تمديد إعلان التعاون النفطي: تثبيت من أجل قراءة المشهد
اتخذت منظمة “أوبك بلس” قرارًا مهمًا يوم 3 نوفمبر 2024، بتمديد الخفض الطوعي لإنتاج النفط الخام، حيث وافقت ثماني دول من تحالف أوبك بلس (السعودية، وروسيا، والعراق، والإمارات، والكويت، وكازاخستان، والجزائر، وعمان) على الإبقاء على هذا التخفيض عند مستوى 2.2 مليون برميل يوميًا حتى نهاية عام 2024. والجدير بالذكر أن هذه هي المرة الثانية التي يعلن فيها التحالف تأجيل التخلص التدريجي من تخفيضات إنتاج النفط الطوعية، بعد التأجيل الأول لمدة شهرين من سبتمبر 2024 حتى نهاية نوفمبر. وعليه، ما زالت دول تحالف “أوبك بلس” مستمرة في سياستها المعلنة لتخفيض الإنتاج طوعيًا منذ العام الماضي حتى نهاية عام 2024، وذلك في إطار رؤية مشتركة تستهدف توازن السوق، ومواجهة تباطؤ الطلب.
وقد جددت الدول الثماني تأكيد التزامها بتنفيذ جميع بنود “إعلان التعاون”، بما في ذلك الخفض الطوعي للإنتاج الذي اتُفق عليه في أبريل 2024. كما تعهدت هذه الدول بتعويض أي زيادة في إنتاج النفط خلال الفترة الماضية وفقًا للجدول الزمني المحدد؛ إذ أشارت الدول الثماني إلى تأكيد كل من العراق وروسيا وكازاخستان على التزامهما الكامل بالاتفاقيات التي تم التوصل إليها، بما في ذلك الخفض الطوعي للإنتاج والتعويض عن أي زيادة في الإنتاج منذ بداية العام الحالي. وكان من المقرر أن يرفع تحالف “أوبك بلس”، الذي يضم دول منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) وروسيا وحلفاء آخرين، الإنتاج بمقدار حوالي 180 ألف برميل يوميًا في ديسمبر 2024، وسبق أن أرجأت الزيادة من أكتوبر 2024 بسبب انخفاض الأسعار.
المؤكد هنا أن الأحداث الجيوسياسية والاقتصادية تؤثر بشكل كبير على نتائج تلك الاجتماعات؛ فالدول الأعضاء تبحث دائمًا عن مصلحتها بما لا يضر الوضع العام لأسواق النفط العالمية. ومن هنا يتضح أن الهدف الدائم لمنظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” وأيضًا تحالف “أوبك بلس” هو الاستثمار في السعة الإنتاجية الفائضة لبراميل النفط الخام؛ وذلك بهدف الاستفادة منها في مواجهة أي صدمة مستقبلية للحفاظ على استقرار أسعار النفط الخام.
دلالات الخفض الطوعي
إن دلالات التحرك واذا ما كان خطوة استباقية لها علاقة بتوقعات النمو الاقتصادي، تتوقف على الإجابة على بعض الأسئلة:
- هل نمو الطلب على النفط في النصف الثاني من العام أقل من المتوقع ومن ثم فالقرار هو ضربة استباقية للأحداث؟
- هل هناك ضبابية شديدة في الأسواق بسبب الأزمة المصرفية في الولايات المتحدة، واحتمالات الركود الاقتصادي، وكون أن الانتعاش في الصين أقل من المتوقع ومن ثم فهو ضربة احترازية؟
- هل الهدف النهائي منه هو منع الأسعار من الانخفاض أم رفع الأسعار؟
القرار يأتي في ضوء الالتزام المستمر للدول الأعضاء بتحقيق استقرار سوق النفط، وتوفير التوجيه والشفافية على المدى الطويل للسوق، وتماشيًا مع النهج المتمثل في الحيطة والاستباقية والوقائية.
أمام ما تقدم، كانت “أوبك” قد خفضت في أكتوبر الماضي، وللشهر الثالث على التوالي، توقعاتها لنمو الطلب العالمي على النفط هذا العام بمقدار حوالي 100 ألف برميل يوميًا من النفط الخام، حيث قدرت أن ينمو الطلب بمقدار حوالي 1.9 مليون برميل يوميًا، بعد أن كانت توقعاتها في يوليو عند حوالي 2.2 مليون برميل، ما يؤشر إلى خفض بمقدار حوالي 13.7% خلال 3 شهور.
واستندت تقديرات المنظمة لتراجع نمو الطلب إلى حالة الاقتصاد في الولايات المتحدة والصين اللتين تمثلان السوق الأولى والثانية للخام. وبالنظر إلى مستويات إنتاج تحالف “أوبك بلس” نجد أنه مع استعادة ليبيا لمعدلات الإنتاج الذي تعطل خلال أزمة سياسية قصيرة، وزادت إمدادات التحالف بمقدار حوالي 370 ألف برميل يوميًا، وحدت من هذه المكاسب (تخفيضات الشحنات) في العراق والسعودية وإيران.
وقد واصل إنتاج النفط في ليبيا تحقيق معدلات مرتفعة منذ استئنافه في بداية سبتمبر الماضي، حيث تخطت مستويات ما قبل أزمة إغلاق الحقول والمواني. فبلغ إنتاج النفط الليبي حوالي مليونًا و332 ألفًا و924 برميلًا من النفط الخام والمكثفات يوميًا، في حين بلغ إنتاج الغاز نحو 181 ألفًا و552 برميلًا مكافئًا يوميًا، ويوضح الشكل التالي مستويات إنتاج النفط الخام لدول “أوبك بلس” 2024-2025.
الأسعار وسيكولوجية السوق (سياسة العرض والطلب):
شهدت أسعار النفط العالمية خلال السنوات الماضية تغيرات قوية، وبالأخص منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، حيث حققت مكاسب كبيرة لم تحدث منذ أكثر من حوالي 15 عامًا، لتعوض بذلك الدول المصدرة للنفط الخسائر التي تكبدتها بسبب جائحة كورونا منذ بداية عام 2020. فمنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022، قفزت أسعار النفط لتصل إلى أكثر من 137 دولارًا للبرميل لتسجل أعلى مستوياتها على الإطلاق (قبل الانخفاض إلى حوالي 75 دولارًا للبرميل النفطي الواحد في الوقت الراهن)، بعد أزمة كورونا والتي أضرت بالعقود الآجلة لخام برنت والتي كان يتم تداولها بقيم سالبة، حيث خسر برميل النفط حوالي 45 دولارًا في ساعة واحدة فقط خلال إبريل من عام 2020. وجاءت الحرب على غزة وتوترات الشرق الأوسط لتسهم في ضبابية المشهد العالمي لأسواق النفط الخام وحالات التذبذب الحادة في حركة الأسعار (لكنها تراوحت حول مستويات 70-85 دولارًا للبرميل النفطي الواحد)، كما هو موضح في الشكل التالي.
وعليه يمكن القول إنه مع كل تلك التقلبات الحادة وبالتحديد منذ عام 2022، تدخل تحالف “أوبك بلس” لخلق حالة من التوازن بين المعروض والطلب، حيث بدأ في زيادة تدريجية في الإنتاج منذ مارس 2022، ثم قرر بنهاية نوفمبر 2022 خفض معدلات الإنتاج بحوالي مليوني برميل من النفط الخام؛ وذلك بهدف الحفاظ على استقرار أسعار الخام، كما هو موضح في الشكل التالي، وذلك بسبب حالة عدم اليقين التي شهدتها الأسواق.
ومن المتوقع أن أسعار النفط الخام ستظل في النطاق الحالي حتى نهاية العام الجاري 2024؛ إذ إن المخاطر الاتجاهية المختلفة لأسعار النفط الخام تُعد أعلى بسبب مخاطر الاضطرابات الجيوسياسية والصراعات الحالية والأزمة الاقتصادية العالمية، والتي تُعد لاعبًا أساسيًا ومهمًا في تحديد ملامح السوق النفطية العالمية. ولكن لا يزال من غير الممكن التنبؤ باتجاه توترات الشرق الأوسط.
بغض النظر عن الدوافع السياسية والاقتصادية لهذا القرار، فإن الهدف الأساسي من هذا التخفيض هو دعم أسعار النفط الخام ومنعها من الانخفاض بشكل حاد، مما سيوفر دعمًا قويًا للسوق في الأشهر المقبلة. استنادًا إلى ذلك فإن الأسواق النفطية كانت بحاجة ملحة إلى شيء لإنعاشها مرة أخرى، وعليه فإن قرار التمديد يمكن أن يعطي حافزًا لدى السوق بأن تحالف “أوبك بلس” ما زال باستطاعته أن يؤخر إرجاع هذه البراميل النفطية إلى الأسواق.
كيف تؤثر “أوبك” على أسعار النفط العالمية؟
تُشكل صادرات الدول الأعضاء في أوبك حوالي 49% من صادرات النفط الخام العالمية، بالإضافة إلى أن الدول الأعضاء تمتلك نحو 80% من احتياطيات النفط العالمية المؤكدة. ونظرًا لتمتعها بتلك الحصة السوقية الكبيرة، يمكن أن تؤثر القرارات التي تتخذها “أوبك” على أسعار النفط العالمية. ويجتمع أعضاؤها بانتظام لتحديد كمية النفط التي سيبيعونها في الأسواق العالمية، ووضع سياسة النفط العالمية وفقًا لحركة الأسواق العالمية والعرض والطلب.
واستنادًا إلى ذلك، كان لبعض قرارات خفض الإنتاج آثار كبيرة على الاقتصاد العالمي، فخلال حرب أكتوبر 1973، فرضت الدول العربية الأعضاء في “أوبك” حظرًا على شحنات النفط الخام إلى الولايات المتحدة، ردًا على دعمها للجيش الإسرائيلي، وشمل القرار دولًا أخرى دعمت إسرائيل، وشمل الحظر الصادرات البترولية لتلك الدول وأدى لخفض الإنتاج. وضغط الحظر على الاقتصاد الأمريكي الذي كان يعاني بالفعل ويعتمد وقتها على النفط المستورد، وبالتالي قفزت أسعار النفط مما تسبب في ارتفاع تكلفة الوقود للمستهلكين ونقصه في الولايات المتحدة، كما دفع الحظر الولايات المتحدة ودولًا أخرى إلى شفا ركود عالمي.
يمكن القول بشكل عام إن أسعار النفط تميل إلى الارتفاع عندما تقرر “أوبك” خفض الإمدادات نتيجة تراجع الطلب، بينما تتجه الأسعار إلى الانخفاض عندما تقرر المجموعة ضخ المزيد من النفط الخام في السوق.
الطلب على النفط الخام
بشكل عام، تمسكت “أوبك” بتوقعاتها لنمو قوي نسبيًا في الطلب العالمي على النفط الخام في 2024؛ إذ إن هناك فرصة لأن يحقق الاقتصاد العالمي أداءً أفضل من المتوقع بنهاية العام الجاري، وعليه فمن المتوقع ارتفاع مستويات الطلب العالمي على النفط الخام بمقدار حوالي 2.25 مليون برميل يوميًا في عام 2024، (الصين بحوالي 0.71 مليون برميل يوميًا) وبواقع حوالي 1.85 مليون برميل يوميًا في عام 2025، ومع توقعات بأن يبلغ متوسط الطلب العالمي حوالي 104.5 مليون برميل يوميًا. ومن شأن تعزيز النمو الاقتصادي (توقعات أولية) أن يعطي دفعة إضافية لأسعار النفط الخام التي ارتفعت فوق 80 دولارًا للبرميل بداية العام الجاري، وذلك بسبب نقص الإمدادات والحرب على غزة (تداعيات مباشرة على حركة الإمدادات من منطقة الشرق الأوسط)، كما يوضح الجدول التالي توقعات الطلب العالمي على النفط الخام.
استكمالًا لما سبق، من المؤكد أنه هناك رغبة محدودة في دفع أسعار النفط الخام إلى مستويات الارتفاعات الكبيرة، وذلك بالنظر إلى أساسيات العرض والطلب على النفط؛ إذ إن أي تحول كبير في الأسعار سيؤدي على الأرجح إلى بدء التحالف في التراجع عن التخفيضات المقررة.
وبالنظر إلى الأسعار الحالية نجد أنها منخفضة للغاية، وذلك بالنظر إلى الضغوط الجيوسياسية والجغرافية الاقتصادية أو حالات عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط (الدول العربية تمتلك نسبة حوالي 54.3% من الاحتياطيات العالمية المؤكدة من النفط الخام، وتستحوذ على حوالي 29.3% من الإنتاج العالمي للنفط، كما تستأثر بحصة حوالي 30.2% من إجمالي الصادرات النفطية العالمية)، وعليه ستكون الأسعار -في الوضع الطبيعي- أعلى بمقدار حوالي 15 دولارًا للبرميل النفطي الواحد عما هو عليه الحال الآن. تاريخيًا، الأسعار النفطية شديدة التأثر بالصراعات والاضطرابات الجيوسياسية.
هل النطاق السعري الحالي مناسب لتحالف “أوبك بلس”؟
بشكل عام، من المعتاد أن يحرص البعض على رفع الأسعار النفطية (الدول الكبري المنتجة للنفط الخام)، لكن دول “أوبك” لم تفضل تاريخيًا أوقاتًا طويلة من الأسعار المرتفعة، لأنها تدرك أن ذلك لن يؤدي إلا إلى خفض الطلب على نفطها، ويضرها على المدى الطويل. وعليه اتبع تحالف “أوبك بلس” سياسة إبقاء ملايين براميل النفط تحت الأرض؛ وذلك لتجنب إغراق الأسواق بالنفط الخام التي لم تكن قادرة على امتصاصه بسبب انهيار الطلب العالمي على النفط الخام، وذلك منذ مايو من عام 2020، (لا يستهدف تحالف “أوبك بلس” الأسعار على أساس سنوي، وإنما يهدف إلى منع التقلبات الكبيرة في المخزونات النفطية).
إجمالًا لما سبق، نجد أن النطاق السعري 78 إلى 85 دولارًا قد يكون السعر الأنسب للمنتجين وحتى المستهلكين، ولكن تخطي سعر 85 دولارًا للبرميل النفطي الواحد قد يشجع الإنتاج خارج “أوبك بلس” (أمر غير مرغوب فيه لدى دول التحالف النفطي)، في حين أن أسعار تحت 75 دولارًا لا تخدم كثيرًا “أوبك بلس” اقتصاديًا، لأنها لا تخدم معادلة السعر مع الكمية مقارنةً بما تخفض يوميًا.
أمام ما تقدم، حتى الآن لا تُشكل الأسعار الحالية مشكلة كبيرة بالنسبة إلى الدول المنتجة الكبري في التحالف وهما المملكة العربية السعودية وروسيا. حيث تُعد الأسواق العالمية لا تزال مفتوحة للغاية للاستثمار داخل السعودية وغيرهما من الدول. وبالنسبة إلى اللاعبين الآخرين في التحالف النفطي “أوبك بلس،” مثل إيران والعراق ونيجيريا، فإن الوضع أكثر إلحاحًا، ولكنها غير قادرة فعليًا على زيادة الإنتاج بصورة كبيرة أو الوصول إلى الأسواق، وذلك نظرًا لضعف البنية التحتية مع عدم توافر القدرة الإنتاجية، كما يوضح الشكل التالي القدرة الإنتاجية الفائضة لبعض دول التحالف النفطي.
وبالنظر إلى موسكو، بالرغم من أن العقوبات مازالت قائمة، فإن الدولة النفطية الأهم في تحالف “أوبك بلس” لم تتعرض لضربة قوية بعد؛ إذ إن مستويات الأسعار الحالية جذابة للغاية ما دام المستهلكون الآسيويون (بالأخص الصين) يأخذون جزءًا من الحصة النفطية للتحالف. ولكن إذا تغيرت هذه العوامل، أو استمر تعرض عمليات التنقيب والإنتاج والتكرير في روسيا لضربات أوكرانية محتملة والعقوبات الأخري، فستكون هناك ضغوط كبيرة متزايدة لارتفاع الأسعار النفطية بشكل كبير وحاد.
وعلى هذا النحو، من شأن بقاء الأسعار والمخزونات النفطية الحالية عند نفس مستوياتها تقريبًا قبل عام، أن يجعل من غير المرجح أن تتحول دول التحالف النفطي “أوبك بلس” إلى زيادة الإنتاج، فليس أمام التحالف سوى تمديد سياسة خفض الإنتاج الحالية؛ إذ إن أي قرار غير ذلك كان سيؤدي على الأرجح إلى موجة بيعية قوية، (الأمر سيحتاج قفزة مفاجئة وكبيرة في الطلب العالمي على النفط الخام وذلك من أجل دفع التحالف النفطي لإقرار أي تغيرات في اتفاق خفض الإنتاج).
مجمل القول، إن دول التحالف النفطي أوبك بلس غير مسؤولة عن التذبذب الواضح في مستويات الأسعار الحالية، وإنما هناك العديد من الأسباب والتي أدت بشكل رئيس إلى زيادة أسعار الطاقة العالمية والتي يأتي في مقدمتها الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى تزايد تداعيات الحرب على غزة (توترات الشرق الأوسط)، حيث ستبقى أسواق النفط العالمية مهددة بالمخاطر الاقتصادية والجيوسياسية حتى الوصول إلى حالة الاستقرار في مناطق المنابع النفطية الحيوية. بشكل عام يمكن القول إن الأسواق النفطية العالمية اعتادت على تدخل تحالف “أوبك بلس” كمنتج مرجح يحافظ على توازن الأسعار إذا ما تراجعت إلى دون المعدلات التوازنية لوقت طويل.
وفي الأخير، بالنظر إلى المستقبل، يواجه تحالف “أوبك بلس” مهمة موازنة استراتيجية بين دعم الأسعار والحفاظ على حصة السوق في مواجهة المنافسة المتزايدة من المنتجين من خارج أوبك مثل الولايات المتحدة الأمريكية. وقد صُمم قرار تمديد تخفيضات الإنتاج الطوعية لمنح أوبك بلس بعض المساحة للتنفس وللوصول لقرار يهدف إلى رسم خريطة الطاقة للعام المقبل 2025، وذلك عندما يجتمع التحالف في 1 ديسمبر المقبل لتقرير سياسة 2025.