إيران

الشد والجذب: هل تتوصل طهران وواشنطن إلى اتفاق نووي؟

على النقيض مما يتبادر إلى الذهن أو يتصوره البعض، لا يريد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية في إيران. فعلى الرغم من أن الرجل يتخذ موقفًا حاسمًا إزاءها، لم يعبر يومًا عن رغبته في إسقاط النظام هناك، بل إن جل ما يهتم به الرئيس الجمهوري هو ملف طهران النووي ومشروعيها الإقليمي والصاروخي، ولا يعنيه بعد ذلك أي شيء آخر.

وتتأثر رؤى “ترامب” وسياساته إزاء إيران بالحليف الإقليمي للولايات المتحدة إسرائيل التي كثيرًا ما تدفع “ترامب” إلى المزيد من التشدد تجاه إيران. لذا، يمكن القول إن لم يكن لإيران برنامج نووي ومشروع إقليمي يهددان أمن إسرائيل ومصالح واشنطن لربما أصبح نظام الجمهورية الإسلامية في طهران من أهم أصدقاء “ترامب” كرجل أعمال ورئيس للولايات المتحدة، ولتوقعنا أيضًا أن يضخ “ترامب” استثمارات ضخمة في الأسواق الإيرانية.

يركز الرئيس دونالد ترامب في تعامله مع الملف الإيراني على أنشطة طهران النووية؛ إذ يرفض بشدة امتلاك إيران لسلاح نووي سيغير من طبيعة النظام الدولي ويهدد أمن إسرائيل، ويتخذ موقفًا هو الأشد حزمًا من بين مختلف القضايا الإيرانية الأخرى. وفي الوقت ذاته، يريد الرئيس الأمريكي أن يتوصل إلى اتفاق سياسي مع إيران من أجل كبح جماح طموحاتها النووية، ولا يفضل الخيار العسكري في اللجوء إلى ذلك. وقد عبّر ترامب عن هذا الترجيح في أكثر من تصريح علني له كان أحدثه ما أدلى به في 11 فبراير 2025 حينما قال إنه “يفضل التوصل لاتفاق نووي مع إيران بدلًا من شن هجوم عسكري ضدها”.

يكشف هذا عن نوايا “ترامب” وسياساته تجاه إيران من حيث وضعه خيارين أمامها للتعامل مع ملفها النووي، والصاروخي أيضًا، وهو إما اللجوء أولًا وقبل كل شيء إلى الخيار الدبلوماسي عبر التوصل لاتفاق نووي من جديد أو الارتكان إلى الخيار العسكري عبر شن هجمات عسكرية واسعة النطاق ضد مواقع إيران النووية. وفي ضوء ما سبق، نتطرق فيما يلي إلى مستقبل تعامل إدارة ترامب الثانية مع ملف إيران النووي وحدود انخراط الأخيرة في مفاوضات تقود للتوصل إلى اتفاق نووي.

كما سبقت الإشارة، بادر الرئيس الأمريكي بمد يد الدبلوماسية للجمهورية الإسلامية من أجل الجلوس سويًا بغية التوصل لاتفاق نووي مع إيران يقيد أنشطتها النووية ويمنع توصلها إلى سلاح نووي في المدى المتوسط على الأقل؛ وذلك بدلًا من لجوء إدارته –بالتعاون مع إسرائيل– إلى الخيار العسكري الذي يشمل شن هجمات عسكرية منسقة على منشآت إيران النووية تضمن إما تدميرًا جزئيًا أو كليًا للبرنامج النووي الإيراني، ما يعني توقفه إما كليًا أو بشكل مؤقت يمنع تطوير قنبلة نووية لسنوات قادمة.

ولكن مع ذلك، يريد ترامب ألا يكون الاتفاق مع إيران نوويًا بنسبة 100%؛ حيث يرغب الرئيس الأمريكي ومنذ ولايته الأولى (2017 – 2021) في إدراج قيود على التصنيع الصاروخي، خاصة الباليستي، داخل إيران في أي اتفاق نووي مقبل، وهو أمر شكل أزمة كبرى كانت إحدى مسببات عدم التوصل لاتفاق جديد بين الطرفين خلال الولاية الأولى. وكان ترامب يرغب أيضًا خلال الولاية الماضية في إضافة بنود في الاتفاق النووي تتعلق بنشاط إيران الإقليمي، إلا أن المشهد الإقليمي الحالي المتعلق بحالة وكلاء إيران المسلحين في المنطقة وتراجع قدراتهم العسكرية بشدة بعد الضربات والمواجهات مع إسرائيل خلال العام الماضي قد لا يجعل من هذا الملف عائقًا كبيرًا هذه المرة.

وعلى ذلك، يمكن القول إن “ترامب” يريد اتفاقًا مع إيران بشروط أمريكية وتنازلات إيرانية. وفي سبيل ذلك، سوف يواصل “ترامب” سياسة الضغط القصوى على إيران خلال الفترة المقبلة؛ من أجل إجبارها على القبول بتلك الشروط في الاتفاق النووي المقبل. ولكن، لا يُتوقع أن يكرر الرئيس الأمريكي نفس سياسات ولايته الأولى إزاء ملف إيران النووي؛ ما يعني أنه لن يستمر في فرض العقوبات من جانب وتستمر طهران في إحراز تقدم واضح في مشروعها النووي من جانب أخر، وهو ما قد دفعه إلى التلويح مبكرًا بالخيار العسكري الذي قد يلجًا إليه بشكل مباشر ومن دون تأخير كبير إذا ما فشلت المفاوضات مع إيران خلال الأشهر المقبلة وقبل رحيله الأخير عن البيت الأبيض في يناير 2029.

على الجانب الآخر، نجد أنه على الرغم من تصريحات المرشد الإيراني، علي خامنئي، الأخيرة بشأن المفاوضات المحتملة مع واشنطن، والتي رفض خلالها إجراء محادثات قال إنها لن تكون مفيدة وأشاد أيضًا في الوقت نفسه بتصريحات مماثلة من جانب الرئيس مسعود بزشكيان هاجم فيها الرئيس الأمريكي ترامب وقال إن “ترامب يقول تعالوا لنتحدث لكنه يوقع على كل المؤامرات الممكنة ضد إيران” مضيفًا أنه “يجب على أمريكا أن ترى حلمها في إسقاط إيران وهو لا يتحقق رغم كل مؤامراتها”، إلا أن طهران تتقبل الانخراط في مفاوضات تقود للتوصل لاتفاق مع الغرب بشأن أنشطتها النووية؛ إذ إن تلك التصريحات الصادرة عن المرشد قد جاءت بالأساس بعد فرض إدارة ترامب أول حزمة عقوبات لها على صناعة النفط الإيرانية والتي استهدفت مبيعاتها إلى أبرز المشترين منها وهي الصين، كما أنه يمكن قراءتها على أنها مناورة من إيران لرفض أية ضغوط أمريكية محتملة قادمة في المفاوضات.

إن النظام والحكومة في إيران لا يرفضان الدخول في مفاوضات مع الغرب للتوصل إلى اتفاق نووي، بل إن “خامنئي” كان قد صرّح خلال الأشهر الماضية بقبوله انخراط طهران في مفاوضات مع الغرب، وهي توجهات أكدتها أيضًا وبشكل واضح لا لبس فيه تصريحات الرئيس الإصلاحي، مسعود بزشكيان، ووزير خارجيته عباس عراقجي.

  • الوضع الاقتصادي المتدهور في إيران:

    يأتي الوضع الاقتصادي المتدهور في إيران كأبرز دافع للنظام الإيراني من أجل الانخراط في مفاوضات نووية مع الغرب بغية التوصل إلى اتفاق؛ إذ، تخشى طهران من تداعيات استمرار الوضع الاقتصادي الراهن على استقرار الداخل، خاصة مع توقعات حدوث مزيد من الأزمات الاقتصادية خلال الفترة المقبلة بسبب سياسة “الضغوط القصوى” التي ينتهجها وأعلن عنها “ترامب” إذا لم تنخرط إيران في المفاوضات.

    فقد تراجعت العملة الإيرانية (الريال) خلال فبراير 2025 إلى مستوى تاريخي غير مسبوق وصلت معه إلى ما يزيد على 920 ألف ريال مقابل كل دولار أمريكي، مع توقعات بوصولها إلى حد المليون ريال قريبًا. وفي الوقت نفسه، يتراوح معدل التضخم ما بين (35% – 50%)، مع مستوى بطالة يزيد أيضًا عن 10% حسب الإحصاءات الحكومية، وعن 45% حسب تقديرات جهات خارجية معنية.

    لذا، فإن قرار إيران بالمشاركة في المفاوضات سوف يأخذ بعين الاعتبار هذه العوامل الاقتصادية بالدرجة الأولى وتداعياتها مستقبلًا على استقرار البلاد سياسيًا. حيث تواجه الحكومة الإيرانية داخليًا استياء فئات من المواطنين إزاء سياسات بعينها من بينها تعطيل الوصول إلى الأنترنت و”الحجاب الإجباري” وعدم تلقي قطاعات من العمال روابتهم بانتظام، ما يدفع مثل هذه الفئات لتنظيم احتجاجات شبه يومية في إيران.  يعني هذا أن المزيد من الضغوط الاقتصادية الخارجية على إيران قد تتسبب في المزيد من الغضب الداخلي في البلاد، ما قد يؤثر مباشرة على استقرار النظام.

    • تجنب هجوم عسكري واسع ضد البلاد:

    أكد الرئيس الأمريكي “ترامب”، حتى قبل إعلان نجاحه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، على وضعه خيار اللجوء إلى العمل العسكري ضد منشآت إيران النووية على الطاولة إلى جانب الخيار الدبلوماسي. ولقد دعا “ترامب” في هذا الصدد إسرائيل في أكتوبر الماضي إلى مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية “أولًا وقبل كل شيء” حسب تعبيره، وذلك حين استعداد إسرائيل لتوجيه هجمات ضد إيران ردًا على هجمات مماثلة نفّذتها الأولى في الشهر نفسه.

    يعني هذا أن طهران متيقنة من أن “ترامب” جاد في طرحه للخيار العسكري للتعامل مع البرنامج النووي، ما يرجح أن يقودها بالتالي للدخول في المفاوضات من أجل تجنب هذه الهجمات التي ستكون واسعة النطاق ضد منشآت إيران النووية وبمشاركة إسرائيل وربما دول أوروبية.

    • حالة الضعف الإقليمية التي يعانيها الوكلاء:

    تعاني إيران في الوقت الراهن من حالة ضعف عسكري كبيرة على مستوى الإقليم لم يشهد النظام في طهران له مثيلًا منذ عقود. فقد تراجعت القدرات العسكرية لأغلب الوكلاء الإيرانيين المسلحين في إقليم الشرق الأوسط؛ إثر تعرضهم لضربات إسرائيلية قاسية خلال العام الماضي 2024. وكان أبرز هؤلاء “حزب الله” اللبناني والجماعات الإيرانية المسلحة في سوريا التي انقضت تمامًا بعد انهيار نظام الرئيس السوري السابق، بشار الأسد، بالأساس والذي كان من أهم حلفاء طهران الإقليميين.

    وعليه، يُضعف ذلك من إمكانية المناورة الإيرانية سياسيًا من خلال التلويح غير المباشر بتوظيف هؤلاء الوكلاء ضد إسرائيل أو المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة حال قررت طهران عدم المشاركة في المفاوضات النووية، أو أرادت فرض أو رفض بنود بعينها في أي اتفاق نووي، ما يدفعها بشكل كبير باتجاه القبول بالتوصل لاتفاق نووي مع الغرب ولو بشكل مؤقت لحين انقضاء الولاية الثانية والأخيرة لترامب.

    • تضرر القدرات الصاروخية الإيرانية مع الضربات الإسرائيلية المباشرة:

    يُعد تضرر القدرات الصاروخية الإيرانية وتراجع فعاليتها على التأثير العميق في الوقت الراهن من بين العوامل التي قد تدفع إيران للقبول بالانخراط في المفاوضات النووية خلال الفترة المقبلة. فقد أَضْعَفت الضربات العسكرية الإسرائيلية المباشرة التي جرت العام الماضي خلال شهري أبريل وأكتوبر قدرةَ طهران على إنتاج الصواريخ كما كان عليه الأمر في السابق، كما أُضْعِفَت القدراتُ الدفاعية الإيرانية حول العاصمة طهران وحول البنى التحتية للمواقع النووية خلال تلك الضربات.

    فلم يعد بمقدور الحرس الثوري إنتاج عدد كبير من الصواريخ، خاصة التي تعمل بالوقود الصلب، في مدة زمنية قصيرة، وطبقًا للتقارير الإسرائيلية والغربية، فإن إيران بحاجة إلى عام كامل لاستعادة الصناعة الصاروخية كامل طاقتها مثلما كانت عليه قبل ضربات أكتوبر 2024.

    ويلعب هذا المتغيرُ دورًا كبيرًا في إضعاف القدرات العسكرية الإيرانية على الرد أو التأثير إقليميًا بشكل كبير والتهديد باستخدام تلك الصواريخ ضد أهداف إسرائيلية أو ضد المصالح الأمريكية. ولعل دعوة المرشد الإيراني خامنئي يوم 12 فبراير 2025 إلى تعزيز الصناعة الصاروخية لهو دليل على الحاجة إلى ذلك وتضررها في تلك الهجمات المذكورة. ويعني هذا بالتالي –إلى جانب العوامل سالفة الذكر– أن إيران قد تركن إلى الخيار الدبلوماسي في ملفها النووي بدلًا من الانجرار وراء الصراعات العسكرية.

    على الرغم من التوترات الإيرانية الأمريكية الحالية بشأن أنشطة طهران النووية، والتي تتضمن مؤخرًا تصريحات المرشد علي خامنئي التي رفض خلالها الدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة، إلا أنه يُتوقع أن يدفع العديد من العوامل طهران وواشنطن إلى التوصل إلى اتفاق حول برنامج إيران النووي.

    فأمريكيًا، يؤيد ترامب –حتى الآن– ويبادر بتوظيف الدبلوماسية أولًا مع إيران للتوصل إلى اتفاق نووي يحول دون امتلاكها سلاحًا نوويًا ولا يمانع من الجلوس مع مفاوضيها لهذا الغرض. وإيرانيًا، تكشف الحقائق القائمة داخل إيران عن أزمات من المتوقع بشدة أن تدفع (أو تجبر) الجمهورية الإسلامية للجلوس على طاولة المفاوضات مع الدبلوماسيين الأمريكيين. وعليه، يحاول الطرفان الإيراني والأمريكي حاليًا المناورة سياسيًا بشكل غير مباشر لاكتساب أوراق ضغط في المفاوضات المحتملة القادمة، وذلك عبر عقوبات واشنطن وتصريحات إيران التي لا تُعد سوى مناورات للضغط على الطرف الأخر كي يقبل بالشروط التي يريدها هو حين الجلوس على طاولة المفاوضات في المستقبل.

    المصادر

    • “ترامپ: ایران نگران و مایل است به جای حمله به توافق برسیم”، دویچه وله، 11 فبراير 2025.

    https://2u.pw/VeJv1he1

    • “پزشکیان خطاب به ترامپ: اگر اهل مذاکره هستی چرا این غلط‌ها را می‌کنی”، بى بى سى فارسى، 10 فبراير 2025.

    https://2u.pw/rbbBpBye

    • “چالش‌های ۱۳ گانه اقتصاد ایران، رشد پایین و تورم بالا”، خبرگزاری دانشجویان ایران “ایسنا”، 27 أغسطس 2024.

    https://2u.pw/jeaiNBy7

    + posts

    باحث بالمرصد المصري

    علي عاطف

    باحث بالمرصد المصري

    مقالات ذات صلة

    زر الذهاب إلى الأعلى