أسواق وقضايا الطاقة

رؤية مستقبلية: تحديات وفرص استعادة مستويات إنتاج الغاز في ظل الاكتشافات الجديدة “كشف نفرتاري”

يُعد تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة وبالأخص الغاز الطبيعي مطلبًا جوهريًا وملحًا في العديد من دول العالم، وتكمن أهميته في توفير أمن الطاقة، وتحصين الشعوب من الأزمات التي تحدث أحيانًا، وذلك بسبب نقص الإمدادات في السوق الدولية. كما يُشكل الاكتفاء الذاتي سبيلًا إلى الاعتماد على الإنتاج المحلي وتطوير الإمكانات الذاتية، والتقليل في المقابل من الاعتماد على الخارج وواردات الطاقة، مما يدعم استقلالية القرار السياسي وزيادة نفوذ الدول على المستوى الإقليمي والدولي. وعليه، ينفرد الغاز الطبيعي بأهمية استراتيجية خاصة عن مصادر الطاقة الأخرى بأنه صناعة استراتيجية. ومن المتوقع أن يظل الغاز الطبيعي محورًا مهمًا في الاقتصاد العالمي خلال السنوات المقبلة.

شهدت أسواق الغاز الطبيعي أحوالًا متقلبة العام الماضي بسبب مزيج من العوامل الجيوسياسية والتغيرات المناخية وخطط انتقال الطاقة الخضراء بعيدة التحقيق حتى الآن. ويبدو من الأزمات السياسية الحالية أن عام 2025 لن يكون أفضل مما سبق. وقد احتل الغاز الطبيعي مكانة مركزية على خريطة الطاقة العالمية إذ يُعد مصدر وقود رئيس للعديد من دول العالم، لأنه أفضل من الفحم والنفط ويساعد في التحول إلى الطاقة الخضراء.

تولي الدولة المصرية اهتمامًا كبيرًا بقطاع الطاقة وبالأخص ملف الغاز الطبيعي خلال السنوات الأخيرة؛ إذ ترى أن تطبيق استراتيجية الطاقة المتكاملة والمستدامة أحد أهم ركائز التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهو ما جعلها تخطو خطوات جادة وسريعة نحو العمل على استعادة مستويات الإنتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، وذلك من خلال عوامل عدة شملت: عمليات البحث والاستكشاف في مناطق بكر لم يُكتشف بها الغاز الطبيعي والنفط من قبل.

وقد شهدت صناعة الغاز في مصر تقلبات عديدة خلال العقد الماضي؛ فحقل الغاز ظهر، الذي اكتشفته شركة إيني الإيطالية عام 2015، يُعد اكتشافًا تاريخيًا ويُصنف كواحد من أكبر حقول الغاز في العالم، حيث تبلغ طاقته الإنتاجية نحو 850 مليار متر مكعب من الغاز، وقد أدى هذا الاكتشاف في البداية إلى ازدهار اقتصادي، لكن أزمة الدولار في السنوات الأخيرة وانخفاض إنتاج الغاز ألحقا أضرارًا كبيرة بالصناعة في مصر. وعليه، قد أضحى ملف الطاقة قضية محورية، وتحقيق أمن الطاقة في مصر يُشكل أمرًا حيويًا لحماية الأمن القومي لها، في وقت تعيش فيه الدولة تحديين رئيسين؛ الأول: الارتفاع المتزايد في الطلب على الطاقة وتذبذب أسعارها (النفط ومشتقاته والغاز الطبيعي)، والثاني: هو تزايد عدد السكان بشكل كبير.

أطلقت الحكومة المصرية مؤخرًا خطة لسداد مستحقات شركات الطاقة الأجنبية؛ بهدف تشجيع الاستثمارات الجديدة وتأهيل صناعة الطاقة. وقد يُشكل الاكتشاف الغازي الأخير “نفرتاري” ليس فقط مصدرًا محتملًا للدخل لمصر، بل أيضًا فرصة لجذب لاعبين دوليين إضافيين إلى صناعة الغاز الطبيعي في مصر.

يُعد الغاز الطبيعي من أهم المدخلات المهمة في البنية التحتية لتوليد الطاقة في مصر؛ إذ كان يمُثل في العام الماضي 2024 نسبة حوالي 51% من مجموع الطاقة الأولية التي يتم إنتاجها في مصر، وكان يُستخدَم في إنتاج حوالي 76.8% من التيار الكهربائي الذي يتم توليده، ولم يكن هذا الاعتماد على الغاز الطبيعي يطرح مشكلة عندما كان هناك فائضًا في مصر.

فقد كشفت بيانات حديثة عن عودة إنتاج مصر من الغاز الطبيعي إلى الصعود خلال شهر مايو الماضي لكن بنسبة زيادة طفيفة بلغت حوالي 0.6% لكنه لا يزال متراجعًا عند المقارنة بالشهر نفسه من عام 2023، وسط استمرار ارتفاع استهلاكه محليًا. حيث ارتفع إنتاج الغاز الطبيعي في مصر إلى حوالي 4.28 مليارات متر مكعب خلال شهر مايو 2024، مقابل 4.26 مليارات متر مكعب في شهر أبريل السابق له، كما هو موضح في الشكل التالي.

أمام ما تقدم، يعتمد قطاع الكهرباء على الغاز لتوليد التيار، وهو الأمر الذي تسبب في تعرُض القطاع لأزمة وعدم قدرته على تلبية الطلب المتزايد على التيار الكهربائي في ظل ارتفاع درجات الحرارة خلال الصيف الماضي، لتوقف مصر صادراتها من الغاز المسال، بدءًا من مايو 2024، (استهلاك الكهرباء من الغاز الطبيعي والمازوت زاد عن التوقعات).

علاوة على ذلك، إن استهلاك الكهرباء في مصر لا يزيد عن حوالي 31 جيجاوات (في المعدل الطبيعي)، ولكن هذه الأرقام ارتفعت بشكل واضح خلال الصيف الماضي، حيث وصلت إلى حوالي 37-40 جيجاوات وهذا يُعد أمرًا نادر الحدوث. حيث ارتفع استهلاك الكهرباء بنسبة حوالي 12% وذلك عن معدلات عام 2022، وهو الأمر الذي استدعى ضرورة توفر كميات إضافية من الغاز الطبيعي والوقود.

وعليه، يُعد النقص الحاد في الغاز الطبيعي من الأزمات الأكثر إلحاحًا التي واجهها الاقتصاد المصري في الصيف الماضي، بالإضافة دفع النمو السكاني المتزايد والسريع في مصر، والمصحوب بتهافت شديد على استخدام الكهرباء. وبالنظر إلى إنتاجية الغاز الطبيعي في مصر، نجد أن مصر خلال فصل الصيف الماضي واجهت مشكلة مستدامة في كيفية الموازنة بين التصدير والاستهلاك الداخلي، من جهة؛ ومن جهة أخرى الموازنة بين الزيادة السنوية للاستهلاك الداخلي والإنتاج المحلي (هناك تناقص طبيعي من الغاز الطبيعي الناجم عن تقادم الحقول والسلوك الخزاني المتعارف عليه عالميًا)، وذلك نظرًا لزيادة المجالات التي يتم فيها استهلاك الغاز الطبيعي والزيادة السنوية العالية لعدد السكان الذي يفوق حوالي 107 ملايين نسمة.

علاوة على ذلك، تستهدف مصر زيادة إنتاج الغاز الطبيعي من خلال استغلال الفرص الواعدة فى مجال البحث والاستكشاف والإنتاج لزيادة معدلات الإنتاج والاحتياطيات من الثروات البترولية، وذلك من خلال عدد من المحاور، والتى تتضمن طرح مزايدات لاكتشافات جديدة، ودعم الاستثمار في البحث عن النفط والغاز الطبيعي من مناطق مصر البرية والبحرية، ودعم الجهود والإجراءات الرامية للإسراع بزيادة إنتاج الغاز الطبيعى، وتعظيم الاستفادة من التكنولوجيا المتطورة بكل السبل لتحسين الإنتاج والتغلب على التحديات، وجاء  إعلان قطاع البترول خلال الفترة الماضية عن حزمة من الحوافز تمثل أحد الآليات المهمة التي يقدمها قطاع البترول لتشجيع الإستثمار في عمليات زيادة الإنتاج من الغاز الطبيعي والنفط الخام، بما يعود بالنفع على القطاع والشركاء (حزمة حوافز جديدة تهدف إلى تشجيع زيادة إنتاج الزيت الخام والغاز الطبيعى)، كما هو موضح في الشكل التالي.

إن زيادة معدلات الاستهلاك المحلي وعدم وجود معادلة متزنة بين معدلات الاستهلاك ومستويات الإنتاج للدولة يترتب عليها زيادة وفجوة كبيرة في فاتورة الاستيراد، مما يترتب عليه أعباء وضغوط على موازنة للدولة، ولذلك ستشهد الفترة المقبلة تعزيز عمليات البحث والاستكشاف في مجالي النفط والغاز الطبيعي، ذلك لما تمتلكه مصر من احتياطيات مؤكدة وضخمة، بالإضافة إلى جذب العديد من الشركات العالمية، وضخ استثمارات كبيرة في هذا الملف، ويوضح الشكل التالي تطور احتياطيات مصر المؤكدة من الغاز الطبيعي.

استكمالًا لما سبق، تعمل الدولة المصرية جاهدة على زيادة معدلات الحفر والتنقيب؛ وذلك بهدف زيادة احتياطياتها من الغاز الطبيعي. حيث تعمل الدولة على زيادة إنتاجها من الغاز الطبيعي، وذلك من خلال حفر آبار جديدة وتنمية الحقول القائمة والعمل على سرعة وضع الاكتشافات الجديدة على خريطة الإنتاج. وعليه، تلقى إنتاج الغاز الطبيعي في مصر دعمًا جديدًا، وذلك من خلال تحقيق كشف تجاري جديد نفرتاري-1 في الجزء الغربي من البحر المتوسط في منطقة “مراقيا” بواسطة شركة “إكسون موبيل”.

تسعى مصر من خلال أنشطة البحث والاستكشاف في غرب البحر المتوسط (منطقة بكر)، إلى إضافة احتياطيات جديدة من النفط والغاز الطبيعي إلى موارد مصر، كما يعكس ذلك جدية واهتمام الشركات العالمية الكبري العاملة في منطقة غرب المتوسط بالفرص والاحتمالات الواعدة الموجودة فيها.

وعليه، بدأت مصر أعمال الحفر في بئر “نفرتاري” للغاز الطبيعي، الواقعة في منطقة شمال “مراقيا” بغرب البحر المتوسط، وذلك من خلال سفينة الحفر “فالاريس دي إس 9″؛ وذلك بهدف العثور على احتياطيات جديدة عند عمق مياه حوالي 1720 مترًا في المنطقة الغربية للبحر المتوسط. وأظهرت نتائج التسجيلات البئرية وجود طبقتين اساسيتين حاملتين للغاز فى تكوين الكريتاسى، وجارٍ حساب التقديرات المبدئية لحجم الغاز الطبيعي. ويتميز البئر بأنه ليس عميقًا حيث يصل العمق النهائى لحوالى 2700 متر، مما يعطى الأمل فى سهولة وسرعة تنميته. كما أنه قريب من تسهيلات حالية بها سعة لاستقباله.

شهد قطاع النفط الخام والغاز الطبيعي في مصر على مدار السنوات الماضية تحقيق طفرة كبيرة في معدلات الإنتاج وخطط البحث والاستكشاف والتنمية وكذلك المشروعات البترولية، وذلك من خلال استراتيجية متكاملة من عدة محاور، حيث تسعى مصر إلى خفض استهلاكها المحلي من الطاقة وزيادة معدلات الإنتاج من الغاز الطبيعي والنفط الخام؛ بهدف زيادة كمية صادراتها من النفط الخام والغاز الطبيعي، وبالتالي زيادة مواردها من العملة الصعبة. ومن هنا يجب إلقاء الضوء على الانعكاسات المختلفة والعوائد المتوقعة من تلك الاكتشافات التجارية المعلنة والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

  • استخدمت إكسون موبيل جميع التقنيات الحديثة فى الحفر، واستخدام أحدث تطبيق لمعالجة البيانات السيزمية لإثبات وجود الغاز المكتشفة، مما يفتح الباب لتطبيق التكنولوجيات الحديثة في قطاع الطاقة.
  • إضافة احتياطيات جديدة من الغاز الطبيعي، مع إمكانية تحقيق اكتشافات عديدة خلال الفترة المقبلة.
  • يُشكل الكشف خطوة مهمة نحو استعادة إنتاج الغاز الطبيعي في مصر لمستوياته السابقة.
  • المنطقة بكر، ويساعد قرب المنطقة من الأسواق المتعطشة للغاز الطبيعي في أوروبا والشرق الأوسط في تعزيز الجدوى الاقتصادية المحتملة لأي اكتشاف تجارية.
  • سيؤدي الكشف إلى فتح آفاق جديدة لصناعة الغاز الطبيعي في غرب المتوسط.
  • زيادة الثقة بين الشركات الأجنبية وقطاع البترول والغاز الطبيعي في مصر.
  • زيادة معدلات الحفر في غرب المتوسط، وبالتالي زيادة معدلات الإنتاج من الغاز الطبيعي.
  • الاكتشافات التجارية الحالية تأتي في إطار استراتيجية الدولة للنهوض بقطاع الطاقة، وفي إطار رؤيتها للتحول إلى مركز إقليمي لتجارة وتداول الطاقة وجذب الاستثمارات الأجنبية، مستغلة في ذلك موقعها الاستراتيجي والثروات الطبيعية التي تتمتع بها، وكذلك الأصول والبنية التحتية التي تم تطويرها على مدار السنوات السابقة وبالتحديد بعد عام 2014.
  • الاكتشافات التجارية الجديدة ستحدث فرقًا كبيرًا في الاقتصاد المصري، وبالتالي زيادة إيرادات العملة الأجنبية للدولة، ولذلك تدعو القيادة السياسية دائمًا إلى ضرورة الإسراع في وضع الاكتشافات الجديدة على خريطة الإنتاج والتعجيل بتنفيذ خطط التنمية لها، (بدء الإنتاج)، وإن لم يحقق زيادة في الصادرات، فإنه سيقلل جزءًا كبيرًا من الواردات وبالتالي تنخفض فاتورة الاستيراد.
  • تلك الاكتشافات الضخمة (التي تتمتع باحتياطيات كبيرة) قد تعطي دفعة قوية لمزيد من الاستثمارات والثقة بين الشركات الأجنبية والدولة المصرية، وبالتالي، تنعكس على توسعة نطاق الاكتشافات التجارية في مصر بشكل دائم وذلك على فترات طويلة الأجل، خاصة أن السوق المصرية تعد في الوقت الحالي من أفضل الأسواق الواعدة اقتصاديًا في المنطقة في مجال الطاقة.
  • قد يغير كشف “نفرتاري” للغاز الطبيعي في الجزء الغربي من منقطة البحر المتوسط قواعد اللعبة المنطقة.
  • تعطي تلك الاكتشافات التجارية دفعة قوية لزيادة الاحتياطيات المؤكدة من النفط الخام في مصر، مما ينعكس على زيادة رقعة البحث الاستكشافي في الدولة. 
  • يُعد هذا الاكتشاف التجاري (نفرتاري) خطوة مهمة بالنسبة لشركة إكسون موبيل، والذي يُشكل كشفًا تجاريًا ضخمًا (مؤشرات لاحتياطيات ضخمة)، لتعزيز مكانتها في صناعة الغاز الطبيعي في مصر نحو المزيد من التوسع والتأثير الإيجابي في السوق المحلية.
  • الاكتشافات الجديدة ستُسهم في تنمية موارد الدولة الدولارية، وبالتالي تعزيز مساعي الحكومة نحو سداد مستحقات الشركاء الأجانب لتحفيزهم على تعظيم الإنتاج، في ظل تحفيزات الإنتاج الأخيرة التي تم الإعلان عنها من خلال وزارة البترول والثروة المعدنية.
  • تعمل مصر على تعزيز مكانتها كمركز إقليمي لتجارة وتصدير الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط، مستفيدة من الاكتشافات الكبرى في البحر المتوسط والبنية التحتية المتطورة التي تمتلكها، وخاصة مصنعي الإسالة في إدكو ودمياط اللتين تبلغ سعتهما وقدرتهما الإنتاجية نحو 12 مليون طن سنويًا، 

مجمل القول، شهد ملف الطاقة في مصر خلال العام الماضي مزيجًا غير متجانس تمثل في انخفاض مستويات إنتاج الغاز الطبيعي مع ارتفاعات غير مسبوقة في درجات الحرارة وتزايد الطلب المحلي على الطاقة. وعليه سعت مصر إلى تنويع مصادر الطاقة المختلفة؛ مما يدعم خططها لسد الفجوة الحالية بين مستويات الإنتاج ومعدلات الاستهلاك المحلي، والعمل على أن تكون هناك استقلالية كبيرة في أمن الطاقة خاصةٍ في منطقة ليست بمنأى عن الصراعات الإقليمية، من خلال تعزيز جذب الاستثمارات الخارجية بمجال الطاقة وبالأخص في ملف الغاز الطبيعي، وهو ما يُعد حلًا آخر من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي، لأن الغاز الطبيعي سيبقى مصدرًا موثوقًا ولعقود طويلة، فيما يتعلق بتوليد الكهرباء، أو مصدرًا للصناعة فقط. وقد أصبحت مرحلة استعادة مستويات الغاز الطبيعي في مصر مرهونة بتحقيق اكتشافات تجارية جديدة مماثلة لكشف حقل ظهر التجاري، بالتزامن مع تنمية الحقول القائمة والإسراع في وضع الاكتشافات الجديدة على خريطة الإنتاج المصري.

كاتب

د. أحمد سلطان

دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى