.

وإلى جانب المفاوضات، تغيرت نبرة واشنطن تمامًا في تناول الأزمة الأوكرانية، فقد أطلق “ترامب انتقادات لاذعة ضد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ووصفه بـ “الديكتاتور بلا شرعية” عبر منصته الإعلامية “Truth Social”، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة خُدعت بإنفاق مليارات الدولارات لمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها بعد غزو روسيا عام 2022، منحازًا بالكامل للراوية الروسية عبر إلقاء اللوم على أوكرانيا في بدء الحرب. 

وقد ادعى ترامب أن الولايات المتحدة صرفت نحو 350 مليار دولار على حرب أوكرانيا، وهو عكس تمامًا ما نشره مكتب المفتش العام الخاص لعملية “العزم الأطلسي” التابع للحكومة الأمريكية الذي يراقب الإنفاق على حرب أوكرانيا، حيث ذكر أنه اعتبارًا من 30 سبتمبر 2024 بلغ إجمالي الإنفاق الأمريكي حوالي 183 مليار دولار، بما يتضمن الأرقام التي خُصصت ولم تصرفها الحكومة الفيدرالية بعد، وهو رقم أقل بكثير من ادعاءات الرئيس الأمريكي، حتى مع إضافة حزم المساعدات الأخيرة التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن قبل رحيله.

علاوة على ذلك، تحرك “ترامب” وإدارته في اتجاه استعادة الأموال المنفقة على الحرب، ويمكن رؤية ذلك عبر الاقتراح الذي قدمه وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت في كييف، والذي يتضمن منح الولايات المتحدة حصة من معادنها الحيوية النادرة (تصل إلى 50%) بما في ذلك الجرافيت والليثيوم واليورانيوم، بجانب السيطرة على البنية الأساسية اللازمة لتصديرها، وذلك في مقابل ضمانات دفاعية مستقبلية، وهو ما رفضته كييف بشكل قاطع.

ويبدو أن حملة الضغط التي يشنها “ترامب” لدعم الحل الدبلوماسي للحرب الروسية الأوكرانية لا تستهدف موسكو، بل كييف في المقام الأول، كانعكاس طبيعي لـ “فن الصفقة” الذي ينتهجه “ترامب” من أجل المصالح. وقد لاقت تحركات “ترامب” استياءً واسعًا في الداخل الأمريكي، حيث تم وصفها باختصار بأنها “استسلام استباقي”، وتقديم تنازلات استراتيجية لبوتين مقابل “لا شيء”، كما تعكس أهداف الكرملين نفسها المتعلقة باستبعاد انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي بشكل قاطع، وطرح فكرة تخفيف العقوبات الأمريكية على روسيا، والتلميح إلى أنه من غير الواقعي أن تستعيد أوكرانيا كل أراضيها، والدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة في أوكرانيا، وهي دعوة كانت موسكو تدفع بها منذ فترة طويلة في محاولة للتشكيك في شرعية “زيلينسكي” كجزء من أي اتفاق سلام محتمل.

أثارت تحركات “ترامب” الأخيرة في بروكسل غضبًا واسعًا، وبات هناك يقين أوروبي بأن الولايات المتحدة وأوروبا لم تعدا تتقاسمان القيم التي دعمت التحالف عبر الأطلسي، ولم يعد بوسع القارة الأوروبية الاعتماد على واشنطن من أجل الدفاع عنها، هذا بجانب التأكد من أن هناك خطة أمريكية بالفعل لا تتضمن مكانًا على الطاولة لأوروبا وأوكرانيا.

وانهالت التصريحات الرافضة للتغيرات الأمريكية، وذلك بالتأكيد على الرفض التام لأي استسلام أوكراني محتمل لروسيا، أو أي اتفاق سلام يقتضي التنازل عن الأراضي الأوكرانية، والتشديد على أهمية مشاركة كييف في المحادثات، ورفض تفاوض الولايات المتحدة وروسيا على حساب زعماء أوروبا، والإصرار على أن المخاوف الأمنية الأوروبية يجب أن تؤخذ في عين الاعتبارات الأمريكية.

وعكف الزعماء الغربيون منذ ذلك الحين على بناء إطار دبلوماسي جديد للتعامل مع تحالفات البيت الأبيض وموسكو. وفي 19 فبراير 2025، عقد الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” اجتماعًا طارئا ثانيًا في باريس ضم الزعماء الأوروبيين من المملكة المتحدة وبولندا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا والدنمارك وكندا والنرويج وأيسلندا بالإضافة إلى رؤساء حلف شمال الأطلسي والمفوضية الأوروبية ومجلس الاتحاد الأوروبي–عدا المجر وسلوفاكيا المتحالفتان مع موسكو، وبدون تركيا وتشيك ورومانيا التي تتشارك الحدود مع أوكرانيا-، وهذا يشكل انحرافًا عن صيغة المحادثات المعتادة للاتحاد الأوروبي، والتي تميل إلى الانعقاد مركزيًا في بروكسل.

ويأتي هذا الاجتماع في أعقاب “مؤتمر ميونيخ للأمن” الذي تضمن انتقادات لاذعة من نائب الرئيس الأمريكي “جيه دي فانس” للدول الأوروبية بالانحراف عن “القيم الديمقراطية” بسبب معارضتها للأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة، بجانب تصريحات وزير الدفاع الأمريكي “بيت هيجسيث قبل ذلك بالإعلان عن الرفض الأمريكي لعضوية أوكرانيا في الناتو، وأن كييف لابد أن تقبل خسارة الأراضي التي تحتلها روسيا، وألا تتوقع وجود قوة حفظ سلام مدعومة من حلف شمال الأطلسي أو بمشاركة القوات الأمريكية، لردع روسيا من غزو أوكرانيا مجددًا، هذا بجانب الإعلان عن ضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي من قبل الدول الأعضاء لنسبة الـ 5% من الناتج المحلي، ليؤكد ضمنيًا أن واشنطن لم تعد تشكل ضمانة لأمن أوروبا، وأن الوقت قد حان لأن تتولى أوروبا زمام المبادرة للدفاع عن أوكرانيا.

وبتحليل القمة الطارئة الأخيرة في باريس التي انتهت دون إصدار بيان مشترك، نظرًا للانقسامات العميقة بين القادة الأوروبيين حول عدة ملفات أبرزها جهود حفظ السلام في أوكرانيا، وزيادة الإنفاق والاستثمارات العسكرية، فضلًا عن الحفاظ على الوحدة السياسية والروابط القوية عبر الأطلسي، نجد أن القمة قد أثبتت أنه بالرغم من علم الزعماء الأوروبيين بنوايا ترامب قبل قدومه واعتزامه تغيير السياسات الخارجية الأمريكية، إلا أنهم أهملوا وضع خطط بديلة مستقلة قابلة للتطبيق على أرض الواقع.

كما أثبتت القمة أن الدول الأوروبية تسعى إلى تكوينات جديدة، خاصة وأن بعض العواصم الأوروبية لديها إما علاقات قوية مع موسكو أو مصالح استراتيجية مع واشنطن، وكانت ترفض من البداية أن تنضم للموقف الأوروبي الموحد بشأن روسيا، وهو ما يعكس فشل بروكسل في استيعاب الخلافات الداخلية. 

ويبدو أن خطة “ماكرون التي دعا إليها منذ أشهر ولاقت هجومًا واسعًا في بروكسل، قد أُعيدت إلى السطح من جديد، فقد كانت تتمحور حول الانفصال التام عن واشنطن، وتشكيل قوة عازلة لوقف إطلاق النار في أوكرانيا، وإرسال قوات حفظ سلام أوروبية تتراوح بين 25- 30 ألف جندي أوروبي على الأرض في أوكرانيا، بعيدًا عن خط المواجهة في مواقع البنية التحتية الرئيسية مثل محطات الطاقة النووية، بدعم من القوة الجوية والبحرية الغربية. هذا بجانب التفكير في الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي (عسكريًا وأمنيًا) عن الولايات المتحدة. وكانت هذه الخطة محط انتقاد بسبب اعتقاد عدد كبير من القادة الأوروبيين استحالة دفاع القارة الأوروبية عن نفسها بدون الدعم الأمريكي، خاصة وأن الأمر سيتطلب إعطاء الأولوية للأمن الأوروبي على القضايا الاجتماعية في الداخل.

ولكن هذه المرة، أعرب كير ستارمر، رئيس الوزراء البريطاني، عن وقوفه بجانب الرئيس الفرنسي، ومن خلال تصريحاته خلال القمة، نجد أنه يسلك مسارًا يحاول من خلاله سد الفجوة بين الولايات المتحدة وأوروبا، فقد أحيا فكرة نشر قوات بريطانية إذا لزم الأمر بمجرد التوصل إلى اتفاق سلام، مضيفًا أن ذلك لن يتم بدون الدعم الأمريكي، وهو ما رفضه المستشار الألماني أولاف شولتز ورأى أنه اقتراح غير مناسب من حيث التوقيت، رافضًا الانفصال التام عن حلف شمال الأطلسي، ولكن مع اقتراب نهاية “شولتز” السياسية في الانتخابات الألمانية القادمة، وفقًا لاستطلاعات الرأي، فإن الموقف الألماني لا يمكن الجزم به.

كما أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في خطاب لها أنها ستقترح “بندًا للهروب من الاستثمارات الدفاعية” يسمح للدول بتمويل الدفاع دون انتهاك القواعد المالية الصارمة للاتحاد الأوروبي، والتي تهدف إلى إبقاء عجز الموازنة أقل من 3٪ من حجم اقتصاد كل دولة. ويناقش الأوروبيون أيضًا الإنفاق المشترك على الدفاع، بما في ذلك كيفية تمويله، والذي قد يتضمن إصدار ديون مشتركة، وهذا الأمر نقطة خلاف كبيرة بين الدول الأوروبية كألمانيا وهولندا، بجانب الحديث عن كيفية تكثيف تطوير الصناعات الدفاعية الأوروبية، وتخفيف الاعتماد على الأسلحة الأمريكية.

على صعيد آخر، انتقدت “جورجيا ميلوني”، رئيسة الوزراء الإيطالية الأقرب “لترامب”، الخطة كما انتقدت انعقاد الاجتماع بباريس وليس بروكسل، مركز صنع القرار الطبيعي في الاتحاد الأوروبي، بجانب استبعاد دول المواجهة مثل دول البلطيق والسويد وفنلندا، مما يفتح الباب أمام شخصيات كرئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، ورئيس الوزراء السلوفاكي، روبرت فيكو، فرصة لدفع سرديات المصالح المتضاربة والانقسامات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

بالنسبة للأوروبيين، هناك فكرة مفادها أنه إذا تم بالفعل تنفيذ وقف إطلاق النار، فيجب الاستمرار في دعم أوكرانيا، مع تقديم ضمانات أمنية تحول دون أي اعتداء روسي على أوكرانيا في المستقبل. ومع طرح عدد كبير من المقترحات في قمة باريس، كزيادة الإنفاق الدفاعي وإرسال قوات أوروبية لحفظ السلام على الأراضي الأوكرانية، إلا أن هذه الخطط تضع بالفعل زعماء أوروبا في موقف صعب، لأنهم لا يستطيعون الاتفاق حول كيفية تنفيذ أي من هذه الخطط، خاصة إذا اضطروا إلى تحدي الولايات المتحدة المنسحبة من المشهد للقيام بذلك، الأمر الذي سيؤدي إلى الاستبعاد الحقيقي لأوروبا من أي مفاوضات مستقبلية. وبالنظر إلى أبر التحديات نجد أن أوروبا أمام: 

التكلفة: فأوروبا قد تحتاج إلى إنفاق نحو 250 مليار يورو سنويًا على الاستثمارات الدفاعية لتأمين نفسها دون دعم واشنطن، وفقا لدراسة أجراها “معهد بروجيل للأبحاث ومعهد كيل للاقتصاد العالمي”، وهذه الزيادات الجذرية سوف تتطلب مزيجًا من زيادة الضرائب وتخفيضات كبيرة في ميزانيات الرعاية الاجتماعية والصحة والبنية التحتية، في وقت تتعرض فيه هذه الميزانيات بالفعل لضغوط شديدة بسبب الركود الاقتصادي، وهذا لا شك سينعكس في الداخل عبر الرفض الشعبي الحاد. ولكن أوروبا في هذا الصدد قد تعمل على تحرك أحادي الجانب يقتضي استخدام 220 مليار دولار من الأموال الروسية المجمدة في البنوك الأوروبية، أو من خلال الديون الأوروبية المشتركة، وهي نقطة خلاف بين عدد كبير من الدول.

عدم الاستقرار السياسي: بالإضافة إلى غياب الوحدة السياسية الكاملة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، وخاصة في العواصم الأوروبية الكبرى كباريس وبرلين، واحتمالية أن تقوض برلمانات تلك الدول هذه الأفكار، أو رفض بريطانيا مثلًا أن تتعرض لسياسات الإملاءات الأوروبية من جديد عقب خروجها من الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن أن هناك دولًا ترفض بالفعل الفكرة كألمانيا وبولندا، التي تنفق 4.7% على الدفاع أكثر من باقي الأعضاء، معلنة أن دعمها سيقتصر على تقديم ضمانات مادية فقط، وأن لا بديل عن واشنطن من أجل أمن القارة.

عدم جاهزية الجيوش الأوروبية: وذلك من أجل قيادة تلك المهمة غير محدودة الأجل في أوكرانيا، فقد أهملت العديد من البلدان في أوروبا دفاعاتها وصناعاتها الدفاعية لفترة طويلة، هذا بجانب عدم القدرة على تحديد مستوى ونوع المساعدات العسكرية ومستوى التهديدات في هذه المرحلة، وهذا من شأنه أن يضعف بشكل جذري مصداقية الضمانات الأمنية التي تريد أوروبا تقديمها.

ديناميكية المحادثات بين الولايات المتحدة وروسيا: فموسكو ترفض أن يتواجد عدد من القوات الأوروبية على حدودها، حتى لو عملت تحت أعلام الاتحاد الأوروبي أو أعلام دول أخرى وليس الناتو، وستعمل في جميع الاتجاهات من أجل تقويض الأمر، وبالتأكيد سيكون الأمر في غاية الصعوبة بدون الدعم اللوجستي من الولايات المتحدة التي يبدو أنها ستنحاز للرغبة الروسية، بالرغم من أن وجود واشنطن في المعادلة الأوروبية يجعل مثل هذا الاقتراح “مقبولًا” سياسيا في العواصم الأوروبية.

الغدر الروسي: بافتراض موافقة موسكو على نشر قوات أوروبية في أوكرانيا، فمن غير الواضح كيف سيكون رد حلف شمال الأطلسي حال تعرض الجنود أو المعدات الجوية المعنية بالمراقبة لهجوم من قبل روسيا، وما إذا كان سيتم تفعيل المادة الخامسة التي تشكل جوهر حلف شمال الأطلسي.

مجمل القول، لقد خرجت قمة باريس برسالة مفادها أن الدول الأوروبية قادرة على التكاتف وإدراك صعوبة الموقف الذي وضعتها فيه سياسات ترامب غير المتوقعة، ولكنها مع ذلك، لم تتمكن من التوصل إلى أي نتيجة تؤدي إلى تولي مسؤولية أمنها وأمن أوكرانيا بنفسها، وبات الأمر مجرد رد فعل “غير موحد” على النتائج الأمريكية-الروسية التي لم تلعب أوروبا دورًا في تحديدها. ويبدو أن أوروبا سيتعين عليها إما ترجمة خططها إلى واقع الحكم الذاتي الاستراتيجي المستقل، أو قبول حقيقة أن السلام الدائم في أوروبا دون الوقوع في تبعية سياسية لإرادة واشنطن وموسكو هو أمر مستحيل.

Website |  + posts

باحثة بالمرصد المصري

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى