أسواق وقضايا الطاقة

توقعات مستقبلية: هل تعيد كابلات الطاقة البحرية تشكيل مستقبل أمن الطاقة العالمي؟

تشير تقنية الطاقة الخضراء إلى مصادر الطاقة المتجددة التى لا تضر بالبيئة، مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الكهرومائية والطاقة الحرارية الأرضية. هذه المصادر ليست أنظف فحسب، بل إنها أيضًا أكثر استدامة بكثير من الطاقة الأحفورية ذات الإمدادات المحدودة والمسببة بشكلٍ كبير للتغيرات المناخية. فيما أسهم التقدم فى تكنولوجيا الطاقة الخضراء في جعلها أكثر سهولة وفاعلية من حيث التكلفة، مما يعنى أن لدينا الآن بديلًا قابلًا للتطبيق لمصادر الطاقة التقليدية غير المتجددة. ومع تزايد القلق بشأن التغيرات المناخية، فإن الإستثمار فى تكنولوجيا الطاقة الخضراء ليس مفيدًا للبيئة فحسب، ولكنه أيضًا خطوة ذكية لجميع دول العالم.

الاهتمام الدولي والإقليمي بالطاقة النظيفة والخضراء غير مدفوع بمساعي تجنب تداعيات التغيرات المناخية الحادة فحسب، بل إن البعد السياسي والحاجة إلى تحقيق استقلالية الطاقة يشكلان محددًا رئيسًا في عمليات التحول الأخضر. غير أن هذا التحول نحو الطاقة النظيفة لا يبدو مهمة سهلة، لأنه أصبحت هناك ضرورة ملحة لمعدات موثوقة، أبرزها ما يتعلق بكابلات الطاقة النظيفة والمتجددة، والتي تُسهم في عمليات تجميع ونقل الطاقة.

شهدت خريطة الطاقة العالمية تحولات كبيرة خلال السنوات الماضية مدفوعةً بمجموعة من العوامل المتداخلة، منها: التغيرات في الأنماط الاستهلاكية، والتطورات التكنولوجية، والمتغيرات الجيوسياسية. ومن المتوقع أن تشهد المزيد من التغيرات الجذرية في العقود المقبلة؛ فمع تزايد الوعي بأهمية الاستدامة البيئية، تتجه الدول نحو تبني مصادر طاقة متجددة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري.

ولقد أضحى ملف الطاقة قضية محورية، ويشكل تحقيق أمن الطاقة في العالم أمرًا حيويًا لحماية الأمن القومي لدول العالم، في وقت يعيش فيه العالم تحديين رئيسين؛ الأول: الارتفاع المتزايد في الطلب على الطاقة وتذبذب أسعارها (النفط ومشتقاته والغاز الطبيعي)، والثاني: التغيرات المناخية الحادة التي يشهدها العالم في الوقت الراهن.

في السنوات الأخيرة، تزايدت الدعوة الدولية لإنشاء شبكة طاقة بحرية تربط جميع قارات العالم من خلال مد آلاف الأميال من كابلات الطاقة الخضراء البحرية، وبدأت شبكات كابلات الطاقة الخضراء في جميع أنحاء قاع البحر والمحيطات لأن هذه الآلية أصبحت أحد الحلول لأزمة تغير المناخ. وعليه يمكن القول إنه من الممكن أن تصبح هذه الكابلات الخضراء أداة مهمة في تسريع عملية التحول إلى الطاقة النظيفة. ولذلك، وبهدف تحقيق التحول الأخضر، يسعى عديد من دول العالم إلى الاستثمار في هذه الشبكات وصياغة علاقات جديدة فيها، مما يمهد الطريق لإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه من المتوقع أن معظم حروب الطاقة المستقبلية سوف تتركز في أعماق البحار والمحيطات.

يواجه المشهد الدولي والإقليمي في ملف الطاقة العديد من التحديات والتحولات الهائلة، وذلك في ظل التطورات والأحداث الجيوسياسة المتغيرة. ولا ترتبط هذه التحولات فقط بإعادة صياغة مفاهيم طرق الإنتاج المختلفة وأنماط استهلاك الطاقة، ولكن بشكل عام ستؤثر على صناعات مكونات الطاقة النظيفة المختلفة، بما في ذلك صناعة الكابلات البحرية المنوطة بنقل الطاقة الخضراء.

وعليه، تنطوي التحركات الدولية والإقليمية الراهنة في مجال كابلات الطاقة البحرية على بعض ملامح التنافس العالمي المحتمل في صناعة الكابلات البحرية. وتماشيًا مع خريطة الطاقة الجديدة، فإن عمليات نقل الطاقة الخضراء تحت البحار والمحيطات تُشكل أحد أهم ملامح تلك الخريطة الناشئة؛ ففي ظل الاعتماد الكلي في نقل هذه النوعية من الطاقة على الكابلات البحرية، تتجه المنافسة العالمية والإقليمية المقبلة في صناعة الطاقة إلى تحت سطح البحر.

شهدت السنوات الماضية تسارعًا ملموسًا في تسريع عمليات التحول نحو الطاقة المتجددة، وتقليل الاعتماد عل الطاقة الأحفورية والتوجه نحو الطاقة الخضراء، وهو ما تجسد بوضوح في الأهداف الطموحة التي وضعتها دول العالم بهدف خدمة سياساتها الجديدة الرامية إلى الحد من التغيرات المناخية، مع ضرورة تعزيز مفهوم أمن الطاقة وتنويع مصادرها. وعليه، جاءت الحرب الروسية الأوكرانية بالإضافة إلى تداعيات الحرب على غزة لتؤكد ضرورة تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري. ويتسق هذا الطرح مع تقديرات وكالة الطاقة الدولية التي توقعت نموًا في سعة الطاقة المتجددة بنحو 2400 جيجاوات بحلول عام 2027.

هنا تجدر الإشارة إلى أنه هناك توقعات دولية بارتفاع الطلب على الطاقة المتجددة والنظيفة بنسبة حوالي 446% وذلك بحلول عام 2050. وعليه، استحوذت الصين على نحو نصف الاستثمار العالمي القياسي البالغة قيمته 358 مليار دولار في الطاقة المتجددة في النصف الأول من عام 2024، وذلك بفضل وحدات الطاقة الأقل تكلفة، وقوة سوق الطاقة الكهروضوئية، بالإضافة إلى أن العالم يستهدف زيادة حوالي 63% في مستهدفات إنتاج الطاقة المتجددة والنظيفة،  كما هو موضح في الشكل التالي.

استكمالًا لما سبق، إن الحاجة إلى إزالة الكربون لم تكن أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، وعلى مدى هذا العقد، يتعين على العالم أن يفطم نفسه عن الوقود الأحفوري، ويسعى إلى تقليل التبعية المطلقة للطاقة السوداء وأن يخفض انبعاثاته الكربونية بنسبة حوالي 45%، إذا كان راغبًا في الحد من التغيرات المناخية.

تُشكل الكابلات البحرية القاعدة الأساسية لنقل الطاقة الخضراء، وذلك من خلال ربط أنظمة الطاقة القائمة في دولة ما بأخرى، ويُطلق عليها الموصلات وذلك مع إمكانية منح شبكات الدول المختلفة الفرصة للعمل كنظام طاقة واحد. بالإضافة إلى استخدام فوائض الطاقة الخضراء في دول أو مناطق مختلفة ومحددة لتعويض نقص قدرات الطاقة في مناطق أخرى. هنا تجدر الإشارة إلى أن مستويات الطلب على الكابلات البحرية المنوطة بنقل الطاقة قد ارتفعت من حوالي 3.1 مليارات دولار في الفترة 2014-2021، إلى حوالي 11.1 مليار دولار في عام 2023، مع توقعات أن تصل إلى حوالي 33 مليار دولار بحلول عام 2030.

استنادًا إلى ذلك، من المتوقع أن تصبح الكابلات البحرية أداة حاسمة لتسريع استيعاب قدرات الطاقة المتجددة خلال السنوات القليلة المقبلة، وتمتد كابلات الطاقة بين عدة دول مختلفة، وأغلبها من الدول المجاورة المتحالفة، لا تحمل جميعها طاقة متجددة حصريًا، ويتم تحديد ذلك من خلال ما تشكله شبكة الطاقة في دولة، ولكن عادةً ما يتم بناء شبكات جديدة لمستقبل الطاقة الخضراء.

علاوة على ذلك، في إطار التحول المتزايد نحو نشر الطاقة الخضراء والنظيفة، وبالتالي كان من الضروري أن يكون هناك توجه يخدم هذا التحول. وعليه، كان الاهتمام المتنامي بصناعة الكابلات البحرية المنوطة بنقل الطاقة الخضراء عبر البحار والمحيطات، حيث تستخدم الكابلات البحرية الناقلة للطاقة الخضراء موصلات نحاسية محاطة بطبقات متعددة من سبائك الرصاص وأغلفة من “البولي إيثيلين” (مغطاة بدروع متعددة من الأسلاك الفولاذية المجلفنة)؛ وذلك بهدف حماية الأجزاء الداخلية للكابلات والمكونات المسؤولة عن توصيل الطاقة، مما يسمح بتحمل الظروف المختلفة ومن ضمنها عمليات التركيب والتشغيل تحت المياه والضغوط المختلفة في الأعماق المختلفة.

تهدف كابلات الطاقة الخضراء البحرية الوصول إلى نقطة التوازن بين أنظمة الطاقة المختلفة بين دول الربط وبالتالي تحقيق أقصي استفادة مشتركة من تلك الأنظمة، في ظل النمو المتزايد على مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، وعليه باتت عمليات تبادل الطاقة ضرورة ملحة ومتزايدة. وعلى سبيل المثال، أعلنت الدنمارك وبريطانيا اكتمال مشروع الربط الكهربائي البحري بين البلدين، الذي من شأنه أن يوفر إمدادات موثوقة من الطاقة لنحو 1.4 مليون منزل في المملكة المتحدة. حيث اكتمل، يوم الثلاثاء 18 يوليو 2023، مد الجزء الأخير من الكابل البحري “فايكنج لينك” لتيار الجهد العالي المستمر، الذي يربط شبكتي الكهرباء في المملكة المتحدة والدنمارك. ويُعد مشروع الربط الكهربائي البحري، الذي يمتد بطول حوالي 764 كيلومترًا، خط ربط عالميًا مستمرًا يحطم الرقم القياسي بين البلدين. ويربط الكابل البحري “فايكنج لينك” قرية بيكر فين في مقاطعة لينكولنشاير بالمملكة المتحدة مع شبه جزيرة جوتلاند في الدنمارك.

علاوة على ذلك، يسعى مشروع “صن كيبل” إلى إرسال الطاقة الشمسية من أستراليا إلى دولة سنغافورة الواقعة في جنوب شرق آسيا، والتي تتمتع أيضًا بوفرة في أشعة الشمس ولكن مساحة مزارع الطاقة الشمسية فيها صغيرة. كما تُخطط الهند والمملكة العربية السعودية لربط شبكات الطاقة الخاصة بهما عبر بحر العرب، كجزء من خطة الممر الاقتصادي الأوسع لربط آسيا والشرق الأوسط وأوروبا.

تبدو الكابلات البحرية، وغيرها من البنية التحتية تحت سطح البحر كخطوط أنابيب النفط الخام والغاز الطبيعي، معرضة للعديد من التهديدات والمخاطر سواء بسبب التنافس العالمي والإقليمي الحاد حول الهيمنة على مفاتيح تلك الصناعة الاستراتيجية، أو لتصاعد الاستهدافات والهجمات المتكررة التي تستهدف الكابلات البحرية والخطوط المختلفة. وقد كشفت الحوادث المتعددة خلال السنوات الماضية كيف أصبحت الكابلات البحرية محورًا مهمًا في الاقتصاد العالمي وصناعة الطاقة؛ إذ إن طبيعة وحجم البنية التحتية تحت سطح البحر عوامل قد تجعل من الصعب توفير أجهزة الحماية اللازمة لتلك الكابلات البحرية والتي تمتد لمسافات طويلة في بيئة صعبة وقاسية، وباتت تشكل هدفًا رئيسًا لحروب المنطقة الرمادية الغامضة والتي من الممكن أن تصل إلى مستوى حروب الطاقة الشاملة.

لكن رغم قدم هذه الحروب فإن طبيعة النظام العالمي والإقليمي الراهن تجعل الحروب الحالية مختلفة بشكل كبير عن الأنماط المختلفة لهذا النمط من الحروب (حروب الكابلات البحرية تحت سطح البحر)، حيث بات العالم أكثر اتصالًا من السابق ويتم الاعتماد في نقل الطاقة بشكل عام، وبالأخص النفط الخام والغاز الطبيعي، ناهيك عن الإنترنت، على البنية التحتية في أعماق البحار والمحيطات. وعليه، فأي هجوم يستهدف هذه البنية التحتية في دولة ما أو منطقة ستكون له تداعيات حادة على بقية دول ومناطق العالم الأخرى.

استنادًا إلى ما سبق، بدأ العديد من الدراسات والأبحاث المختلفة تطرح مفهوم حرب كابلات الطاقة البحرية، ولتعكس بذلك العديد من الأبعاد المختلفة والتي من ضمنها: التنافس الحاد بين بكين وواشنطن حول صناعة الطاقة الخضراء والنظيفة ومحاولة كل طرف فرض الهيمنة الشاملة على تلك الصناعة الاستراتيجية وبالتالي كافة محاور الصناعة ومنها كابلات الطاقة الخضراء العابرة للبحار والمحيطات. بينما ينطوي البعد الآخر على تصاعد التهديدات والاستهدافات المختلفة التي باتت تستهدف هذه الكابلات في السنوات القليلة الماضية.

وعليه يمكن القول إن الغموض الذي يسيطر على البيئة البحرية والظروف الحادة تحت سطح البحر يجعل من البنية التحتية بما في ذلك كابلات الطاقة الخضراء البحرية أهدافًا استراتيجية ومغرية للحروب، ويزداد الأمر تعقيدًا وخطورة في ظل سهولة عمليات استهداف هذه الكابلات والبنية التحتية، وفي الوقت نفسه صعوبة تحديد أو إثبات ذلك.

والجدير بالذكر، تُعد الصين من الدول النشطة في تطوير شبكات كابلات الطاقة البحرية والمنوطة بنقل الطاقة الخضراءُ والتي تُمثل المكون الرئيس في معادلة الطاقة المتجددة والخضراء، لذا تمتلك بكين شبكة هائلة من الكابلات البحرية عالية الجهد، والتي تمتد لمسافات بعيدة عبر القارات المختلفة، والتي تهدف إلى الربط العالمي للطاقة النظيفة، وتُعد ضمن أدوات الصين للسيطرة على الاقتصاد العالمي.

في المقابل، تسعى الولايات المتحدة إلى الهيمنة العالمية واللحاق بالصين في تلك الصناعة الاستراتيجية، ولذلك وضعت واشنطن خطة للوصول إلى السيطرة على المعادن الحرجة ذات الأهمية الكبيرة في صناعة الطاقة المتجددة والنظيفة. كذلك تعمل الولايات المتحدة الأمريكية مع دول الاتحاد الأوروبي على فرض تعريفات جمركية على الألواح الكهروضوئية الصينية في إطار الحرب الاقتصادية الراهنة بين واشنطن وبكين، حيث تُمثل التحركات الصينية في صناعة الطاقة النظيفة ومكوناتها، بالإضافة إلى أدوات نقلها، وبالأخص كابلات الطاقة البحرية حالة من القلق المتزايد لدى واشنطن.

من المسلم به هنا وجود العديد من العوامل التي تُسهم في دمج الطاقة المتجددة، مثل المكاسب الاقتصادية (الوظائف الجديدة المرتبطة بتطوير الموارد المتجددة وإمكانات تصديرها)؛ التدهور البيئي (التلوث وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن استخدام الوقود الأحفوري)؛ استنزاف الموارد غير المتجددة (لن تتمكن المصادر المعروفة المتبقية، مثل النفط الخام، من تلبية احتياجات الطاقة المستقبلية)؛ والدوافع السياسية (رغبات الحكومات في قيادة الحركات العالمية للطاقة النظيفة)، من بين أمور أخرى.

خلاصة القول، باتت كابلات الطاقة البحرية والمنوطة بنقل الطاقة الخضراء أداة رئيسة في عمليات التحول الطاقي نحو الطاقة النظيفة والمتجددة وتنويع مصادر الطاقة، مع خفض معدلات الاعتماد على الطاقة الأحفورية. علاوة على ذلك، تٌسهم الكابلات البحرية العابرة للبحار والمحيطات في انتقال الطاقة، بحيث تسمح للدول التي تعاني من ارتفاع تكلفة الطاقة بشراء طاقة أرخص من دول أخري. وتجدر الإشارة إلى أن كابلات الطاقة الخضراء تُعد آلية مهمة لحل إشكالية تخزين الطاقة المتجددة وتوافرها بشكل مستدام بسبب اعتمادها على الرياح وأشعة الشمس (لم تصل تقنيات تخزين الطاقة المتجددة إلى المثالية حتي الآن)، مما يعني الحاجة إلى نقل الطاقة الزائدة إلى مناطق استهلاكية أخري تشهد طلب داخلي على الطاقة. بالإضافة إلى توافر العمليات العكسية لنقل الطاقة وذلك حال تراجع إنتاجها فى المنطقة الأولي.

د. أحمد سلطان

دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى