
الرياح المعاكسة.. ما هي محددات سياسة ترامب تجاه الأكراد في سوريا؟
عقب اتصال هاتفي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أكتوبر 2019، أمر الرئيس دونالد ترامب بانسحاب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا. فشنّت تركيا بعدها هجومًا عبر الحدود على المواقع التي يسيطر عليها المقاتلون الأكراد المدعومون من الولايات المتحدة، واستحوذت على أجزاء من شمال سوريا، وقتلت مئات المدنيين وأجبرت أكثر من 300 ألف شخص على النزوح. والآن، بعد سقوط نظام بشار الأسد، يقف الأكراد السوريون مرة أخرى في مواجهة القوات التركية التي تهدد وجودهم، ومحددات ولاية ترامب لترامب التي قد تبتعد عن دعمهم.
يعيش شمال سوريا حالة من التوتر المتصاعد بين الأكراد السوريين والفصائل الموالية لتركيا، وسط معارك عنيفة وتصريحات قوية تؤكد تعقيد الموقف. بعد أن ظهرت استعدادات تركية للسيطرة على المناطق التي يديرها الأكراد، بالتعاون مع الجماعات المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام التي أطاحت بالأسد، لخلق واقع جديد في تلك المناطق مع تولي ترامب منصبه، وإجباره على تقليص دعم واشنطن للأكراد في سوريا، خاصة بعد تصريحات الرئيس التركي التي أكد فيها أن نهاية المسلحين الأكراد تقترب، ولا مجال للإرهاب في مستقبل سوريا. وهدد بشن عملية جديدة عبر الحدود داخل سوريا ضد الفصائل الكردية المسلحة.
محددات التحالف الأمريكي الكردي في سوريا
يُعدّ الأكراد إحدى أكبر المجموعات العرقية في العالم التي ليس لها دولة خاصة بها، ورغم الأزمات والحروب المختلفة التي مرت بها منطقة الشرق الأوسط، وتغير ميزان القوى العالمي والإقليمي، تميزت المعضلة الكردية بأمور عدة ظلت ثابتة:
- استمرار حلم نحو 40 مليون كردي بتأسيس كيان أو إدارات مستقلة في الدول الأربع التي يعيشون فيها (تركيا وسوريا والعراق وإيران)، من دون أي منفذ بحري.
- ناضل الأكراد من أجل الحكم الذاتي والحقوق اللغوية والثقافية داخل ولاياتهم، وقمعت الحكومات المركزية هذه الجهود.
- إجماع الدول الأربع على التنسيق ضد الأكراد رغم الخلافات الكثيرة فيما بينها.
- استعمال القوى الكبرى أو الإقليمية للأكراد أداةً في صراعاتها ضد بعضها البعض، لتحقيق أهداف معينة، وبينها اعتماد التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة عليهم مكونًا أساسيًا في الحرب ضد داعش.
المحددات التي ميزت المعضلة الكردية في المنطقة كانت أداة مثالية للسياسة الخارجية الأمريكية. فمن خلال تسليح الأكراد في الدول التي يعيشون فيها، استطاعت الولايات المتحدة زعزعة استقرار تلك الدول وإثارة القلاقل. في المقابل، كانت واشنطن حريصة على استغلالهم دون منحهم القوة اللازمة لتحقيق حلم دولتهم المستقلة فالتحالف مع الأكراد ما هي إلا شراكة مرحلية لتحقيق أهداف مرحلية استخدمت فيها الولايات المتحدة الجماعات الكردية لعقود من الزمن كجنود في العراق وسوريا، ثم توقفت عن دعمهم بمجرد انتهاء فائدتها منهم، وهي النتيجة التي يخشاها الأكراد بعد أن اعتمدت عليهم الإدارات الأمريكية المتعاقبة والتي تمايزت محدداتها فيما يلي:
إدارة باراك أوباما، الدعم والتكوين: بعد عقود من التهميش في ظل الحكومة السورية، أعلن الأكراد إثر اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011 إقامة “إدارة ذاتية” بعد انسحاب قوات النظام من مناطق يشكلون غالبية سكانها في شمال البلاد وشرقها، من دون مواجهات. واستطاعت الميليشيات الكردية التي تمثل نحو 10% من سكان سوريا، محاربة تنظيم داعش بدعم وتسليح من الولايات المتحدة، حيث تألفت “قوات سوريا الديمقراطية” من الجماعات التي دربتها وسلحتها واشنطن تحت اسم “وحدات حماية الشعب” -الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني-، ويبلغ تعداد مقاتليها الآن نحو 100 ألف يسيطرون على نحو 25 إلى 30% من الأراضي السورية، ومعظم المنطقة الواقعة شمال شرق نهر الفرات.
وكان قرار الولايات المتحدة بتسليح قوات سوريا الديمقراطية نقطة خلاف شابت العلاقات الأمريكية التركية بداية من عام 2014، عندما تواطأت تركيا مع التنظيم لمحاصرة مدينة كوباني الحدودية ذات الأغلبية الكردية في شمال سوريا، وسمحت لمقاتلي داعش بعبور أراضيها للحماية وإعادة الإمداد، بل وتجاوز الأمر بإطلاق مقاتلي التنظيم النار على مواقع كردية من داخل الأراضي التركية. وبسبب عدم اهتمام تركيا بمُحاربة داعش، وتواطؤها معه في طموحاته، قررت إدارة أوباما العمل بشكل مباشر مع المقاتلين الأكراد على خط المواجهة في القتال ضد الجهاديين والإرهابيين. ومدّت الإدارة الأمريكية قوات سوريا الديمقراطية بالأسلحة اللازمة لكسر حصار مدينة كوباني، المعركة الحاسمة التي قيّدت طموح داعش وأرست الزخم الذي أدى في النهاية إلى هزيمته. ومع استمرار تركيا في دعم داعش، أرسلت الولايات المتحدة مستشارين عسكريين وقوات خاصة للعمل بالاشتراك مع الأكراد السوريين. وبالإضافة إلى القتال إلى جانب القوات الأمريكية للسيطرة/لانتزاع المدن والبلدات من سيطرة الإرهابيين في ذروة الحرب الأهلية، يحتجز المقاتلون الأكراد حاليًا آلافًا من مقاتلي داعش في مراكز احتجاز في جميع أنحاء شمال شرق سوريا.
إدارة دونالد ترامب الأولى، تحدّى شعار أمريكا أولًا: تبنى ترامب خلال ولايته الأولى شعار “أمريكا أولًا” الذي يقضي بترك الصراعات البعيدة وشأنها وانسحاب القوات الأمريكية من مناطق الحروب والنزاعات، إلا أن هذا لم ينسحب على الوضع في سوريا التي كانت واحدة من أكثر مسارح السياسة الخارجية فوضوية. ظهر ذلك من خلال قراراته المتناقضة بين الانخراط والانسحاب والهجوم. ولم تتخذ الولايات المتحدة أي إجراء عسكري مباشر ضد نظام الأسد حتى أبريل 2017، عندما شنت إدارة ترامب هجومًا صاروخيًا على قاعدة الشعيرات الجوية ردًا على هجوم كيميائي في بلدة خان شيخون في محافظة إدلب. وفي ديسمبر 2018، أمر الرئيس ترامب بانسحاب القوات البرية الأمريكية التي يتراوح عددها بين 2000 و2500 جندي من سوريا، معتقدًا أن عمليات التحالف ضد تنظيم داعش كانت ناجحة وأن الوجود الأمريكي في شرق سوريا غير ضروري. لكن اعترض مسؤولون أمريكيون على القرار لأن التنظيم لا يزال ناشطًا ولن تتمكن قوات سوريا الديمقراطية وحدها من التعامل مع هذا التهديد، وبدلًا من الانسحاب الكامل، أعلنت الولايات المتحدة احتفاظها بقوة طوارئ أمريكية.
وفي عام 2019، دافع ترامب عن قراره بسحب القوات الأمريكية من سوريا، قائلًا: “المعركة خسرناها منذ فترة طويلة، نحن لا نتحدث عن ثروة هائلة، نحن نتحدث عن الرمال والموت”. ومهد لانسحاب جزئي للقوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، مقابل غزو تركي واسع النطاق أدى إلى مقتل ونزوح مئات الآلاف من السوريين. ثم توسطت إدارة ترامب في وقف إطلاق النار مقابل تنازل الأكراد عن أميال من الأراضي الحدودية للأتراك. وحافظ على وجود ٩٠٠ جندي أمريكي منتشرين شرقي نهر الفرات وفي منطقة خفض التصعيد التي تمتد لمسافة ٥٥ كيلومترًا (٣٤ ميلًا) على الحدود مع العراق والأردن. تتمثل مهمتهم الأساسية في:
- الدفاع عن حقول النفط في شرق سوريا حمايةً للمصالح الأمريكية من داعش والأسد.
- منع عودة ظهور تنظيم داعش والجماعات المتطرفة الأخرى من إعادة تشكيل نفسها.
- تدريب وتجهيز قوات سوريا الديمقراطية لحراسة المعسكرات التي تضم مقاتلي داعش وعائلاتهم.
- قطع الطريق أمام تزويد إيران لحزب الله بالأسلحة عبر سوريا.
إدارة جو بايدن، الابتعاد والتجاهل: كان من المتوقع أن يتبنى جو بايدن موقفًا مؤيدًا للأكراد، واستندت تلك التوقعات إلى فترة عمله كعضو في مجلس الشيوخ ونائب للرئيس، عندما وطّد علاقاته مع بعض المجتمعات الكردية في الشرق الأوسط. وانتقد سياسات ترامب تجاه الأكراد، مما أثار توقعات بأن إدارته ستدعم الطموحات الكردية في شمال شرق سوريا. لكنّ الأزمات الاقتصادية والسياسية الداخلية في الولايات المتحدة، والمخاوف المتعلقة بالسياسة الخارجية، مثل المنافسة مع الصين والحروب في أوكرانيا وغزة، دفعت إلى تحويل انتباه الإدارة الأمريكية بعيدًا عن الأكراد مع تراجع العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش. وتجاهل بايدن انتهاك الرئيس التركي للحقوق الإنسانية والمدنية للسياسيين والناشطين الأكراد، وعزل رؤساء البلديات الأكراد من مناصبهم في المناطق ذات الأغلبية الكردية في تركيا، واستبدالهم بمسؤولين عينتهم الحكومة التركية. كما عارض بايدن انتخابات الإدارة الذاتية الكردية المُقررة في سبتمبر 2024، بحجة عدم استيفاء الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة وشاملة في سوريا.
وبعد سقوط الأسد، أجبرت إدارة بايدن الأكراد على التخلي عن ممتلكاتهم على الجانب الغربي من نهر الفرات، وخاصة مدينة منبج التي سعت تركيا منذ فترة طويلة للسيطرة عليها. وتمكنت الفصائل الموالية لتركيا من السيطرة على تل رفعت الذي كان يسيطر عليه الأكراد. فيما سلط وزير الخارجية أنتوني بلينكن الضوء على أهمية حماية قوات سوريا الديمقراطية، وأكد البنتاجون أن ما لا يقل عن 2000 جندي أمريكي نُشر في سوريا لفترة غير محددة، وهو أكثر من ضعف العدد الذي زعمت واشنطن سابقًا امتلاكها في سوريا. وحددت الإدارة الأمريكية ثلاثة أهداف للتعامل مع الأحداث في سوريا:
- دعم الأردن ولبنان والعراق وإسرائيل في حال نشوء أي تهديد من سوريا.
- حماية ما يقرب من 2000 جندي أمريكي متبق في سوريا لمحاربة داعش.
- إشراك جميع المجموعات السورية والكردية في إنشاء عملية سياسية جديدة تقوم على مفهوم الحكومة الشاملة، وأولوية السوريين أنفسهم في هذه العملية.
إدارة ترامب الثانية، تحدي الانسحاب الملّح: على الرغم من أن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تثير تساؤلات حول كيفية دعم واشنطن للأكراد، نجد عدم اختلاف كبير في سياسته عن بايدن تجاه سوريا، وتطابقها في العديد من المواقف أكثر من تباينها. فهدفهما المشترك هو أن تدير دمشق حكومة متوافقة مع المصالح الأمريكية، والتأكد من أن الحكومة المستقبلية لا تستطيع تهديد إسرائيل، الحليف الأكثر أهمية في المنطقة، والبناء على دحر النفوذ الإيراني والروسي من سوريا. كما أن تصريحات ترامب بأن “هذه ليست معركتنا، دعونا ننسحب” تتوافق مع تصريحات بايدن بأن “هذه عملية يجب أن يقودها السوريون، وليس الولايات المتحدة”. لكن الفارق الرئيسي يكمن في نهج ترامب تجاه القوات الأمريكية على الأرض والدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية.
سيناريوهات محتملة
تشير بعض المعطيات إلى عدم اهتمام ترامب بما يجري في سوريا ورغبته الملحة في الانسحاب، لكن تظل القضية السورية معضلة رئيسية لإدارته الثانية وللاستقرار العالمي. ومع تصاعد التوترات في المنطقة واستمرار تهديد تنظيم داعش، فإن الدور الذي تلعبه القوات العسكرية الأمريكية في سوريا يشكل نقطة محورية ليس فقط لمحاربة التنظيم، بل لضمان أمن إسرائيل وتوفير الغطاء اللازم لها لبسط سيطرتها على المزيد من الأراضي السورية. وقد أكدت تصريحات وزير الدفاع الأمريكي المنتهية ولايته لويد أوستن، قبل تنصيب ترامب، على الضرورة المستمرة لبقاء القوات الأمريكية في سوريا.
وبينما تأمل أنقرة في تعزيز خططها في المنطقة من خلال التوصل إلى اتفاق مع إدارة ترامب وانسحاب القوات الأمريكية، تسعى القيادة الكردية نحو تحويل المنطقة التي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية إلى منطقة كردية مستقلة، على غرار حكومة إقليم كردستان في شمال العراق. لكن عدم واقعية هذا الهدف سيحول دون تحقيقه لأسباب عدة، منها أن أغلبية سكان شمال شرق سوريا ليسوا أكرادًا، فهي إدارة ذاتية تضم مكونات متعددة من الأكراد والعرب والمسيحيين وغيرهم من الأقليات. ورغم أن الأكراد يعيشون في المنطقة، فإنهم لا يدعمون جميعًا قوات سوريا الديمقراطية، التي تتبع أيديولوجية اشتراكية علمانية ليبرالية لا يشاركها الأكراد السنة السوريون المحليون. كما أن المدن والقرى الكردية متناثرة وغير متجاورة، مما يجعل تشكيل منطقة متماسكة تتمتع بالحكم الذاتي أكثر صعوبة.
وفي ظل تباين الأهداف والمصالح بين الولايات المتحدة وتركيا وقوات سوريا الديمقراطية حول المكاسب ونفوذ السيطرة، والرغبة الأمريكية ما بين الانسحاب والانتشار، نورد مجموعة من السيناريوهات التي قد تحدد مسار استراتيجية ترامب تجاه الأكراد في سوريا:
السيناريو الأول، الانسحاب الأمريكي لصالح تركيا: أشار الرئيس ترامب خلال مؤتمر صحفي إلى أن أنقرة دبرت سقوط نظام الأسد من خلال تسليح المتمردين الذين قادوا الهجوم، وقال: “إذا نظرت إلى ما حدث في سوريا، تدرك أن روسيا وإيران أصابهما الوهن. أردوغان رجل ذكي للغاية، أرسل رجاله إلى هناك بأشكال وأسماء مختلفة، وهؤلاء ذهبوا وتولوا السيطرة هناك”. تصريحات ترامب قد تمهد الطريق لسيناريو تتولى فيه تركيا مسؤولية عملية مكافحة الإرهاب في سوريا، مقابل إنهاء الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية، وأن تتولى القيادة السورية الجديدة السيطرة على سجون داعش ومعسكراتها بدلًا من قوات سوريا الديمقراطية، للحد من الحكم الذاتي الكردي في المنطقة، وتعزيز نفوذ تركيا في المسائل الأمنية في شمال سوريا. وفي حال عدم تحمل هيئة تحرير الشام مسؤولية حماية السجون، قد تكون هناك إدارة تركية عراقية لإدارة هذه السجون، نظرًا لأن غالبية المعتقلين الأجانب مواطنون عراقيون.
ولكن العائق الذي يقف أمام هذا السيناريو هو أن هيئة تحرير الشام لا تملك الوسائل الكافية للسيطرة على المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، والقتال ضد تنظيم داعش. ومن غير المرجح أن توافق المؤسسة العسكرية الأمريكية، التي طورت علاقة قوية مع قوات سوريا الديمقراطية على مدى السنوات العشر الماضية، على تغيير ذلك. وقد سبق أن فشل ترامب في سحب القوات الأمريكية من سوريا، وهي خطوة تم تجنبها فقط بعد جهود اللحظة الأخيرة من مستشاريه وجهود البنتاجون، كما أن أنقرة غير مستعدة لمواجهة داعش والقاعدة في وقت من المرجح أن تسعى فيه إلى الاستفادة من عدم الاستقرار السياسي في سوريا. بالإضافة إلى دعم الحكومة التركية للجماعات الجهادية في سوريا وتاريخها في توفير ملاذ آمن للإرهابيين.
السيناريو الثاني، الحفاظ على الوجود الأمريكي: امتناع ترامب عن تقديم إجابة قاطعة حول عدد القوات الأمريكية في سوريا ومهامها، على اعتبار أن مثل هذه المعلومات جزء من الاستراتيجية العسكرية، يُعد تحولًا في موقفه السابق المتمثل في الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من سوريا. فمن مصلحة إسرائيل بقاء حوالي 2000 جندي، للمساعدة في قطع الجسر البري الإيراني عبر العراق وسوريا إلى حزب الله في لبنان، خاصة أن هذه القوات، على الرغم من عددها الصغير، كانت فعالة في الحفاظ على الاستقرار في مناطق انتشارها. وللولايات المتحدة أيضًا مصالح مهمة في بقاء قواتها لمنع عودة ظهور داعش، بالإضافة إلى الدعم الحزبي في الكونغرس للحفاظ على الحكم الذاتي الكردي ضد الخطط التركية للمنطقة.
وأكد ترامب استمرار دعمه للأكراد، عقب زيارة قائد القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم) مايكل كوريللا إلى القواعد الأمريكية في سوريا، ولقاءه مسؤولين في قوات سوريا الديمقراطية لبحث آفاق الحرب على داعش والجهود المبذولة لمنع ظهور أي مجموعات إرهابية. ويؤكد التطمين الأمريكي اعتراض واشنطن على السياسة التركية في استغلال سقوط حكومة الأسد للقضاء على المنظمات الكردية في كل من سوريا وتركيا. كما أن المرشح لمنصب وزير الخارجية الأمريكي، السيناتور ماركو روبيو، والنائب مايك والتز، الذي اختاره ترامب مستشارًا للأمن القومي، من المؤيدين بشدة للشراكة مع الأكراد في سوريا وقد يقنعانه بالتراجع عن الانسحاب الأمريكي الكامل من سوريا وسط الوضع الأمني الحرج في البلاد.
وبالتالي فإن إدارة ترامب قد تتبنى سياسة مختلفة تجاه الوضع في سوريا، حيث من المرجح أن تركز على تقليص النفوذ الإيراني وتجنب التصعيد بين الأكراد وتركيا. وستكون الولايات المتحدة حريصة على الحفاظ على التوازن في المنطقة وعدم السماح للتوترات بين الأكراد وتركيا بالانزلاق إلى مواجهة مفتوحة، حيث تضم مناطق شمال شرقي سوريا ٢٦ سجنًا وأكثر من ١٢ ألف معتقل قاتلوا في صفوف داعش، من ٥٥ دولة، معظمهم من سوريا والعراق. ولكن التحدي الذي يقف أمام تحقيق هذا السيناريو هو رغبة ترامب في إنهاء الحروب وعدم الانخراط في صراعات أخرى في الشرق الأوسط.
السيناريو الثالث، تأمين المصالح الأمريكية بدون قوات في سوريا: ينظر الفصيل الانعزالي في إدارة ترامب إلى الأكراد السوريين من منظور رمزي أكثر منه استراتيجي، واعتبارهم تهديدًا حقيقيًا للقاعدة الذهبية “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، ومثالًا حيًا على المشاركة الأمريكية في الحروب الأبدية والاستثمار في الصراعات الخارجية التي تشتت انتباه الولايات المتحدة عن مصالحها الأساسية. في حين يرى الفصيل الآخر أن الدعم الأمريكي للأكراد يحد من الحروب الأبدية من خلال منع إحياء تنظيم داعش والسيطرة على قدرة إيران في دعم حزب الله والمليشيات التابعة لها. فالأكراد لا يريدون من الولايات المتحدة الدفاع عنهم، بل تمكينهم من الدفاع عن أنفسهم.
ونظرًا لحجم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية في سوريا خلال حكم الأسد، وتآكل الديناميكيات الاجتماعية، فمن الصعب أن تنتهي سوريا إلى دولة موحدة. وانقسام الدولة بيئة مناسبة لتنظيم داعش لإعادة صفوفه، الأمر الذي يجعل الانسحاب الأمريكي الكامل من سوريا أكثر صعوبة. وبالتالي، فإن الانسحاب التدريجي على مدى زمني محدد، ستة أشهر مثلًا، قد يكون الحل الأنسب في هذه المرحلة، خاصة أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على الابتعاد عما يجري من ترتيبات في سوريا. في ظل سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على مساحة كبيرة تمثل ما يقرب من ثلث إجمالي مساحة البلاد، وتحتوي الأراضي التي تسيطر عليها على حوالي 70% من حقول النفط والغاز في سوريا.
ولتأمين المصالح الأمريكية بدون قوات في سوريا، ستحتاج إدارة ترامب إلى الانخراط في جهود دبلوماسية مكثفة لوضع الأساس لخروج أمريكي محتمل، مع ضمان احتواء قدرات تنظيم داعش وبقاء مقاتليه في الاحتجاز حتى إعادتهم إلى أوطانهم، أو من خلال الترويج لحل طويل الأمد يتطلب الحد من أي توغل تركي أو مدعوم من تركيا في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد. وستحتاج إدارة ترامب إلى البحث عن حلول إبداعية لعقد حوار بين تركيا وحزب العمال الكردستاني وفرعه السوري للمساعدة في تخفيف التوترات على طول الحدود السورية التركية، وتزويد تركيا بالضمانات التي تحتاجها لوقف ومنع التوغل التركي المحتمل، الذي يهدد بإلغاء عشر سنوات من القتال ضد الجماعات الإرهابية.
ختامًا، ستختبر محددات ولاية ترامب تجاه الأكراد في سوريا مدى التوازن بين رغبته في مكافحة الإرهاب والحاجة إلى التنقل بين التحالفات المعقدة ومنع موجة جديدة من التطرف في المنطقة. ومن المحتمل أن يتأثر موقف ترامب من القوات الأمريكية بالسياسة الداخلية والمشهد الأمني المتطور. وستتطلب التحديات التي يفرضها تنظيم داعش، والحكم الذاتي الكردي، والنفوذ الإيراني استراتيجية دبلوماسية وعسكرية حذرة. فإذا انسحبت الولايات المتحدة مبكرًا، فإنها تخاطر بالسماح لداعش بإعادة تجميع صفوفه، ويهدد ذلك مستقبل ترامب السياسي كما حدث مع الرئيس بايدن في أفغانستان. وإذا ظلت واشنطن منخرطة، فإنها تجازف بمزيد من التورط في التنافسات الجيوسياسية المعقدة في المنطقة، خاصة أن الوجود العسكري الأمريكي في سوريا لا يهدف إلى منع تنظيم داعش من إعادة تأكيد وجوده فحسب، بل وأيضًا إلى الحفاظ على النفوذ الاستراتيجي لإسرائيل في منطقة تظل بالغة الأهمية للأمن العالمي. وللاستراتيجية التي سيتبعها ترامب مع هذه التحديات آثارٌ دائمة على الشرق الأوسط وخارجه، وطموحات الهيمنة الأمريكية التي لا يمكن أن تتحققَ من دون تحولٍ استراتيجيّ في سوريا التي تُعدّ عمقًا استراتيجيًا لكلّ الحركات الإرهابية.