إيران

مستقبل البرنامج النووي الإيراني ما بين دبلوماسية “الترويكا” وتهديدات “ترامب”

تُبدي الدول الأوروبية الكبرى الثلاث –أو ما تُعرف بـ “الترويكا” الأوروبية وهم المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا- إصرارًا على انتهاج الدبلوماسية مع إيران فيما يخص برنامجها النووي، وهو ما برز مؤخرًا خلال الاجتماعات الرباعية بمشاركة الجمهورية الإسلامية والتي جرت في مدينة جنيف السويسرية في 13 يناير 2025. فقد عقدت لندن وباريس وبرلين وطهران جولة “حوار” مهمة جديدة هناك تطرقت بشكل رئيس إلى الملف النووي الإيراني.

وعقب الانتهاء من هذه الجولة الثالثة في جنيف، أكد المشاركون بها في رسائل لهم على منصة “إكس” أن النقاشات كانت “جادة” و”صريحة” وبنّاءة”، وهي تعبيرات استخدمها وأجمع عليها دبلوماسيو الدول الأربع. فقد وصفت وزارة الخارجية الألمانية، المحادثات بأنها “جادة” و”صريحة” و”بنّاءة”، موضحة أنه “في ظل مسار حاشد بالتحديات، تطرقنا إلى المخاوف وأكدنا على التزامنا بالتوصل إلى حل دبلوماسي واتفقنا على مواصلة نقاشاتنا”.

وعلّقت الخارجية الفرنسية قائلة إن الاجتماع كان “مؤشرًا على أن دول الترويكا الأوروبية تواصل العمل من أجل التوصل إلى حل دبلوماسي للبرنامج النووي الإيراني الذي يطرح مستوى تقدمه مشكلةَ بالغة”. فيما وصف مساعد الشؤون القانونية والدولية في الخارجية الإيرانية، كاظم غريب آبادي، اجتماعات جنيف بأنها كانت “جادة وصريحة وبناءة” أيضًا، مشيرًا إلى أن الاجتماع تطرق إلى “بعض الأفكار المتعلقة بالتفاصيل في مجالي رفع العقوبات عن إيران والبرنامج النووي الذي يحتاج إلى التوصل إلى اتفاق”.

تشير هذه التصريحات من جانب الدول الأوروبية وإيران، والتي جاءت قبل أسبوع فقط من تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، إلى أن مسار منع إيران من امتلاك سلاح نووي لا يزال دبلوماسيًا حتى الآن. ومع ذلك، فإن على الجانب الآخر، يُتوقع بشدة أن يتبنى “ترامب” نهجًا أكثر حزمًا وبعيدًا عن الدبلوماسية فيما يخص برنامج طهران النووي، وهو ما قد يتمثل في فرضه أقصى قدر من العقوبات على إيران أو قصف المواقع النووية الإيرانية عسكريًا بالتعاون مع إسرائيل “وربما الدول الأوروبية”. ويطرح هذا أمامنا التساؤل بشأن مستقبل البرنامج النووي الإيراني ما بين دبلوماسية “الترويكا” الأوروبية وضغوط وتهديدات “ترامب”.

في ظل إصرارها على التمسك بالدبلوماسية، يُعتقد بشدة أن تلعب الدول الأوروبية الثلاث دورًا كبيرًا في سبيل عدم اللجوء إلى الخيار العسكري مع إيران فيما يخص برنامجها النووي خلال فترة الرئيس الأمريكي “ترامب”؛ إذ ستحاول إيران، التي لا تريد هي الأخرى بالطبع هجومًا عسكريًا من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، أن تتقارب بشكل أكبر خلال الفترة المقبلة مع الدول الأوروبية؛ لتجنب هذا السيناريو، ما يعني أن العلاقات الإيرانية الأوروبية في عهد “ترامب” قد تشهد انتعاشًا دبلوماسيًا واضحًا.

ستجد إيران أن الدول الأوروبية الكبيرة هي التي ستوازن كفة الأمور ومجرى الأحداث ما بين احتمالية لجوء ترامب إلى الخيار العسكري وإصرار إيران على فرض شروط بعينها في أي اتفاق نووي قادم، في ظل تمسكها الشديد برفع العقوبات وعدم التطرق للملف الصاروخي وملفها الإقليمي في أي اتفاق نووي مقبل، وهي توجهات يرفضها الرئيس الأمريكي المنتخب. وفي ظل هذه الظروف، ستجد طهران أن الدول الأوروبية الرئيسة هي الجدار المانع أمام طموحات إسرائيل العسكرية فيما يخص الملف النووي الإيراني وما بين تردد “ترامب” حتى الآن في استعمال السلاح ضد برنامج طهران النووي.

وفي هذا الإطار، تنبغي الإشارة هنا إلى أن احتمالات استمرار ترامب في فرض الضغوط على طهران من دون التوصل إلى حل جذري للملف النووي الإيراني خلال ولايته الثانية والأخيرة تُعد ضعيفة، وهي نقطة مهمة للغاية؛ إذ لا يرجح أن يقوم “ترامب” بتكرار نفس سياساته السابقة إزاء إيران خلال ولايته الأولى (2017 – 2021) من حيث فرض ضغوط قصوى على إيران بينما تستمر الأخيرة في برنامجها النووي، كما أن ترامب سوف يواجه أيضًا خلال فترته المقبلة ضغوطًا من جانب إسرائيل التي يُحتمل أن تقتنص الفرصة هذه المرة (مع ولاية ترامب الأخيرة) من أجل التخلص بشكل نهائي من “صداع البرنامج النووي الإيراني” لها.

وعلى هذا النحو، نجد أن طهران ستكون على الأغلب أمام خيارات ثلاثة لتخلص الغرب من التحديات الكبيرة التي يمثلها برنامجها النووي لهم، وهي:

  1. التوصل إلى اتفاق نووي مع تقديم تنازلات “لترامب”:

في ظل توجهات الرئيس الأمريكي المقبل إزاء إيران، يُتوقع أن يقوم “ترامب” في بداية حكمه بفرض عقوبات واسعة النطاق ضد إيران. وفي الوقت نفسه، ستطرح الإدارة الأمريكية في عهده على إيران التوصل إلى اتفاق نووي. وإدراكًا من إيران لأهداف والخيارات المحتملة على مكتب “ترامب” للتعامل مع ملفها النووي، يُحتمل بشكل كبير أن تنخرط في مفاوضات جدية للتوصل إلى اتفاق نووي مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى والصين وروسيا.

وقد عبّرت الحكومة الإيرانية الإصلاحية الحالية، برئاسة مسعود بزشكيان، عن قبولها منذ بداية توليها الحكم العام الماضي للدخول في مفاوضات جادة مع الغرب بشأن ملفها النووي، وقد أكد عليها وزير الخارجية عباس عراقجي والمرشد الإيراني علي خامنئي الذي قال في بداية تولي “بزشكيان” الحكم إنه “لا يوجد عائق أمام التعامل مع” الولايات المتحدة بشأن الملف النووي، وذلك في أغسطس 2024.

وستكون المفاوضات النووية بين إيران والغرب مختلفة هذه المرة عن سابقاتها التي قادت إلى التوصل إلى اتفاق نووي في عام 2015؛ إذ سيكون من المرجح أن تُقدّم إيران تنازلات كبيرة للولايات المتحدة والغرب في سبيل رفع العقوبات عنها في ظل وضع اقتصادي داخلي متدهور، وتجنبًا منها أيضًا لخيارات واشنطن وإسرائيل الأخرى للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني. هذا علاوة على حالة الضعف الإقليمية التي تواجهها إيران في المنطقة بعد إضعاف إسرائيل مؤخرًا لقدرات “حماس” و”حزب الله” العسكرية وسقوط النظام السوري السابق بقيادة بشار الأسد، والذي كان يمثل هو الآخر حلقة رئيسة في إطار ما يُسمى بـ “محور المقاومة”.

يعني هذا أن الكفة هذه المرة ستكون على الأغلب في صالح الولايات المتحدة والدول الأوروبية وليس إيران، ما يقودنا إلى الاعتقاد بشدة بأن إيران قد تقبل بتقديم تنازلات كبيرة في المفاوضات النووية المقبلة، وذلك من قبيل الحد من مستوى تخصيب اليورانيوم بنسبة كبيرة وتقليل عدد ونوعية أجهزة الطرد المركزية أو وقف الأنشطة النووية في المواقع الكبرى مثل “نطنز” و”فوردو”. بل قد تتمسك الإدارة الأمريكية المقبلة بشروط أكثر صرامة إزاء برنامج إيران النووي؛ في ظل تمتعها بـ “فرصة تاريخية” لكبح جماح البرنامج النووي الإيراني مع حالة الضعف التي تعانيها إيران محليًا وإقليميًا.

بل إن ما قد يسهم في إجبار إيران على القبول بمثل هذه التنازلات هي الاحتمالات الواردة لحدوث حالة انفجار سياسي في الداخل الإيراني خلال الفترة المقبلة، من حيث اندلاع احتجاجات واسعة في البلاد لأسباب عدة داخلية، وهو ما دفع القيادات العسكرية مؤخرًا في إيران إلى البدء في تدريب 110 آلاف شخص من قوات الحرس الثوري و”الباسيج” (التعبئة) على مواجهة احتجاجات محتملة، ما يعني أن إيران سوف تسعى إلى تحقيق الاستقرار الداخلي الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحالة العلاقات الإيرانية مع الخارج والتي يجيء الملف النووي من أبرز محركاتها.

وعليه، يصبح من غير المتوقع أن يواصل “ترامب” نفس سياساته السابقة إزاء إيران من حيث فرض عقوبات اقتصادية واسعة النطاق عليها، بينما تستمر في أنشطتها النووية. ولعل من بين مؤشرات التحول في وجهات نظر “ترامب” إزاء ذلك الملف هو تصريحه الذي أدلى به في أكتوبر 2024 حينما حث إسرائيل بشكل كبير على ضرب المنشآت النووية الإيرانية “أولًا وقبل كل شيء” حسب تعبيره.

  • الاستعداد لاحتواء هجوم أمريكي إسرائيلي (وربما أوروبي) ضد عدد من المواقع النووية:

على الرغم من ترجيح احتمال قبول إيران للانخراط في مفاوضات نووية مع الغرب وتقديمها تنازلات في الوقت نفسه، يتبقى هنالك خيار آخر يتمثل في إحجام طهران عن قبول شروط “ترامب” المعهودة للتوصل إلى اتفاق نووي؛ إذ قد تشجع الأجهزة الأمنية والأصوليون النافذون في إيران على رفض مثل هذا الاتفاق؛ وذلك لأسباب متعددة أبرزها أن كثيرًا من الأصوليين النافذين في إيران مستفيدون اقتصاديًا وبشكل كبير من استمرار العقوبات الاقتصادية على بلادهم، كما قد يرفض مثل هذا الاتفاق أيضًا متشددون مناوئون بالأساس للتعامل مع الغرب ومؤيدون لفكرة يطرحها النظام منذ عقود تتمثل في “عدم الثقة في الولايات المتحدة”.

وفي هذه الحالة، سيكون أمام إيران مواجهة الخيار الأكثر صرامة المتمثل في اللجوء إلى العمل العسكري الذي يؤيده ترامب بالأساس وسوف تشجعه عليه إسرائيل في هذه الحالة. فقد تلجأ هذه الأطراف –ومن المتوقع أن يكون بدعم أوروبي- إلى شن هجمات مركزة على أهم المواقع النووية الإيرانية النشطة والفاعلة والمؤثرة؛ من أجل إما إعادة البرنامج النووي الإيراني 10 سنوات إلى الوراء أو إنهائه تمامًا، وإن كان الخيار الأول عمليًا أكثر منه نظريًا على النقيض من الخيار الثاني.

  • اللجوء إلى “تغيير النظام” في إيران:

من الملاحظ خلال الأيام الأخيرة أن بعض الدوائر السياسية في الغرب تكثف الحديث عن مسألة “تغيير النظام” في إيران، وهو الأمر نفسه الذي صرّح به علنًا رئيسُ الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أكثر من مرة خلال الأشهر الماضية. ومن بين مؤشرات ذلك أن دوائر سياسية غربية عقدت مؤتمراتٍ عدة مع أطراف في المعارضة الإيرانية في الخارج خلال الأشهر الماضية بحثت مسألة تغيير النظام، وذلك في الوقت الذي صرح فيه أكثر من مسؤول أمريكي خلال الأشهر والسنوات الماضية بأن واشنطن لا تسعى إلى تغيير النظام في إيران.

ومع ذلك، وعلى أي حال، قد تلجأ جهات أو دول غربية إلى خيار تغيير النظام في إيران من أجل “التخلص النهائي من المشروع النووي الإيراني”، وقد تلجأ إلى ذلك عبر حشد الشارع الإيراني ضد النظام، وهو ما يقودنا إلى نقطة سبقت الإشارة إليها والمتمثلة في بدء تدريب طهران لـ 110 آلاف من العسكريين وشبه العسكريين على كيفية مواجهة احتجاجات محتملة في الداخل خلال الفترة المقبلة.

ختامًا، بعد استعراض السيناريوهات السابقة، يجدر بنا القول إن السيناريو الأكثر ترجيحًا يتمثل في توصل إيران والدول الغربية إلى اتفاق نووي خلال فترة إدارة “ترامب”، وهو اتفاق من المتوقع أن يكون أكثر استدامة وفاعلية من سابقه الذي تم التوصل إليه في 2015. كما أن الدول الغربية الكبرى لا يُعتقد أن تسعى إلى تغيير النظام في إيران، بل تميل إلى أن “يغير النظام في طهران سلوكه داخليًا وخارجيًا” على حد تعبير أكثر من مسؤول أمريكي خلال السنوات الماضية، وهي وجهات نظر تتفق معها أيضًا دول أوروبية عدة.

كاتب

علي عاطف

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى