
استراتيجية الصين لمواجهة سياسات ترامب: التحديات والتوقعات
شكلت الولاية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقطة تحول في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، والتي اتسمت بتصاعد التوترات بشأن بعض القضايا المهمة مثل التجارة والتكنولوجيا وتايوان. حيث فرضت إدارته رسومًا جمركية على سلع صينية بمليارات الدولارات، مما أدى إلى اندلاع حرب تجارية أعادت تشكيل سلاسل التوريد العالمية وتركت آثارًا دائمة على كلا الاقتصادين. وفي الوقت نفسه، عمق “ترامب” العلاقات الأمريكية مع تايوان، ووافق على مبيعات أسلحة كبيرة وأرسل مسؤولين رفيعي المستوى إلى تايبيه، وهي خطوات اعتبرتها بكين تحديات مباشرة لسيادتها.
ومع اقتراب تنصيب ترامب بولاية جديدة بعد أيام قليلة في البيت الأبيض، تثار أسئلة حول: كيف ستتعامل الصين مع جولة أخرى من السياسات الأمريكية العدوانية؟ هل تستطيع بكين تخفيف الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية مع حماية طموحاتها الإقليمية والعالمية؟ هذه الأسئلة ذات دلالة كبيرة، ليس فقط لاستقرار الصين الاقتصادي ونفوذها الجيوسياسي ولكن أيضا للديناميكيات المتطورة للنظام الدولي الذي يتشكل بوتيرة متزايد من خلال التنافس بين واشنطن وبكين.
مواجهة الحمائية الأمريكية
تجلب إعادة انتخاب دونالد ترامب لولاية رئاسية ثانية معها احتمالات تجدد السياسات الحمائية، مع التركيز على التعريفات الجمركية والحواجز التجارية التي تهدف إلى الحد من صعود الصين الاقتصادي. وخلال فترة ولايته الأولى، استهدف “ترامب” الصادرات الصينية بتعريفات جمركية شاملة، متهمًا بكين بممارسات تجارية غير عادلة وسرقة الملكية الفكرية. ولم تؤد هذه التدابير إلى إجهاد التجارة الثنائية فحسب، بل أدت أيضًا إلى تعطيل الأسواق العالمية. ومن المرجح أن تؤدي عودة “ترامب” إلى مثل هذه السياسات إلى إعادة التوترات الاقتصادية، الأمر الذي قد يجبر الصين على إعادة تقييم استراتيجياتها لإدارة العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة.
وردًا على التدابير الحمائية المتجددة، من المرجح أن تستفيد الصين من مجموعة أدواتها الاقتصادية واسعة النطاق. ومن بين الأساليب الرئيسة الانتقام من التعريفات الجمركية المستهدفة على السلع الأمريكية، مع التركيز على قطاعات مثل الزراعة والتصنيع لممارسة الضغط السياسي. وفي الوقت نفسه، قد تكثف بكين جهودها لتنويع شراكاتها التجارية، وتعزيز العلاقات مع الأسواق الناشئة والحلفاء الإقليميين من خلال مبادرات مثل مبادرة الحزام والطريق واتفاقيات مثل الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة. ومن شأن هذا التنوع أن يقلل من اعتماد الصين على التجارة الأمريكية مع توسيع نفوذها الاقتصادي العالمي.
وللتغلب على تأثير التعريفات الجمركية الأمريكية التي قد تنشأ، من المتوقع أيضًا أن تضاعف الصين جهودها لتعزيز قدراتها الإنتاجية المحلية. ومن المرجح أن تحتل السياسات التي تعزز الاعتماد على الذات في الصناعات الحيوية، مثل التكنولوجيا والطاقة، مركز الصدارة. ومن شأن الاستثمارات في التصنيع المتقدم والابتكار أن تضع الصين في موقف أكثر مرونة كلاعب عالمي وأقل عرضة للضغوطات الخارجية. ومن خلال تعزيز السوق الداخلية القوية وتسريع الإصلاحات الاقتصادية، تهدف الصين إلى التخفيف من مخاطر حرب تجارية مطولة مع الحفاظ على مسارها كقوة اقتصادية عالمية رائدة.
مسألة تايوان
قد تشير عودة دونالد ترامب إلى فصل جديد في العلاقات بين الولايات المتحدة وتايوان، يتميز بتعزيز العلاقات العسكرية والدبلوماسية. فخلال فترة ولايته الأولى، وافقت إدارة “ترامب” على مبيعات أسلحة كبيرة لتايوان، وأرسلت مسؤولين رفيعي المستوى إلى تايبيه، وأصدرت تشريعات مثل قانون السفر إلى تايوان، الذي شجع التبادلات الرسمية. شجعت هذه الإجراءات رؤية تايوان العالمية في حين تحدت سياسة “الصين الواحدة” التي تنتهجها بكين. وفي ظل رئاسة ترامب الثانية، قد تؤدي تحركات مُماثلة أو مشددة إلى تفاقم التوترات، مما يجبر الصين على إعادة تقييم نهجها في الدفاع عن مطالباتها الإقليمية.
وردًا على العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة وتايوان، من المرجح أن تتبنى الصين موقفًا عسكريًا أكثر حزمًا في مضيق تايوان. وقد يشمل هذا زيادة التدريبات العسكرية، ونشر الأسلحة المتقدمة، والعمليات البحرية بالقرب من تايوان لردع ما تعتبره أعمالًا استفزازية. وقد تعمل بكين أيضًا على تعزيز قدراتها في مجال منع الوصول/منع دخول المنطقة لتحدي الوجود البحري الأمريكي في المنطقة. وتهدف مثل هذه التدابير إلى الإشارة إلى عزم الصين على الحفاظ على السيادة على تايوان مع ثني الولايات المتحدة عن المزيد من التدخلات.
إلى جانب الاستجابات العسكرية، قد تصعد الصين استراتيجياتها الدبلوماسية والاقتصادية. وقد تكثف جهودها لعزل تايوان دوليًا من خلال الضغط على البلدان والمنظمات لقطع العلاقات الرسمية. ومن الناحية الاقتصادية، قد تفرض بكين قيودًا على الشركات التايوانية العاملة في البر الرئيس للصين أو تستهدف الشركات الأمريكية التي تشارك في مبيعات الأسلحة إلى تايوان. بالإضافة إلى ذلك، قد تستغل الصين نفوذها في التجارة العالمية والمنظمات متعددة الأطراف لتحدي التعاون بين الولايات المتحدة وتايوان؛ سعيًا إلى حماية سلامة أراضيها مع الحفاظ على مكانة دولية قوية.
التكنولوجيا والأمن
تُشكل الضغوط الأميركية المستمرة على شركات التكنولوجيا الصينية سمة مُميزة للتنافس الجيوسياسي. فخلال رئاسته الأولى، نفذ دونالد ترمب تدابير شاملة تستهدف الشركات الصينية، مثل “هواوي” و”تيك توك”، مستشهدا بمخاوف الأمن القومي. وشملت هذه الإجراءات القيود التجارية، وإدراج الشركات في القائمة السوداء، والضغط على الحلفاء لاستبعاد التكنولوجيا الصينية من البنية الأساسية الحيوية مثل شبكات الجيل الخامس. وقد تعمل إدارة “ترامب” في حقبتها الثانية على توسيع نطاق هذه التدابير، مما يخلق المزيد من التحديات لطموحات الصين التكنولوجية ويزيد من التوترات في النظام التكنولوجي العالمي.
ردًا على القيود الأمريكية المستمرة، تسعى الصين لتعزيز استقلالها التكنولوجي من خلال سياسات مثل “صنع في الصين 2025″، التي تركز على الابتكار المحلي في مجالات حيوية مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة. وبالاستثمار في البحث والتطوير وتطوير المهارات المحلية، تهدف بكين إلى تقليل اعتمادها على التقنيات الأجنبية. كما تركز على دعم شركات التكنولوجيا الكبرى المدعومة من الدولة وتطوير صناعة أشباه الموصلات، لضمان قدرتها على مواجهة الضغوط الخارجية والاستمرار في تقدمها التكنولوجي.
وتحت الضغط الأمريكي، سعت الصين إلى تعزيز قدراتها العسكرية والأمنية بجانب التقدم في التكنولوجيا المدنية. وتشمل هذه الجهود تقنيات متقدمة مثل الحوسبة الكمومية والأسلحة المستقلة، حيث تستخدم الصين التقنيات ذات الاستخدام المزدوج لتقوية دفاعها الوطني وصد استراتيجيات الاحتواء الأمريكية. وهذا التكامل بين التكنولوجيا والقدرات العسكرية يعكس عزيمة الصين على حماية سيادتها وتعزيز نفوذها العالمي في بيئة أمنية متزايدة التوتر.
موازنة القوة العالمية والإقليمية
في ظل الأحادية الأمريكية التي قد تتجدد في ظل رئاسة ترامب الثانية، قد تعمل الصين في مواجهة ذلك على تعميق تحالفاتها مع روسيا وإيران لموازنة النفوذ الأمريكي. وتؤكد الجهود التعاونية مثل الشراكات في مجال الطاقة، وصفقات الأسلحة، والتنسيق الاستراتيجي في المنتديات مثل “منظمة شنغهاي للتعاون” على مصالحهما المشتركة في تحدي الهيمنة الأميركية. ولا تعمل هذه التحالفات على تعزيز النفوذ الجيوسياسي للصين فحسب، بل إنها تقدم أيضًا فوائد متبادلة في التحايل على العقوبات الغربية وتعزيز الأطر الاقتصادية البديلة، مثل “إزالة الدولرة” في التجارة. ومن خلال التحالف مع الدول التي تشترك معها في معارضتها لهيمنة الولايات المتحدة، تسعى الصين إلى خلق كتلة نفوذ قادرة على إعادة تشكيل ديناميكيات القوة الإقليمية والعالمية.
على النقيض من ميول “ترامب” الأحادية، من المرجح أن تؤكد الصين على التعددية باعتبارها حجر الزاوية في استراتيجيتها العالمية. كما أن قيادة بكين لمؤسسات مثل مجموعة البريكس، والشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، ومبادرة الحزام والطريق، تظهر التزامها بتعزيز التعاون الدولي الشامل. ومن خلال تعزيز الأطر التي تعطي الأولوية لاتخاذ القرار الجماعي والنمو العادل، تهدف الصين إلى وضع نفسها كقوة استقرار في عالم يسوده الاستقطاب. ولا تعمل هذه الجهود على تعزيز مصداقيتها الدبلوماسية فحسب، بل تعمل أيضًا كثقل موازن لنهج الولايات المتحدة القائم على العمل منفردة، مما قد يعزز دور بكين كرائد للترابط العالمي.
ختامًا، يُمكننا القول إن الصين تمتلك استراتيجية مُتعددة الأوجه، وهذه الاستراتيجية تُعطيها القدرة على إعادة تشكيل العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة بشكل كبير. ومن خلال مواجهة الضغوط الأمريكية من خلال العلاقات الاقتصادية المتنوعة والاستقلال التكنولوجي والتحالفات المعززة، يمكن لبكين أن تقلل من تعرضها للنفوذ الأمريكي مع تعزيز النظام العالمي متعدد الأقطاب. وقد يؤدي هذا النهج إلى تصعيد المنافسة، مما يدفع الولايات المتحدة إلى تبني سياسات أكثر عدوانية، ولكنه في الوقت ذاته يفتح أيضًا مسارات تلاقٍ إذا ظهرت مصالح متبادلة. وعلى الصعيد العالمي، قد يؤدي تركيز الصين على التعددية والتعاون الإقليمي إلى إضعاف هيمنة الأنظمة التي تقودها الولايات المتحدة، وتمكين الاقتصادات الناشئة وتغيير توازن القوى. وفي الأمد البعيد، قد تؤدي هذه الديناميكية إلى مزيد من الاستقطاب أو تحفيز تطوير أطر جديدة للتعايش والتعاون بين القوتين.
المصادر:
Financial Times, “Letter: China is ill-equipped to fight a tariff war”, https://www.ft.com/content/935882b4-bc24-4594-819b-96012ec38c47?utm_source=chatgpt.com
The Times, “How Trump’s tariff threats are already distorting trade”, https://www.thetimes.com/business-money/economics/article/how-trumps-tariff-threats-are-already-distorting-trade-6ff7n0kb7?utm_source=chatgpt.com®ion=global
Congressional Research Service, “Taiwan: Background and U.S Relations”, https://crsreports.congress.gov/product/pdf/IF/IF10275
Reuters, “(OFFICIAL) China has been causing ‘chaos’, Taiwan official says ahead of keynote address”, https://www.reuters.com/world/asia-pacific/taiwan-president-is-escalating-tensions-china-says-ahead-key-speech-2024-10-09/
Centre for Economic Policy Research, “US entity list restrictions slow the innovation of Chinese firms and their US collaborators”, https://cepr.org/voxeu/columns/us-entity-list-restrictions-slow-innovation-chinese-firms-and-their-us-collaborators
Bloomberg, “Almost 10 Years Later, China’s ‘Made In 2025’ Has Succeeded”, https://www.bloomberg.com/news/articles/2024-10-31/almost-10-years-later-china-s-made-in-2025-has-succeeded
Global Times, “China takes countermeasures against US military firms, executives”, https://www.globaltimes.cn/page/202412/1324430.shtml
Global Times, “China’s top diplomat urges SCO members to maintain strategic autonomy; do not allow external forces to turn region into geopolitical arena”, https://www.globaltimes.cn/page/202405/1312733.shtml
BRICS Journal of Economics, “Global Economic Integration: How do ASEAN and BRICS organizations contribute to the process?”, https://brics-econ.arphahub.com/article/121010/