الأمريكتان

ما بين الطموح والممكن … “القبة الحديدية” وتحولات الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية

من ضمن سلسلة أوامر تنفيذية متتالية أصدرها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال الأسابيع الأولى لولايته الرئاسية، برز أمر تنفيذي “يحمل بعض ملامح الماضي”، صدر بعنوان “القبة الحديدية لأمريكا”، وينص في جوهره على إمهال وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيجسيث، 60 يومًا لوضع خطة تكفل تأمين الأراضي الأمريكية ضد كافة المخاطر الجوية من الجيل الجديد، خاصة الصواريخ الباليستية والصواريخ فرط صوتية والصواريخ الجوالة المتقدمة. وعلى الرغم من وجاهة و”منطقية” سعي الرئيس الأمريكي لتأمين أراضي بلاده من هذه التهديدات، إلا أن استخدام مصطلح “القبة الحديدية” أثار شكوكًا عدة في جدية هذا الطرح، خاصة وأن تفعيل هذا المشروع وتنفيذه ينطوي على تحديات عدة، سواء على المستوى المادي واللوجستي، أو المستوى الاستراتيجي والعملياتي.

تتضمن الأمر التنفيذي الخاص بهذا المشروع الجديد عدة بنود أساسية، منها تسريع نشر طبقة مستشعرات فضائية قادرة على تتبع الصواريخ الباليستية والفرط صوتية، وتطوير ونشر صواريخ اعتراضية فضائية منتشرة قادرة على اعتراض الصواريخ المعادية خلال مرحلة تعزيز مسارها، ونشر قدرات اعتراض صاروخية تستطيع اعتراض الصواريخ المعادية خلال مرحلة اقترابها النهائية من الهدف، وتطوير ونشر قدرات متنوعة لمواجهة الصواريخ الجوالة من الجيل الجديد.

من حيث الشكل، يبدو مشروع “القبة الحديدية الأمريكية” تطبيقًا “مموّهًا” لأحد أهم المفاهيم التي طرأت على تكتيكات حماية الأجواء من التهديدات الجوية، ونَبَعَت من رحم التطور المتسارع في التقنيات الصاروخية والجوية، ألا وهو “الدفاع الجوي متعدد الطبقات”، إلا أنه في جوهره قد يمثل إما “طموحًا مبالغًا فيه” من جانب ترامب، ممزوجًا بإعجاب “غير موضوعي” بمنظومة القبة الحديدية الإسرائيلية، أو قد يمثل تعديلًا جذريًا في الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية خلال المدى المنظور.

استخدم الرئيس الأمريكي لتسمية مشروعه الجديد مصطلح “القبة الحديدية”، الذي دُوّر خلال السنوات الأخيرة، ليتحول من مسمى يطلق على منظومة دفاعية إسرائيلية متعددة الطبقات تستهدف التعامل مع المقذوفات والصواريخ القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى، إلى مصطلح بات يعد ضمن أهم المرادفات الدالة على “الدفاع ضد الصواريخ”. كان استخدام هذا المصطلح جديدًا من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، لكنه في جانب آخر يعتبر وجهًا من أوجه مفهوم “الدرع الصاروخي” الأمريكي، الذي يعود منشأه الأساسي إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تسببت الصواريخ الألمانية “V-1″ و”V-2” في رسم بداية مسار جديد على مستوى الردع الدولي، لعبت فيه الصواريخ العابرة للقارات، منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، دور البطولة في تحديد خطوط ونطاقات النفوذ بين القوى العظمى.

صعود التهديدات الصاروخية حول العالم دفع القوى الكبرى، على المستوى العسكري، للخوض في عدة مشاريع للدفاع الصاروخي، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي نفذت عدة مشاريع في هذا الصدد خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. كان للجانب الفضائي دور أساسي فيها، لكن لم يُكتب لأي منها التفعيل الميداني الكامل، منها:

● مشروع “Nike-Zeus” في خمسينيات القرن الماضي، وتضمن نشر صواريخ اعتراضية أرضية ضد الصواريخ السوفيتية الباليستية العابرة للقارات.

● مشروع “Defender” خلال ستينيات القرن الماضي، وتضمن تطوير أقمار صناعية تحلق بشكل مستدام فوق الاتحاد السوفيتي، وتمتلك القدرة على إطلاق صواريخ اعتراضية. كذلك تضمن عقد الستينيات برنامجًا أمريكيًا آخر بنفس الأهداف، وهو برنامج “Sentinel”، الذي كان يستهدف تكوين منظومة اعتراض صاروخية متكاملة، تستطيع اعتراض الصواريخ الباليستية بعيدة وقصيرة المدى. وقد تم تعديل اسم هذا البرنامج إلى “Safeguard” أواخر الستينيات، وتعديل أهدافه – بعد أن اتضح حجم التحدي التمويلي الكبير لمثل هذا النوع من المشروعات – لتقتصر فقط على توفير الحماية الجوية لصوامع الإطلاق الخاصة بالصواريخ الأمريكية العابرة للقارات.

خلال ثمانينيات القرن العشرين، ظهر مفهوم تدمير الصواريخ الباليستية العابرة للقارات قبل عودتها إلى الغلاف الجوي للأرض، عبر برنامج المركبات الحركية القاتلة (KKV). سعت وزارة الدفاع الأمريكية لتطوير مركبات اعتراضية مجهزة بجهاز بحث بالأشعة تحت الحمراء، يسمح لها برصد واعتراض الصواريخ الباليستية المعادية. أُجريت أول تجربة ضمن هذا البرنامج في يونيو 1984، حيث نجحت عملية اعتراض صاروخ أمريكي عابر للقارات من نوع “LGM-30 Minuteman” على ارتفاع 160 كيلومترًا.

هذا المفهوم القتالي الجديد، وجد اهتمامًا كبيرًا –اختلطت فيه الدوافع الاستراتيجية بالدوافع السياسية– من جانب الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريجان، حيث تولى ريجان منصب الرئاسة في البيت الأبيض، في مرحلة مهمة من مراحل الحرب الباردة، ووجد حينها أن الولايات المتحدة بحاجة إلى طريقة أفضل من “التدمير المتبادل المضمون” و”الردع النووي” للدفاع عن نفسها ضد أي هجوم نووي، لذا جعل من أولويات إدارته التوصل إلى طريقة فعالة لضمان أمن الأراضي الأمريكية ضد أي هجوم صاروخي سوفيتي. في عام 1981، وقع ريجان على “توجيهات قرارات الأمن الوطني” – أو ما يعرف بـ (NSDD)، والتي تضمنت بنودًا تنص على بدء تطوير نظام دفاعي للحماية من الصواريخ المعادية.

تم تعزيز هذه البنود في مارس 1983، عبر إعلان ريغان بشكل رسمي عن “مبادرة الدفاع الاستراتيجي” (SDI)، والتي عُرفت فيما بعد باسم برنامج “حرب النجوم”. وكان جوهر هذا البرنامج هو تطوير أنظمة متنوعة مضادة للصواريخ الباليستية، قادرة على العمل خارج الغلاف الجوي للأرض، ويشمل ذلك، بجانب الصواريخ الاعتراضية، تطوير أشعة ليزر قتالية، وأجهزة استشعار ورصد أرضية وفضائية. وقد شهد هذا البرنامج بعض الإنجازات التقنية، خاصة فيما يتعلق بأشعة الليزر.

أدت عوامل عدة، أهمها المعارضة التشريعية لهذا المشروع من الزاوية المالية ومن زاوية استراتيجية – ترتبط بالخشية من نشوء سباق تسلح موازٍ في هذا المضمار بين واشنطن وموسكو – إلى اضمحلال هذا المشروع تدريجيًا، بدايةً من خفض الميزانية المخصصة له، بعد أن وصل إجمالي المبالغ التي تم إنفاقها في هذا البرنامج إلى ما يناهز 30 مليار دولار، مرورًا بتعديل أهداف البرنامج ومسماه، ليصبح تحت اسم “Brilliant Pebbles”، ويستهدف نشر آلاف الأقمار الصناعية الصغيرة بصواريخ في مدار أرضي منخفض، بهدف اعتراض الصواريخ الباليستية العابرة للقارات السوفيتية قبل انفصال رؤوسها الحربية. 

ذلك وصولًا إلى طرح مقاربة مغايرة لهذا البرنامج في عهد إدارة جورج بوش الأب، جوهرها هو “الحماية العالمية ضد الصواريخ الباليستية المحدودة” – (GPALS)، وتعتمد على أجهزة استشعار سطحية وفضائية لتتبع الصواريخ الباليستية، ثم التوقف التام لمبادرة ريجان للدفاع الاستراتيجي أوائل عام 1993، خلال الأسابيع الأولى لإدارة بيل كلينتون، حيث تبنت هذه الإدارة توجهات مختلفة بشأن الدفاع الصاروخي، حولت من خلالها مبادرة ريجان إلى منظمة تدعى “منظمة الدفاع الصاروخي الباليستي” – (BMDO) – ركزت على الدفاع الصاروخي النقطي عن مواقع محددة وليس عن كامل الأراضي الأمريكية، وهو ما كان له تأثيرات سلبية على قدرات الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الاعتراض الصاروخي، واستمرت لسنوات، إلى أن قامت إدارة باراك أوباما في يونيو 2016 بطلب من مجلس النواب إلى وكالة تطوير الفضاء الأمريكية، التخطيط لـ “عمليات البحث والتطوير والتقييم الهندسي الخاصة بنظام الدفاع الصاروخي الباليستي الأمريكي”، وهو ما أطلق سلسلة من عمليات البحث والتطوير المستمرة حتى وقتنا هذا.

بالعودة إلى مبادرة الدفاع الاستراتيجي لإدارة ريغان، يمكن القول إنه على الرغم من عدم تمكن هذه المبادرة من إنتاج أو تطوير منظومات دفاعية أساسية أو ملموسة، لكن لا يمكن اعتبارها فاشلة بشكل كلي، نظرًا لأنها كانت -على المستوى الاستراتيجي– سببًا رئيسيًا في حلحلة العلاقة بين واشنطن وموسكو فيما يرتبط بالأسلحة الاستراتيجية، وحفزت موسكو على التجاوب مع واشنطن في هذا الصدد، عبر سلسلة من الاجتماعات التي جمعت بين الرئيس الأمريكي ريغان ونظيره السوفييتي غورباتشوف بين عامي 1985 و1988، خاصة قمة ريكيافيك في أيسلندا عام 1986. وهي نتيجة جاءت عكس ما كان متوقعًا من منتقدي هذه المبادرة، ومنهم، للمفارقة، السيناتور حينها والرئيس لاحقًا، جو بايدن، الذي اعتبر مبادرة ريغان “فكرة متهورة”، لكنه وجد نفسه بعد عقود من هذه المبادرة أمام موقف ميداني صعب بين إيران وإسرائيل، لعبت فيه الولايات المتحدة الأمريكية –بصعوبة– دورًا مساندًا لتل أبيب في عمليات التصدي للصواريخ الباليستية والجوالة القادمة من اليمن وإيران.

بالنظر للعرض السابق، يمكن القول إن ملف “الدفاع الصاروخي” كان ركنًا أساسيًا من أركان الاستراتيجيات الدفاعية التي اتبعتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ خمسينيات القرن الماضي، وإن كان هذا الملف قد شهد تراجعًا ملحوظًا خلال العقدين الماضيين، خاصة في عهد الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، الذي ركز على تأمين “الاستقرار الاستراتيجي”، ولم يُبادر إلى تطوير الرؤية التي وضع أسسها الرئيس الأمريكي الحالي خلال ولايته الأولى، حيث قام بتشكيل وكالة تطوير الفضاء (SDA) عام 2019، والتي بدأت في توسيع الجهود من أجل وضع مجموعات من الأقمار الصناعية لتمكين تتبع الصواريخ. في نفس العام – 2019 – أصدرت وزارة الدفاع الأمريكية مراجعتها للدفاع الصاروخي، وتضمنت هذه المراجعة إشارة واضحة إلى ضرورة التركيز على توفير قدرات اعتراض الصواريخ الجوالة التي يحتمل إطلاقها على الولايات المتحدة الأمريكية من دول قريبة، وهذا يعتبر من أهم محاور مشروع “القبة الحديدية” الخاص بالرئيس الأمريكي ترامب.

لذا يمكن القول إنه من ضمن سياقات هذا المشروع، رغبة ترامب وإدارته في تعديل الرؤية الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، على مستوى الدفاع الصاروخي، خاصة أن “بناء قبة حديدية دفاعية” كان من الوعود الانتخابية التي قطعها ترامب قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث تحدث عن هذا الموضوع ثلاث مرات على الأقل في مؤتمرات انتخابية عقدت خلال شهري يونيو وديسمبر الماضيين، وكذلك في لقاء انتخابي سابق بولاية أريزونا في أكتوبر 2023.

على المستوى التقني، يتضمن الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب بشأن “القبة الحديدية” أمرًا إلى وزارة الدفاع الأمريكية بالتوصل، خلال مدة أقصاها شهرين، إلى خطة تنفيذية تتضمن ثماني قدرات دفاعية متنوعة، بين الصواريخ الاعتراضية بأنواعها المختلفة ومنظومات الليزر، تمتلك قدرة على اعتراض الصواريخ الباليستية والصواريخ الجوالة المتقدمة والهجمات الجوية من الجيل التالي. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تعمل خطة تطوير هذه المنظومة المتكاملة على تسريع تطوير “طبقة الاستشعار الفضائي للتتبع الفائق السرعة للصواريخ الباليستية” للتعرف المبكر على الهجمات الجوية المعادية.

النقطة المرتبطة بالفضاء الخارجي في هذا المشروع تعتبر أساسية، وهي منبع التشابه الأساسي بين هذا المشروع ومشروع الرئيس الأسبق ريجان “حرب النجوم”؛ حيث يقتضي تنفيذه وضع آلاف الأقمار الصناعية العسكرية لأغراض مختلفة في مدارات حول الأرض، بحيث تتمكن من اكتشاف وتتبع الأهداف، فضلًا عن تدمير بعضها مباشرة من الفضاء. لكن من الفوارق الأساسية بين المشروعين أن مشروع ترامب لا يشمل فقط عمليات اعتراض الصواريخ المعادية أثناء تحليقها، بل أيضًا استهداف منصات الإطلاق ومراكز التخزين. وهذا يشير بشكل مباشر إلى أن هذا ليس مجرد برنامج للدفاع الصاروخي، بل نظام متكامل للدفاع الجوي الفضائي.

إذن، من هذا المنطلق، يمكن اعتبار الهدف التكتيكي الأساسي من تطوير هذا النوع من المشاريع الدفاعية هو ردع الهجمات الصاروخية بأنواعها المختلفة، عن كامل الأراضي الأمريكية، وليس فقط عن القدرات الاقتصادية والعسكرية. وهذا يتطلب تسريع تطوير شبكات الاستشعار الفضائية للصواريخ الأسرع من الصوت والباليستية الموجودة بالفعل في التسليح الأمريكي، لاستخدامها في مساعدة أسطول الصواريخ الاعتراضية المدارية الذي سيتم تطويره على استهداف وتدمير الصواريخ المعادية أثناء مرحلة التعزيز بعد الإطلاق، أو خلال مرحلة اقترابها النهائي من الأراضي الأمريكية. وهذا لن يشمل الصواريخ الاعتراضية والمدفعية المضادة للطائرات فحسب، بل أيضًا التدابير المضادة “غير الحركية”، مثل أنظمة التشويش والإعاقة، وأشعة الليزر بأنواعها المختلفة، وغيرها من أسلحة الطاقة الموجهة. وقد تدخل في هذه المعادلة أسلحة صاروخية وجوية هجومية، يمكن استخدامها لقصف منصات إطلاق الصواريخ المعادية في حالة تجهيزها.

هنا يظهر تساؤل مهم حول ما تملكه الولايات المتحدة الأمريكية بالفعل من قدرات دفاعية ضد الصواريخ، وما يمكن أن تعمل على تطويره في المستقبل القريب. وحقيقة الأمر أن جوهر مشروع “القبة الحديدية” الأمريكي يرتبط بتوسيع تقنيات الدفاع الصاروخي الحالية التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية، وعمادها الأساسي هو 44 صومعة لإطلاق الصواريخ الاعتراضية، تتوزع في موقعين أساسيين هما قاعدة “فورت جريلي” في ولاية ألاسكا، وقاعدة “فاندنبرج” الفضائية في ولاية كاليفورنيا. هذه الصواريخ مزودة بما يسمى المركبات الحركية القاتلة، والتي يمكنها التركيز على الصواريخ المهاجمة وتدميرها بقوة الطاقة الحركية. جدير بالذكر أن مشروع القانون الذي قُدّم للكونجرس بشأن “القبة الحديدية” تضمّن توسيع الدفاع الصاروخي الداخلي، بما في ذلك زيادة صوامع إطلاق الصواريخ المتمركزة في ألاسكا إلى 80 صومعة إطلاق، وإضافة مواقع لمنظومة “إيجيس” على الساحل الشرقي الأمريكي وفي ألاسكا، وتخصيص حوالي 4 مليارات دولار لتعزيز إنتاج أنظمة “باتريوت” و”ثاد”.

وقد بدأت وزارة الدفاع الأمريكية خلال السنوات الأخيرة في محاولة تدعيمها، وذلك عبر عدة مشاريع، منها ما هو قائم بالفعل ومنها ما تجري بحوثه حاليًا. وهي جميعها مشاريع يمكن، من حيث المبدأ، اعتبارها نواةً أساسية لمشروع “القبة الحديدية”، في حالة السير قدمًا في تنفيذ متطلباته. من أهم هذه المشاريع، منظومة الدفاع الجوي المتكامل لمنطقة العاصمة، المصممة لحماية مدينة واشنطن من التهديدات الجوية، وتضم عدة أنظمة دفاع جوي متقدمة، منها نظام الدفاع الجوي المتقدم النرويجي الصنع (NASAMS).

من أهم البرامج المضادة للصواريخ التي تنفذها وزارة الدفاع الأمريكية حاليًا، نظام الدفاع الجوي والصاروخي المتكامل المعزز (EIAMD)، الجاري تكوينه في جزيرة غوام بالمحيط الهادئ. ويتكون هذا النظام من سلسلة من أجهزة الرصد والإنذار المبكر ومنظومات الدفاع الجوي المختلفة، مُشكِّلةً ثلاث منظومات دفاع جوي أساسية، هي (إيجيس، وثاد، وباتريوت). وتستهدف وزارة الدفاع الأمريكية من تكوين هذا النظام توفير تغطية بزاوية 360 درجة، ودفاعًا متعدد الطبقات ضد التهديدات الباليستية الإقليمية، والصواريخ الباليستية، والصواريخ فرط صوتية والجوالة. وسوف يعتمد أيضًا على مدخلات من الأقمار الصناعية الأمريكية وأجهزة الاستشعار الفضائية، ما يجعل هذا النظام المتكامل أقرب إلى رؤية الرئيس الأمريكي ترامب للدفاع الصاروخي.

هذا النظام، الذي ما زالت عمليات تطويره واختباره جارية، شهد أواخر العام الماضي اختبارًا لفعاليته، حين أطلقت طائرة أمريكية من نوع “سي-17” هدفًا صاروخيًا باليستيًا متوسط المدى قبالة ساحل جزيرة جوام. وبعد تعقب الهدف بواسطة الأنظمة الرادارية، أُطلق صاروخ من منظومة الدفاع الجوي بعيدة المدى “ثاد”، اعترض الصاروخ المعادي بنجاح. علمًا أن هذا النظام المتكامل يعمل بنسق مشابه، في بعض جوانبه، لمنظومة “القبة الحديدية” الإسرائيلية. حيث تعترض منظومة “ثاد” الصواريخ الباليستية القادمة في مرحلتها النهائية أو مرحلة اقترابها من الهدف، بينما تقوم منظومة “إيجيس” باعتراض الصواريخ الباليستية في مرحلة منتصف مسارها، خارج الغلاف الجوي للأرض. أما منظومة “باتريوت”، فتعمل على اعتراض الصواريخ الباليستية خلال المرحلة الأخيرة من تحليقها نحو الهدف، والتي خلالها تقوم الصواريخ بخفض ارتفاع تحليقها.

بالإضافة إلى ذلك، تعمل وزارة الدفاع الأمريكية بالفعل على تطوير شبكات استشعار مدارية وأنظمة ذكاء اصطناعي، للكشف عن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، بل وأيضًا الصواريخ الجوالة والصواريخ الأسرع من الصوت، بالإضافة إلى تطوير أنظمة قيادة وسيطرة جديدة، مثل نظام القيادة القتالية المتكامل (IBCS)، وأجيالًا جديدة من رادارات الإنذار المبكر. هنا لابد من الإشارة إلى نقطة ترتبط بمسمى “القبة الحديدية”. فقد عملت وزارة الدفاع الأمريكية، منذ أغسطس 2021، بالتعاون مع منظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية (IMDO)، على الاستحواذ على بطاريتين من منظومة “القبة الحديدية” الإسرائيلية، وتحويلهما إلى منظومة ذاتية الحركة تحت اسم (IDDS-A)، بحيث تتخصص في الدفاع عن المواقع الثابتة وشبه الثابتة، ضد الصواريخ الجوالة والطائرات بدون طيار وقذائف المدفعية والهاون. ويُعتقد أن هذه المنظومة ستكون جزءًا أساسيًا من المنظومات الدفاعية المكونة لنظام “القبة الحديدية” الأمريكي، بجانب المنظومات الأخرى سالفة الذكر، والمنصات الدفاعية التكتيكية قصيرة المدى، مثل “أفينجر” و”ستينجر”.

يبدو من الضروري النظر إلى السياقات المختلفة التي يدور المشروع الدفاعي الأمريكي الجديد في فلكها، ولعل السياق “العسكري” من أهم هذه السياقات. فمقاربة الإدارة الأمريكية الجديدة لعدة ملفات عسكرية واستراتيجية أساسية تبدو في طور إعادة تقييم، سواء العلاقة مع الدائرة الإقليمية القريبة من الحدود الأمريكية (“المكسيك – كندا – جرينلاند”)، أو حتى حيال تفاصيل تتعلق بالمؤسسة العسكرية الأمريكية نفسها، مثل المراجعة الشاملة لبرامج التنوع في المؤسسة العسكرية، أو تقييد خدمة المتحولين جنسيًا في الجيش الأمريكي، أو حتى إعادة العسكريين المفصولين بسبب رفضهم لقاح كورونا. وبجانب ذلك، هناك الموجة “الجديدة” من التركيز على تطبيقات الذكاء الاصطناعي، عبر الإعلان الشهر الماضي عن مشروع “ستار جيت”، لتأسيس بنية تحتية كاملة للذكاء الاصطناعي وتطبيقاته على الأراضي الأمريكية، وهو ما سيكون له انعكاس هام على التصنيع العسكري المحلي في الولايات المتحدة، خاصة الجانب الفضائي من مشروع “القبة الحديدية”.

ارتباط المشروع الجديد بتقديم دفعة كبيرة للصناعات العسكرية الأمريكية واضح من خلال تفاصيل مشروع القانون الخاص به، والذي قدمه السناتوران دان سوليفان من ألاسكا وكيفين كرامر من داكوتا الشمالية في السادس من الشهر الجاري. ويتضمن تخصيص 19.5 مليار دولار للعام المالي 2026 لتنفيذ أمر ترامب التنفيذي، وهو مبلغ يُمثل حافزًا طويل الأجل لكبار المقاولين الدفاعيين في الولايات المتحدة.

ضمن السياق العسكري أيضًا، يبدو الرئيس الأمريكي ترامب متأثرًا بشكل كبير بحادثة تحليق المناطيد القادمة من الصين في الأجواء الأمريكية أوائل عام 2023، والتي كان لها تأثير نفسي ودعائي كبير، بالنظر إلى فشل منظومة الرصد والمراقبة الأمريكية في رصد المناطيد المتحركة نحو الأراضي الأمريكية بشكل مبكر يسمح باعتراضها خارج الأجواء الأمريكية. هذا التأثر، بالإضافة إلى الانطباعات التي تولدت لدى واشنطن خلال المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وعدة أطراف في منطقة الشرق الأوسط على مدار عام كامل، حيث كانت الصواريخ الباليستية وقصيرة المدى والمسّيرات أداة أساسية، مثّل محركات أساسية ساهمت في ترسيخ فكرة “القبة الحديدية” في ذهنية الرئيس الأمريكي الجديد، مثلها في ذلك التجربة الأوكرانية مع الصواريخ الروسية فائقة السرعة والباليستية والمسّيرات القتالية، والتي أظهرت حجم التقدم الذي أحرزته موسكو في هذا الصدد.

الاختلافات الأساسية بينه وبين القبة الحديدية الإسرائيلية: من الواضح أن واشنطن تنظر إلى المنظومة الدفاعية الإسرائيلية “القبة الحديدية” بإعجاب مبالغ فيه، وهذا يظهر من خلال تبني نفس التسمية للمشروع الأمريكي المماثل. لكن حقيقة الأمر أن هناك اختلافات كبيرة تجعل من الصعب وضع كلا النظامين في سلة واحدة. فالمنظومة الإسرائيلية تركز على المقذوفات قصيرة المدى، وهي جزء من منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية متعددة الطبقات، أما المنظومة الأمريكية فهي منظومة جامعة لكافة الأنظمة المضادة للصواريخ، وتركز على التهديدات القادمة من دول بعيدة، رغم أنها تمتلك القدرة على حماية المدن الحدودية الأمريكية من أية هجمات قريبة، وهي هجمات لا يُرجّح وجودها في المدى المنظور. يضاف إلى ذلك أن المنظومة الأمريكية تعتمد في جزء أساسي منها على التطبيقات الفضائية، وهو ما يغيب عن المنظومة الإسرائيلية. كما أن المساحة الجغرافية التي ستتولى المنظومة الأمريكية حمايتها تصل إلى 400 ضعف مساحة الأراضي الإسرائيلية، وهو ما يفرض تحديات لم تواجهها المنظومة الإسرائيلية.

كيفية التعامل مع “الإغراق الصاروخي”: تجربة القبة الحديدية الإسرائيلية خلال المواجهة الأخيرة أثبتت أن التحدي المتعلق بمواجهة سلسلة متصلة من صليات الصواريخ، ما زال يمثل معضلة أساسية أمام أي منظومة للدفاع الجوي الصاروخي، وهي معضلة ستواجه الولايات المتحدة الأمريكية خلال تطويرها لمنظومتها المتكاملة.

إشكالية “التطبيقات الفضائية”: هناك مجال أكثر إشكالية في المنظومة الأمريكية، يتمثل في الصواريخ الاعتراضية العاملة في الفضاء. فالحواجز الفنية التي تحول دون إطلاقها في المدار للقضاء على التهديدات ليست كبيرة. ولكن هناك مشكلة الميكانيكا المدارية، والتي تتطلب عددًا كبيرًا للغاية من الصواريخ الاعتراضية للتعامل مع التهديد المحتمل. ثم هناك مشكلة حماية هذه الصواريخ وأجهزة الاستشعار وأقمار الاتصالات من أسلحة العدو المضادة للأقمار الصناعية، بالإضافة إلى التكلفة الكبيرة لأية بحوث في هذا الصدد. كما أن أجهزة الاستشعار المدارية لها حدودها في الرصد، فالصواريخ الأسرع من الصوت والصواريخ الجوالة، لها بصمة ضعيفة لا يمكن التقاطها بسهولة من مدار متزامن مع الأرض، وهذا يعني أن أي شبكة استشعار مستقبلية ستتطلب مجموعات كبيرة من الأقمار الصناعية في مدار منخفض حول الأرض.

المدى الزمني والتكلفة: تشير التوقعات المتاحة إلى أنه بحلول نهاية الولاية الرئاسية الأمريكية الحالية، لن يكون من الممكن بناء جزء بسيط من نظام الدفاع المطلوب أو بنيته الأساسية، رغم أنه قد يكون من الممكن نشره على مراحل مع وجود درع محدود بحلول عام 2029 يمكن أن يغطي ساحل المحيط الهادئ، خاصة في جزيرة غوام التي توجد فيها أنظمة دفاعية بالفعل. عيب آخر للنظام الأمريكي المقترح هو تكلفته الكبيرة المتوقعة، حيث تشير بعض التحليلات إلى أن تكلفة حماية أجواء الولايات المتحدة الأمريكية بموجب هذا المشروع ستصل في المجمل إلى نحو 2.5 تريليون دولار، في حين تبلغ ميزانية الدفاع السنوية للولايات المتحدة 849.8 مليار دولار.

ردة الفعل الصينية والروسية: مثلما كانت الخشية موجودة من رد الفعل السوفيتي على مبادرة “حرب النجوم” في ثمانينيات القرن الماضي، قد يُنظر إلى القبة الحديدية الأمريكية، إذا ثبت نجاحها، على أنها تهديد لروسيا أو الصين أو حتى كوريا الشمالية، وهو ما قد يُطلق سباق تسلح فرعيًّا عنوانه الأساسي هو التطبيقات العسكرية الفضائية. وقد كانت هناك بالفعل تلميحات لتوجهات من هذا النوع من جانب موسكو، لكن توجد احتمالية موازية، أن يكون رد الفعل الروسي مماثلًا لما تم في ثمانينيات القرن الماضي، أي أن تؤدي هذه المبادرة إلى إعادة ضبط وتيرة العلاقات بين الدول الكبرى على مستوى الردع.

في المجمل، يمكن القول إن مشروع “القبة الحديدية الأمريكية” يمثل تحولًا مهمًا في الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية، التي باتت في طور الانتقال من مفهوم الدمار المؤكد المتبادل (MAD)، الذي يعتمد بشكل رئيسي على امتلاك الدول الكبرى القدرة على شن “ضربة ردّ”، ما يوفر لها قدرة تمنع الدول المناظرة من شن أي ضربات نووية عليها، إلى مفهومٍ مزدوج جديد يحافظ للولايات المتحدة الأمريكية على قدرة شن “ضربة ردّ”، وفي الوقت نفسه يوفر لها “درعًا” حماية ضد التهديدات الجوية بأنواعها. هذا التحول يُعتبر مواكبةً “متأخرة” من جانب واشنطن للتطورات التي طرأت على القدرات الصاروخية لدول مثل كوريا الشمالية وروسيا والصين.

على المستوى العملي، تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية الأرضية اللازمة لتحقيق مشروع “القبة الحديدية”، خاصةً على مستوى امتلاك منظومات اعتراضية متنوعة، لكن عامل التكلفة والوقت، والصعوبات التي تكتنف تطوير المنظومات الفضائية الخاصة بهذا المشروع – وعلى رأسها المستشعرات التي سترصد تحرك الصواريخ المتنوعة نحو الأراضي الأمريكية – تطرح تحديات جدية أمام منفذي هذا المشروع. لكن الأكيد أن تغلب واشنطن على هذه التحديات سيفتح بابًا جديدًا من أبواب “عسكرة الفضاء”، وسيُمثل تعديلًا جذريًا لدور وأهمية “الردع النووي”. وللتأكيد على إمكانية حدوث ذلك، يبدو أنه سيكون علينا الانتظار لمدة 60 يومًا قادمة، ستقوم خلالها وزارة الدفاع الأمريكية بالتوصل إلى الخطوات العملية لبدء تفعيل هذا المشروع الطموح.

1- Did the U.S. Defense of Israel from Missile Attacks Meaningfully Deplete Its Interceptor Inventory?, CSIS, https://2u.pw/hCjsKlUc

2- How Trump’s ‘Iron Dome for America’ upends four decades of nuclear doctrine, Breaking defense, https://2u.pw/fT3L2wQN

3- Trump’s missile shield marks shift in homeland defense strategy, Defense news, https://2u.pw/TNMkswMs

4- How US Plans Use ‘Iron Dome’ to Conquer Space and Win All 21st Century Wars, Defense Express, https://2u.pw/6M5e8WDd

5- Analysts: American Iron Dome reduces nuclear coercion but drives arms race, VOA, https://2u.pw/rManjEwCG

6- Trump’s ‘Iron Dome’ Must Succeed Where Reagan’s ‘Star Wars’ Failed, Bloomberg, https://2u.pw/zslAlcHB

7- The Truth About Trump’s Iron Dome for America, The Atlantic, https://2u.pw/PoCP7pg1

8- Army executes Iron Dome Defense System – live fire at White Sands Missile Range, ARMY, https://2u.pw/FGPNxiDq

9- Why Reagan’s ‘Star Wars’ Defense Plan Remained Science Fiction, History, https://2u.pw/izi3jQAS

10- Missile Defense Agency Provides New Details On Defense of Guam, Naval news, https://2u.pw/jE3wQ1c2

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى