الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024الأمريكتان

السيطرة الكاملة؟: دلالات وتداعيات الفوز الكاسح للحزب الجمهوري في الانتخابات الأمريكية

حقق الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب فوزًا كاسحًا في الانتخابات الرئاسية التي عُقدت في 5 نوفمبر 2024، حيث انتصر على نائبة الرئيس والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في كافة الولايات المتأرجحة، محققًا حصيلة إجمالية 312 صوتًا في المجمع الانتخابي مقابل 266 صوتًا فقط “لهاريس”.  ولكن لم تتوقف انتصارات الحزب الجمهوري عند هذا الحد؛ ففي ظل استمرار فرز الأصوات لانتخابات الكونجرس الأمريكي، يظهر انتصار الحزب الجمهوري بالأغلبية في مجلس الشيوخ حيث حصل إلى الآن على 52 مقعدًا من أصل 100 مقعد، وبالرغم من أنه لم يحقق الأغلبية بعد في مجلس النواب فإنه حصل إلى الآن على 216 مقعدًا، من أصل 435، مما يعني أنه يحتاج إلى خمسة مقاعد أخرى فقط للفوز بالأغلبية، في ظل حصول الحزب الديمقراطي إلى الآن على 209 مقاعد فقط.

أسس دستور الولايات المتحدة هيئة تشريعية ثنائية المجلس بأدوار وإجراءات انتخابية مميزة لمجلس النواب والشيوخ. يتألف مجلس النواب، الذي يهتم في المقام الأول بالقضايا المتعلقة بالضرائب والميزانية، من أعضاء منتخبين من الدوائر الانتخابية المخصصة لكل ولاية. يخدم الأعضاء لمدة عامين، مع انتخاب جميع المقاعد البالغ عددها 435 مقعدًا كل عامين. على النقيض من ذلك، يعمل مجلس الشيوخ كغرفة عليا ويتألف من عضوين في مجلس الشيوخ من كل ولاية، بغض النظر عن عدد السكان، بإجمالي 100 عضو. يخدم أعضاء مجلس الشيوخ لمدة ست سنوات، مع انتخاب ما يقرب من ثلث أعضاء مجلس الشيوخ كل عامين. يساعد نظام الانتخابات المتدرج هذا في الحفاظ على الاستمرارية في الحكم.

وأجريت أول انتخابات للكونجرس في عام 1789. خلال هذه الفترة، تنافس الحزب الفيدرالي ومعارضه، الحزب الديمقراطي الجمهوري، على السيطرة. ومع ذلك، لم تكن الأحزاب منظمة مثل تلك التي نراها في العصر الحديث، ولعبت سياسة الائتلاف دورًا كبيرًا. وبعد الحرب الأهلية، اكتسب الحزب الجمهوري مركزًا قويًا، وخاصة في الشمال. وعززت قوانين إعادة الإعمار نفوذ الجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ، مما أدى إلى تغييرات تشريعية كبيرة، بما في ذلك إقرار قانون الحقوق المدنية لعام 1866. من ثم انتقلت السيطرة بين الديمقراطيين والجمهوريين عدة مرات، بينما هيمن الجمهوريون خلال أواخر القرن التاسع عشر، وكان مجلس الشيوخ جمهوريًا في المقام الأول حتى استعاد الديمقراطيون السيطرة في أوائل القرن العشرين.

ولا يعد هذا الاكتساح لحزب واحد للمشهد الانتخابي هو الأول من نوعه؛ ففي عام 1932أدى انتخاب فرانكلين د. روزفلت إلى أغلبية ديمقراطية غير مسبوقة في كلا المجلسين، مما سهل تنفيذ الصفقة الجديدة، وهي سلسلة من البرامج التي تهدف إلى التعافي الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي. واحتفظ الديمقراطيون بسيطرة كبيرة طوال ثلاثينيات القرن العشرين وحتى منتصف أربعينيات القرن العشرين. لكن شهد المشهد السياسي تحولًا تدريجيًا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث اكتسب الجمهوريون السيطرة في الخمسينيات. وبعد اغتيال الرئيس جون ف. كينيدي، فاز ليندون ب. جونسون، وهو ديمقراطي، بالرئاسة وحصل حزبه أيضًا على أغلبية كبيرة في كلا المجلسين.

ولكن كان انتخاب رونالد ريجان في عام 1980 بمثابة إشارة إلى عودة الجمهوريين، ومن بعدها، طوال تسعينيات القرن العشرين، تناوبت السيطرة بين الحزبين، وبلغت ذروتها باستيلاء الجمهوريين على مجلس النواب في عام 1994، لأول مرة منذ 40 عامًا.

اتسمت انتخابات أوائل القرن الحادي والعشرين بالاستقطاب والتنافس. واستعاد الديمقراطيون السيطرة على كلا المجلسين بعد انتخابات عام 2006، متأثرين بتبعات حرب العراق والقضايا الاقتصادية. وعززت انتخابات عام 2008، مع باراك أوباما على رأس القيادة، هيمنة الديمقراطيين، التي تضاءلت في السنوات اللاحقة مع استعادة الجمهوريين السيطرة في عام 2010. ولكن استعاد الحزب الديمقراطي السيطرة على المجلسين بعد الانتخابات، حيث فاز جو بايدن بالرئاسة وحقق الديمقراطيون أغلبية في مجلس النواب وتعادلًا 50-50 في مجلس الشيوخ، مع حصول نائبة الرئيس كامالا هاريس على التصويت الفاصل.

بالرغم من أن اكتساح الحزب الجمهوري في هذه الانتخابات ليس الأول من نوعه فإن ما نشهده حاليًا مازال فريدًا من نوعه، خاصة وأن مشهد الاستقطاب والانقسام الكبير طوال الفترة التي سبقت الانتخابات كان يشير إلى تقارب فرص الحزبين، إلا أن ما حدث على أرض الواقع هو اكتساح واضح في كل الانتخابات. أيضًا من المهم أخذ الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم في الاعتبار؛ ففي ظل انتشار الصراعات والأزمات بأشكالها المختلفة على مستوى العالم وهو ما تنتج عنه مشاكل داخلية تولد انقسامًا حول كيفية التعامل معها، من المفترض أن يكون المشهد متقاربًا، وهو ما كان ظاهرًا في استطلاعات الرأي قبل الانتخابات بشكل واضح، قبل ظهور النتائج.

وفي محاولة تفسير المشهد نجد بعض الأسباب المرجحة للتوجه العام نحو الجمهوريين، ومن الممكن اعتبار النفور من الديمقراطيين بشكل عام، بعد مرور 4 أعوام من الإدارة غير الناجحة والإخفاق في عدة ملفات هو السبب الرئيس لهذا المشهد. لكن هناك بعض الأسباب الأخرى التي من الممكن أن تكون ساعدت على حصول الحزب الجمهوري على الأغلبية في كل الانتخابات؛ فعلى سبيل المثال، في ظل تصريحات “ترامب” حول بعض خططه المثيرة للجدل، كحملات الترحيل الضخمة وإلغاء وزارة التعليم وغيرها، التي انتقدها البعض ولكن من الواضح أنها أقنعت الأغلبية، من الممكن أن يفكر بعض الناخبين الذين صوتوا لترامب في التصويت لمرشحي الحزب الجمهوري في مجلسي النواب والشيوخ لضمان تنفيذ هذه الخطط التي اعتبرها الكثير الوسيلة الوحيدة لإصلاح الأزمات الداخلية الأمريكية.

اما بالنسبة للنتائج المتوقعة لمثل هذا الوضع، فيمكننا استنتاج الاتجاهات المحتملة بناءً على تصرفات إدارته السابقة، والأولويات الحالية للحزب الجمهوري، ومن أهمها:

التخفيضات الضريبية والنمو الاقتصادي: كانت إحدى السياسات المميزة لولاية “ترامب” الأولى هي الإصلاح الضريبي الكبير، ولا سيما قانون التخفيضات الضريبية والوظائف لعام 2017، والذي يهدف إلى خفض معدلات ضريبة الشركات وزيادة النمو الاقتصادي. ومن المرجح أن يطبق المزيد من التخفيضات الضريبية أو التعديلات، وخاصة مع أسر الطبقة المتوسطة والشركات الصغيرة. دافع “ترامب” أيضًا عن إلغاء القيود التنظيمية لتحفيز النمو الاقتصادي خلال رئاسته، وتم التراجع عن العديد من اللوائح في مختلف القطاعات، بما في ذلك الحماية البيئية والإشراف المالي، وهو ما قد يشير إلى أن العودة إلى الرئاسة من الممكن أن تدفعه إلى مواصلة هذه الجهود، وخاصة في قطاعي الطاقة والتصنيع، من خلال تعزيز إنتاج الوقود الأحفوري والحد من القيود الفيدرالية على الصناعات.

أمن الحدود والهجرة: تظل سياسة الهجرة والحدود من القضايا الرئيسة بالنسبة لترامب، ويجدد برنامج الحزب لعام 2024 تعهداته بتنفيذ سلسلة من التدابير الرامية إلى الحد بشكل حاد من الهجرة القانونية وغير القانونية، ويشمل هذا البناء على الإجراءات التي اتخذها خلال ولايته الأولى لإعادة تشكيل سياسة اللجوء والحدود والترحيل بشكل جذري. أيضًا اقترح “ترامب” سابقًا الانتقال إلى نظام هجرة قائم على الجدارة، مع التركيز على المهارات والمساهمات الاقتصادية بدلًا من الروابط الأسرية. يمكن للأغلبية الجمهورية في الكونجرس تسهيل تمرير مثل هذه السياسات، بما يتماشى مع مصالح الحزب الأوسع في إعطاء الأولوية للمهاجرين أصحاب المهارات.

الرعاية الصحية: أكد “ترامب” أنه لا ينبغي أن يتم خفض سنت واحد من ميزانية الرعاية الطبية والتأمينات الاجتماعية لتعويض إنفاق حكومة بايدن، الذي وصفه بـ “المتهور”. وفي حالة نجاح “ترامب” في تحسين الوضع الاقتصادي ، فمن المرجح ألا يضطر لخفض ميزانية الرعاية الصحية.

السياسة الخارجية: غالبًا ما تتميز السياسة الخارجية لترامب بنهج “أمريكا أولًا”. وبعودته لمنصبه، فقد يستلزم ذلك إعادة تقييم اتفاقيات التجارة الدولية، وإعادة تقييم التحالفات، خاصة حلف “الناتو”، والتحالفات مع الاتحاد الأوروبي. أيضًا فيما يتعلق بالحروب والتوترات الجيوسياسية العالمية، أكد “ترامب” أن توجهه فيما يتعلق بهه القضايا هو توجه نحو السلام وإنهاء الصراعات، إلا أنه لم يحدد كيف ينوي أن ينهيها، لكن في ظل وجود أغلبية من في الكونجرس فمن المرجح دعم سياساته وخططه أيًا كانت، خاصة في هذا الملف.

التعليم: دعم “ترامب” في السابق مبادرات اختيار المدارس، بما في ذلك المدارس المستأجرة وبرامج القسائم. وفي ظل وجود الكونجرس الذي يسيطر عليه الحزب الجمهوري، فقد يدفع نحو تشريع يعزز مثل هذه التغييرات التعليمية على المستوى الفيدرالي، خاصة في بعد تصريحاته التي أكد فيها على نيته بإلغاء وزارة التعليم.

وختامًا، فبالرغم من أن سيطرة حزب واحد على المشهد السياسي ليس جديدًا على الولايات المتحدة، فإن هذه المرة تختلف بعض الشيء عن سابقاتها، سواء على مستوى الأسباب التي تعددت وزيادة الاستقطاب والانقسام في الشارع الأمريكي، أو على مستوى كثرة التغييرات المتوقع حدوثها والتأثير بشكل كبير على الوضع الغير مستقر عالميًا. ويمكننا القول بشكل مختصر إن هذا الوضع هو نتيجة عدم كفاءة الديمقراطيين وعلى رأسهم الرئيس جو بايدن ونائبته كامالا هاريس في إدارة الفترة الماضية، بالإضافة إلى فشلهم في وضع خطة لإصلاح المشاكل الواضحة في إدارتهم، أو على الأقل الترويج لقدرتهم على حلها. ولكن أيضًا من غير المطلوب أن ننسى أن انتخابات الكونجرس تكون كل عامين وليس كل 4 مثل الرئاسة، مما يعني أن في حالة استغلال الجمهوريين للفرصة بشكل سئ من الممكن ان يطيح هذا بهم في الدورة التالية، وهو ما من شأنه أن يضع ضغطًا على الجمهوريين لمحاولة كسب ثقة الشعب الأمريكي بدرجة أكبر والسيطرة بشكل أوسع على المشهد السياسي الأمريكي لمدة أطول، أو محاولات تمرير أكبر عدد ممكن من سياساتهم في الفترة الأولى حتى يضمنوا تنفيذ أغلبها، وهو ما يمكن أن يأتي بنتيجة عكسية على الحزب الجمهوري بعد تحقيق هذا النتصار الكاسح.

بيير يعقوب

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى