تحديات جديدة: الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي بعد عودة “ترامب”
عُقدت في 7 نوفمبر 2024 قمة المجتمع السياسي الأوروبي في العاصمة المجرية بودابست، والتي جرى خلالها النقاش حول تقييم العلاقات في حلف الناتو مع الحليف الأمريكي. ودعا نحو 50 زعيمًا أوروبيًا خلال القمة إلى اتخاذ موقف صارم في مراجعة ميزانيتهم الدفاعية لتكون أقوى لعدم الاستمرار في الاعتماد جوهريًا على واشنطن في الحماية. وهو التطور الذي يأتي بعد فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية، والذي لن يهتم -في اعتقادهم- سوى بالمصالح الأمريكية، وأكد خلال ولايته الأولى أن على الأوروبيين رفع ميزانيتهم الدفاعية. ومن ثم فإن وصول ترامب إلى الرئاسة من جديد يجعل الأوروبيين أمام تحدٍ دفاعي، خاصة بعد مرور أكثر من عامين على الحرب في أوكرانيا التي تعهد ترامب بإيقافها من خلال مباحثات سلام جدية مع روسيا.
الاعتمادية الأوروبية
منذ انهيار حائط برلين عام 1989 وبعده بعام واحد تفكك الاتحاد السوفيتي، كانت أول القرارات الأوروبية خفض الميزانيات الدفاعية بشكل تدريجي ليتم توجيه الأموال إلى دعم الاقتصادات والتنمية، مما كان له أثر سلبي على قدرة الجيوش التي تحولت خططها من المواجهات العسكرية والحروب النظامية إلى حروب الإرهاب ومواجهة التحديات غير نظامية، مما أدى لتقليص عدد الجنود والمعدات بشكل كبير والاتجاه إلى بناء جيوش صغيرة مسلحة جيدًا.
وكان ذلك كافيًا لتغيير برامج التطوير والتصنيع الأوروبية للأسلحة؛ فقد تم تحويل الجيوش الأوروبية إلى جيوش إسناد ودعم للوحدات الأمريكية المقاتلة في المهمات القتالية، فعلى سبيل المثال تم تقليص عدد الطائرات المقاتلة والاعتماد الكامل على سلاح الجو الأمريكي لتمهيد ميدان القتال بواسطة امتلاك وسائل الحرب الإلكترونية التي تعد العامل الرئيس لنجاح أي حملة جوية ممنهجة حسب عقيدة حلف الناتو لإدارة العمليات العسكرية. ولكن في حالة اندلاع أي حروب في آسيا سيتم تحويل الوحدات الأمريكية على الفور مما سيضعف التشكيلات الجوية الأوروبية الحالية وهي مشكلة رئيسة سيكون أقرب الحلول لها في عام 2030.
على مستوى القوات البرية، تتمركز 3 ألوية مدرعة أمريكية في أوروبا وعدد محدود من كتائب الدفاع الجوي لتأمين أوروبا للعمل جنبا إلى جنب مع الأنظمة الأوروبية؛ لتكون المحصلة هي امتلاك ما يكفي لتأمين فقط 5% من الأجواء الأوروبية ضد أي هجمات جوية مستقبلية من المسيرات أو الصواريخ أو الطائرات، مما يثير الشكوك إذا ما انسحبت القوات الأمريكية من المشهد.
على الصعيد البحري، توجد قاعدتان للبحرية الأمريكية في اليونان وإيطاليا ولكن تبحر الوحدات البحرية الأوروبية ضمن الأساطيل الأمريكية كعنصر مكمل ويستطيع تنفيذ عمليات محدودة تشمل الدفاع الجوي والردع النووي ومكافحة الغواصات والدعم اللوجستي. عدا أن للبحرية الفرنسية فقط أسطولها المنفصل، والعام القادم سيكون هناك أسطول بريطاني المعروف بمجموعة العمليات- 25 ولكنة الوجود التواجد الأمريكي في المحيط الهادي.
وبداية من عام 2022، أقرت الدول الأوروبية ثلاثة مستويات من الجاهزية القتالية لدخول المعارك المباشرة. يشمل ذلك 100 ألف جندي يستطيعون التحرك في أول عشرة أيام من المعركة، و300 ألف في خلال 30 يومًا، و500 ألف في خلال 180 يومًا للوصول إلى امتلاك ما بين 35-50 لواءً مقاتلًا. ذلك بالتوازي مع تسريع عملية إنتاج المعدات للجيوش المالكة، في المقام الأول، ومن ثم الجزء الذي ستحصل عليه أوكرانيا. حيث سيقوم الجيش الأوكراني بإعطاء مزيد من الوقت يسمح بتحقيق التحول الاستراتيجي الجديد، والذي يشمل التدريب المكثف على العمليات العسكرية المباشرة النظامية على مستوى جميع الأفرع للقوات المسلحة في سيناريو قتالي واحد. ولكن كل هذه الخطط غير ناضجة في الوقت الحالي.
ترامب وخفض الدعم
تغيرت الاستراتيجية الروسية على مدار الحرب عدة مرات طبقًا للتطورات الميدانية. فقد بدأت بخطة خاطفة هدفها السيطرة على مساحات واسعة في شرق وشمال وجنوب أوكرانيا والوصول إلى العاصمة كييف في أسرع وقت ممكن للسيطرة على الدولة. ولكن مع استماتة الجيش الأوكراني في الدفاع، وبالأخص سلاح الجو، والذي أعطى مزيدًا من الوقت للدفاع الجوي، ريثما استعاد توازنه خطوة بخطوة، كانت لحظة فارقة لإفقاد سلاح الجو الروسي السيطرة الجوية على الأجواء في العمق الأوكراني، لتقتصر فقط على الخطوط المواجهة المباشرة بين الجيشين، وتتحول سير المعارك من التصادمية المباشرة إلى الاستنزافية طويلة الأمد.
ولذلك غير الجيش الروسي جميع الخطط القتالية لتتناسب مع هذا السيناريو والاستمرار في معارك طويلة بسير عملياتي متدرج. وكان لذلك أثر سلبي كبير على الاحتياطي التسليحي للجانب الأوكراني، الذي اضطر إلى تقليل الاستهلاك على مدار الحرب في انتظار المساعدات من حلف الناتو. بالمقارنة مع الجانب الروسي، الذي استطاع تأمين الاحتياطي الاستراتيجي للأسلحة ورفع الميزانية الدفاعية إلى 10% من الناتج المحلي مع تكيف استراتيجي مثالي ليدعم التطور العسكري في الميدان.
أما حلف الناتو فلم يكن مستعدًا وبطيئًا في اتخاذ القرارات المصيرية بسبب أن هناك عدم توازن بين مقدار ما تقره الولايات المتحدة للميزانية العسكرية التي تصل إلى 3.5 إلى 4% من الناتج المحلي الخاص بها وبين ما تقره أوروبا حتى بعد الكثير من الدعوات السابقة لرفع ميزانيتها لتتراوح في النهاية ما بين 1.5 إلى 2%، وبالأخص في ظل وجود الحرب الأوكرانية ووضع الجيش الأوكراني الحالي السيئ على جميع الجبهات وحاجته إلى الكثير من المعونات العسكرية.
وسيكون القرار بشأن هذه المعونات العسكرية لأوكرانيا على أجندة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، والذي أكد خلال حملته أنه سيوقف المعونات العسكرية الأمريكية للجيش الأوكراني. ومن شأن حدوث ذلك أن يكون بمثابة نقطة تحول كبيرة؛ لأن الولايات المتحدة منذ بداية الحرب كانت أكبر داعم لأوكرانيا بما يصل إلى 44.9 مليار دولار، وأقرت إدارة بايدن مؤخرًا حزمة جديدة بمقدار ملياري دولار من المساعدات العسكرية، مع إمكانية إضافة 4 مليارات أخرى قبل أن يأتي الرئيس ترامب إلى الحكم في يناير 2025.
وفي حالة نفذ الرئيس “ترامب” أجندته ومنع المزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، فسيتعين على الأوروبيين تعويض هذا الفارق، وهو أمر شديد الصعوبة ويحتاج إلى وقت كبير لتنفيذه بسبب اختلاف وجهات النظر تجاه الحرب من حيث قدرة الجيش الأوكراني على تحقيق النصر على الميدان من ناحية، ومحاولة عدم الاصطدام بشكل مباشر مع الجانب الروسي من ناحية أخرى.
وقد حدث بالفعل نموذج مشابه في عام 2023، وتعطلت المساعدات الأمريكية لستة أشهر كاملة، وكانت كفيلة بخسارة الجيش الأوكراني للحملة العسكرية في شرق أوكرانيا التي عرفت باسم “الهجوم المضاد الثاني”، ومن بعدها نفذ الروس هجومًا على مدينة “خاركيف”، وحتى الآن يتقدمون فيها. وقد كانت المساعدات الأوروبية تمر بشق الأنفس بسبب القدرة التصنيعية الضعيفة لمصانع الأسلحة الأوروبية بالمقارنة مع الأمريكية، بجانب صعوبة تمرير الموافقة السياسية على جميع شحنات الأسلحة، وبالأخص الدقيق والفتاك منها ذو الأثر التدميري الكبير.
ختامًا، أظهرت الحرب الأوكرانية-الروسية مدى هشاشة المؤسسات الدفاعية الأوروبية التي كانت في حالة صدمة بأنها مطالبة بمواجهة التطلعات الروسية دون أن يكون لديها الاستعداد لهذه المواجهات؛ بفعل الاعتماد الأكبر على الجانب الأمريكي الذي ظل لعقود ينمي ويعزز وجوده العسكري في أوروبا، ومن ثم تكيفت الجيوش الأوروبية على أن مواجهات عسكرية مستقبلية ستتم من خلال الدعم الأمريكي. وهي استراتيجية من المحتمل ألا تكون مطروحة لاحقًا بعد وصول الرئيس دونالد ترامب الذي يرفضها بشدة ويريد تقليص الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا وخفض الإنفاذ على هذا الملف لتدعيم جبهة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة التطلعات الصينية. وسيؤثر ذلك المسعى بلا شك بشكل سلبي على دعم الجيش الأوكراني.