الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024القضية الفلسطينيةالأمريكتان

تعديل أم استنساخ التكتيكات؟.. مسارات الصراع بالشرق الأوسط في ولاية “ترامب” الثانية

مع قرب تولي الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، مهام منصبه في يناير المقبل، بدأت تتتالي -بطبيعة الحال- التساؤلات حول التموضع المتوقع لإدارته حيال الملفات الداخلية والدولية الأساسية، خاصة الملف “المزمن” الذي كان دومًا على رأس الملفات التي تتضمنها طاولة كل إدارة أمريكية جديدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، ألا وهو ملف الشرق الأوسط، الذي يحظى في الفترة الراهنة بأهمية خاصة؛ نظرًا للتفاعلات المرتبطة بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ودخول العمليات العسكرية إلى جنوب لبنان، وكذا امتداد التأثيرات الميدانية إلى نطاقات أبعد في الشرق الأوسط، مثل منطقة البحر الأحمر، وتحول الأزمة في الشرق الأوسط إلى حالة من “التراشق المحسوب” بين طهران وتل أبيب، قد تتطور إلى ما لا يحمد عقباه.

حقيقة الأمر أن كافة الأطراف في الشرق الأوسط -على اختلاف توجهاتها وموقفها من واشنطن والإدارة الأمريكية الجديدة- باتت في موقع المترصد للمواقف التي سيتم اتخاذها خلال المدى المنظور من جانب الرئيس المنتخب؛ نظرًا لأن معظم هذه الأطراف باتت تدرك أن قياس المواقف المتوقعة “لترامب” حيال الملفات الدولية، على النهج الذي اتبعته إدارته خلال ولايته الأولى بين عامي 2017 و2021، سيؤدى إلى خلاصات غير دقيقة وغير معبرة عن واقع الحال؛ بسبب اختلاف المشهد الداخلي والإقليمي، فمن ناحية بات الحزب الجمهوري يمتلك أغلبية مريحة في مجلس الشيوخ، وهو ما لم يكن متوفرًا في ولاية “ترامب” الأولى، ومن ناحية أخرى يختلف المشهد الحالي في الشرق الأوسط عن المشهد عشية بدء الولاية الأولى في يناير 2017، وهذا الاختلاف يجعل حالة الترصد الإقليمية في أعلى مستوياتها خلال الأسابيع القليلة التي تسبق بدء الولاية الرئاسية الجديدة.

ثوابت أساسية في الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط

كي ننظر بشكل فاحص إلى السيناريوهات المحتملة لتعامل إدارة “ترامب” الجديدة مع ملفات الشرق الأوسط، يبدو من الضرورة بمكان وضع عدد من الثوابت في الاعتبار، منها ما يرتبط بشكل عام بالعلاقات بين واشنطن وتل أبيب وحقيقة أنهما عمليًا في حالة “تحالف استراتيجي” بغض النظر عن طبيعة الإدارة الأمريكية الموجودة في البيت الأبيض، أو ما يتعلق بطبيعة التصريحات والمواقف التي أدلى بها دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية حيال الشرق الأوسط، والتي كانت تراعي في المقام الأول حالة “المواجهة الانتخابية”، ومحاولة تفادي الإدلاء بأي تصريحات يمكن أن تضعه في خانة داعمة لهذا الطرف أو ذاك في الشرق الأوسط.

بدلًا من ذلك، فضل “ترامب” ان يلعب دور “الناقد” فيما يتعلق بالملفات الدولية خلال الحملة الانتخابية، بدلًا من أن يتناول هذه الملفات من زاوية “الرئيس المحتمل”. هذه الاستراتيجية من جانب “ترامب” اتضح أنها كانت ناجحة بامتياز، وأسهمت في استغلال الانقسام العميق في الحزب الديموقراطي حول تعامل إدارة بايدن مع حرب إسرائيل وغزة، وهي واحدة من أكبر نقاط الضعف التي تسببت في خسارة الديمقراطيين سباق الرئاسة.

من الثوابت الإضافية في هذا الصدد مسألة اختلاف دونالد ترامب وكامالا هاريس “الظاهري” على كيفية التعامل مع ملفات الشرق الأوسط، من الزاوية التكتيكية وليس الاستراتيجية، فعل الرغم من أن كليهما يختلف حول مجموعة من الموضوعات المتعلقة بإسرائيل، بدءًا من كيفية خوض إسرائيل معاركها، إلى رؤيتهما المختلفة تمامًا لدور الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، وتميل خلافاتهما إلى الظهور في التفاصيل الدقيقة لهذه السياسات وفي الأسلوب الذي يقدم به كل منهما رسالته؛ فإنهما من الزاوية الأوسع يتفقان بشكل أو بآخر على دعم المواجهة الإسرائيلية الحالية مع الفصائل الفلسطينية وحزب الله، وكلاهما يريد أن تنتهي الحرب في غزة قريبًا، ويستهدفان توسيع موجة التطبيع الإقليمي بين إسرائيل وجيرانها، مع تفادي طرح ملف “حل الدولتين” قدر الإمكان، بالإضافة إلى تركيزهما على إيجاد حلول للتعامل مع طهران، بعيدة كل البعد عن إعادة تدوير خطة العمل الشاملة المشتركة، المعرفة إعلاميًا باسم “الاتفاق النووي”.

يضاف إلى ما سبق نقطة هامة ترتبط بأن أحد أبرز التحولات التي قام بها “ترامب” على السياسة الخارجية الأمريكية خلال ولايته الرئاسية الأولى ارتبط بانتقال السياسة الخارجية لواشنطن في الشرق الأوسط من تموضعها التاريخي الذي يعتمد على الحفاظ بشكل كامل على الهيمنة الأمريكية عن طريق الوجود العسكري والتكنولوجي في المنطقة إلى طور آخر تعتمد فيه لصيانة هذه الهيمنة على قوى أساسية في الشرق الأوسط، على رأسها تل أبيب. وهو تكتيك ربما لم يسمح بتوفير الاستقرار لمنطقة الشرق الأوسط، إلا أنه حمل بين طياته “تخفيفًا” لوطأة التكاليف المادية والأعباء التي كانت ملقاة على واشنطن خلال العقود الماضية، حيث تزايد اعتماد الولايات المتحدة على إسرائيل لفرض إعادة تشكيل التحالفات والمشهد الاستراتيجي برمته في الشرق الأوسط لضمان استقرار المصالح الأمريكية.

نقطة أخرى في هذا السياق ترتبط بالذهنية “التجارية” التي باتت من معالم نهج “ترامب” في إدارة العلاقات الخارجية الأمريكية، وهو نهج اتُبع في الولاية الرئاسية الأولى، ويتوقع تكثيفه في الولاية الثانية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع دول الخليج، والتماس الذي سيطال بالتأكيد ترتيبات إعادة الإعمار في قطاع غزة بعد وقف المعارك.

بشكل عام، لم يكن “ترامب” صريحًا جدًا أو واضحًا بشأن خططه حيال القضية الفلسطينية خلال تصريحاته التي أدلى بها في مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر 2023، وقد انسحب ذلك على تناوله هذا الملف خلال الأشهر الأخيرة قبل الانتخابات؛ فقد اختار في أغلب الأحيان عدم التعليق على الأحداث الرئيسة التي تشهدها الأراضي الفلسطينية، في حين اتسمت تعليقاته -إن وجدت- بالغموض دائمًا والتناقض في حالات أخرى، خاصة حين كرر بشكل متتالٍ أن هجمات السابع من أكتوبر 2023 لم تكن لتحدث إذا كان في سدة الحكم، ناهيك عن دعوته إسرائيل إلى “إنهاء الحرب في غزة”، دون أن يوضح للمتلقي بشكل يقيني ما إذا كان المقصود هو “وقف إطلاق النار” أم “حسم المعركة ميدانيًا”، ودون حتى أن يطرح رؤيته لكيفية إنهاء القتال في قطاع غزة. وإن كان من اليسير أن تُفسر رؤيته هذه من خلال دعمه الواضح لتل أبيب، وبالتالي تكون الدعوة لإنهاء الحرب هي عمليًا دعوة “للانتصار في الحرب”، خاصة أن مجمل تصريحات “ترامب” خلال الفترة الأخيرة حول التطورات في قطاع غزة ولبنان لم تتضمن أي دعوة علنية للحد من العمليات العسكرية الإسرائيلية أو أي تصريح حول الخسائر البشرية المتزايدة في صفوف المدنيين.

جانب أساسي من أسباب هذا الأسلوب من جانب “ترامب” يرتبط برغبته في خدمة أهدافه الانتخابية وعدم خسارة تأييد الناخبين العرب واليهود على حد سواء، ولعل هذا يبدو واضحًا من خلال زيارته قبيل الانتخابات مباشرة لمدينة “ديربورن” في ولاية ميشيجان الأمريكية، وتحديدًا النطاق الذي يضم أغلبية من الأمريكيين ذوي الأصول العربية. فقد كانت معظم تصريحاته تدور في فلك تقديم نفسه “بديلًا نزيهًا” للرئيس المنتهية ولايته جو بايدن، وأن هذه الزيارة تعد الأولى من جانب مرشح جمهوري للجالية العربية في ديربورن منذ زيارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش إلى المدينة في أكتوبر 2000. هنا يمكن القول إن نتائج الانتخابات قد أثبتت أن مسير “ترامب” بشكل ناجح على الحبل الفاصل بين دعمه لإسرائيل ورغبته في نيل تأييد الجالية العربية قد آتى ثماره بشكل واضح.

هذا الأسلوب عكف “ترامب” خلال الفترة الأخيرة على اتباعه حيال القضية الفلسطينية، ضمن إطار عام روعي فيه عدم الوضوح وإبداء جمل وتعبيرات تحمل أوجهًا متعددة للتفسير. واللافت هنا أنه بعد أيام قليلة من هجمات السابع من أكتوبر 2023 بدا أن “ترامب” قد وجه سهام الانتقاد لبنيامين نتنياهو وأجهزة الأمن الإسرائيلية لفشلها في رصد تجهيزات هذه العملية والتصدي لها، وهو انتقاد أثار غضب قطاع كبير في الحزب الجمهوري، بشكل جعل “ترامب” خلال الفترات التالية، يعمل على ضبط معظم تصريحاته كي تتناسب مع الإطار العام الذي أراد مستشاروه وضعها فيه، وأصبحت تدور في فلك أن “ترامب” “هو الضمانة الأكبر لأمن إسرائيل، وأن تل أبيب لم تكن لتتعرض لهذا التهديد الاستراتيجي في حالة ما إذا كان موجودًا في البيت الأبيض”.

حتى مقاربة “ترامب” لعملية اغتيال زعيم حركة حماس، يحيى السنوار، كانت “مموهة” أكثر من اللازم على المستوى السياسي؛ إذ اعتبر مقتله “فرصة لسلام أسهل في قطاع غزة”، علمًا أن ما ظهر حتى الآن من توجهات “لترامب” بشأن مستقبل قطاع غزة ضبابي بشكل شبه كامل، وحتى الطرح الذي أدلى به بشأن “إمكانية تحويل قطاع غزة إلى نموذج مشابه لإمارة موناكو في الريفييرا الفرنسية” يبقى طرحًا “نظريًا” لم تُقدم آليات عملية لتنفيذه، ويحمل في طياته بوادر خطة تهجير جديدة لأهالي القطاع.

واقع الحال أنه رغم عدم وجاهة الربط بين المواقف السابقة لترامب من القضية الفلسطينية خلال ولايته الأولى وتحركاته المحتملة في هذا الملف خلال الولاية الثانية فإنه أنه لا يمكن في نفس الوقت تجاهل حقيقة أن “ترامب” قد قدم لإسرائيل خلال ولايته الأولى مستوى مرتفعًا للغاية من الالتزام بأمنها ومصالحها، فعندما غادر “ترامب” منصبه في يناير 2021 كانت إدارته قد عقدت وساطة هي الأنجح والأكثر شمولًا منذ اتفاقيات أوسلو في التسعينيات، والتي تضمنت تطبيع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين إسرائيل وكل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين، وهو ما تُوج بحفل توقيع في البيت الأبيض في الخامس عشر من سبتمبر 2020، فيما بدا أنه تدشين لنموذج جديد من العلاقات الإقليمية برعاية أمريكية بحتة، حاولت إدارة بايدن -للمفارقة- اقتفاء أثره حتى بعد عملية السابع من أكتوبر 2023.

السمة الأساسية في هذه الوساطة ترتبط بالتجاهل شبه التام لأية ترتيبات ترتبط بالقضية الفلسطينية. هذا التجاهل شمل كافة المبادرات التي قام بها “ترامب” فيما يتعلق بالملف الفلسطيني، خاصة ما يتعلق بخطة السلام التي كان قد طرحها صهر “ترامب” جاريد كوشنر عام 2020، والتي ابتكرت تطبيقًا “قاصرًا” لحل الدولتين تضمن شكلًا مشوهًا للكيان الفلسطيني يفتقر إلى أدنى مقومات السيادة والدولة، ويعتمد بشكل كبير على الإرادة السياسية والأمنية الإسرائيلية، والإشراف العسكري المباشر من جانب تل أبيب. وبالتالي كان مصير هذه الخطة الاختفاء التدريجي، لكنها في نفس الوقت كانت مؤشرًا على الجوهر الأساسي لذهنية “ترامب” حيال القضية الفلسطينية، والتي تتضمن رؤية “مختلفة” لما ستكون عليه الدولة الفلسطينية المستقلة، التي تم سؤاله حول ما إذا كان سيدعم تأسيسها، خلال المناظرة الرئاسية في يونيو الماضي، وعلق حينها بكلمة غامضة وهي “سأرى”.

هذا الانطباع أكدته تصرفات إدارة “ترامب” الأخرى؛ ففي عامه الأول كرئيس للولايات المتحدة خلال ولايته الأولى كان قد اعترف رسميًا بالقدس عاصمة لإسرائيل، كاسرًا بذلك حرص كافة الرؤساء السابقين على عدم الدخول في تشابكات هذا الملف، ثم قام “ترامب” بعدة إجراءات تصعيدية، منها إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن العاصمة، وتخفيض 200 مليون دولار من الأموال المخصصة لها، ونقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، ووقع في مارس 2019 أمرًا تنفيذيًا يعترف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، وانسحب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وصولًا إلى تأطير دعمه غير المحدود للتوجهات الاستيطانية الإسرائيلية عبر تصريحه أن المنتجات التي تُصنع في المصانع الموجودة في مستوطنات الضفة الغربية يجب أن تحمل علامة “صنع في إسرائيل”، وحقيقة أن واشنطن لم تعد تعتبر المستوطنات في الضفة الغربية “غير قانونية”.

بشكل عام، كان من الواضح أن كلًا من “ترامب” و”هاريس” يتفقان بشأن عدة ثوابت فيما يتعلق بإيران، منها منعها من الحصول على سلاح نووي، وانتقاد تحركاتها الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط -خاصة حيال إسرائيل- لكن يلاحظ هنا أن “ترامب” في انتقاده للضربة الإيرانية على إسرائيل في أكتوبر الماضي قد تناول الموضوع من زاوية أن “حالة الفوضى الإقليمية” هذه لم تكن لتحدث في عهده، وأن إيران كانت تحت السيطرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة رئاسته السابقة.

وهنا يمكن القول إن هذه الزاوية كانت ترتبط بشكل أو بآخر بالسباق الانتخابي أكثر من ارتباطها بتوجهات “ترامب” المستقبلية حيال إيران، خاصة أنه  انتقد بشكل واضح إدارة “بايدن” لتساهلها بشأن تزايد موارد إيران المالية وحصولها على أكثر من 100 مليار دولار من أصولها المجمدة، وهو هنا يقارن بين فترة “بايدن” والفترة التي كان فيها يطبق سياسة “الضغط الأقصى” على طهران في ولايته الأولى.

وعلى الرغم مما بدا أنه ملامح تصعيد مقبل من جانب “ترامب” نحو إيران من خلال إجابته السابقة على سؤال بشأن دعمه أو معارضته ضربة استباقية إسرائيلية لإيران، والتي قال فيها إنه سيكون من الضروري ضرب القدرات النووية أولًا؛ فإنه يمكن أيضًا النظر لهذه الإجابة من زاوية “المزايدة الانتخابية على الإدارة الديمقراطية”، خاصة أن نائب ترامب، جيه دي فانس، قد أوضح وجهة نظر “ترامب” في هذا الأمر وربطها بأن ادارة “ترامب” السابقة أرست الاستقرار على المستوى الإقليمي، من خلال “الردع الفعال”. والمقصود هنا هو وضع توازنات معينة أمام الأطراف الإقليمية، وهو ما يعد إشارة -بشكل أو بآخر- لعملية اغتيال قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، عام 2020، والتي أدت إلى انخفاض كبير في نشاط المجموعات المرتبطة بإيران في المنطقة.

ربما تكون هذه الذهنية هي السبب الرئيس وراء وصول القاذفات الاستراتيجية الأمريكية النووية “B-52″ إلى قاعدة العديد في قطر منذ أيام؛ إذ تعي إدارة “ترامب” المقبلة أن التحدي الأساسي الماثل أمامها حاليًا حيال إيران هو القدرات النووية التي تمتلكها طهران، وبالتالي يتوقع أن تعود واشنطن خلال الولاية الثانية لترامب لتطبيق سياسة “الضغط الأقصى” ولكن بطريقة مغايرة، أشبه بـ “التفاوض تحت النار”، وفيها تفرض واشنطن قيودًا مالية على طهران، قد تشمل استهداف القطاع النفطي الإيراني، وفي نفس الوقت تعمل على تنفيذ تحركات دراماتيكية تجاه طهران لاحتوائها؛ عبر التلويح بإمكانية التفاوض على اتفاق جديد كليًا معها -خاصة في ظل وجود رئيس جديد تولى منصبه حديثًا في طهران- وهذا ما لوح به “ترامب” حيث قال إنه بالتأكيد سيعيد التفاوض مع إيران لأنه من الضروري إبرام صفقة شاملة معها، ونوه بأن طهران كانت في مرحلة سابقة ستبرم بالفعل اتفاقا مع إدارته؛ أي أن التحركات الأمريكية حيال إيران ستكون تطبيقًا آخر لمبدأ “العصا والجزرة”، يتم على أساس نتائجه رسم خريطة التوازنات في الشرق الأوسط.

لمحاولة تحديد سيناريوهات الشرق الأوسط في المرحلة المقبلة، يجب أن نضع في الحسبان مسألة تأييد اليمين الإسرائيلي لوجود “ترامب” في البيت الأبيض، خاصة في ظل القرارات السالف ذكرها بشأن القضية الفلسطينية خلال ولايته الرئاسية السابقة، والتي دفعت رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي إلى تدشين منتجع يحمل اسم “ترامب” في الجولان السوري المحتل. يضاف إلى ذلك حقيقة وجود شخصيات وازنة لها توجهات يمينية مؤيدة لإسرائيل في محيط “ترامب”، بما في ذلك ديفيد فريدمان، محامي “ترامب” السابق والسفير الأمريكي في إسرائيل، والذي يعد أحد الحلفاء القدامى لحركة المستوطنين الإسرائيليين، وكذلك ميريام أديلسون، التي تعد من أهم الأقطاب الحليفة لرئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، ومركز قوة ماليًا لليمين الإسرائيلي على مدار سنوات مضت، ولعل من اليسير علينا فهم السبب الرئيس وراء رصدها مبلغًا قياسيًا بلغ 100 مليون دولار لدعم حملة “ترامب” الرئاسية.

على جانب آخر، تبدو مسألة “عدم القدرة على التنبؤ بشكل بالتصرفات المستقبلية لترامب”، مهمة بالنظر لأداء “ترامب” في ولايته الأولى، وهي مسألة برزت نتيجة عوامل عدة أهمها خصائصه الفكرية والشخصية، وهي عوامل لها إيجابياتها وسلبياتها؛ فمن جانب تنظر إليه كافة الأطراف على أنه يمثل “فرصة رابحة محتملة”. وعلى جانب آخر، تلتزم أطراف أخرى الحذر في التعامل معه؛ نظرًا لعدم وجود إمكانية دائمة لتوقع خطواته التالية.

لكن بشكل عام يمكن النظر إلى المرحلة القادمة في حكم “ترامب” على أنها ستتم في إطار عام “غير تصعيدي”، لا ترغب واشنطن فيه في الانخراط في صراعات خارجية، لكنها في نفس الوقت تريد الحفاظ على حالة من الردع على المستوى الإقليمي على الأقل.

مما سبق يمكن استخلاص أن تحركات “ترامب” في الشرق الأوسط، ستركز على عدة اتجاهات رئيسة:

● تعزيز التوجهات التطبيعية في المنطقة، حيث صرح “ترامب” بشكل واضح أنه سيحاول إدخال إيران وما لا يقل عن 12 دولة أخرى في المنطقة -من بينها مزيد من الدول الخليجية- ضمن اتفاقيات السلام الإبراهيمية مع إسرائيل. وهو مشروع “طموح” على المستوى النظري، وسيحتاج على المستوى العملي إلى جهد كبير وعملية “إعادة تشكيل جذرية للتحالفات وموازين القوى السياسية في المنطقة”، ويخدم في نفس الوقت الرؤية الأمريكية المرتبطة بوضع إسرائيل وقوى أخرى في المنطقة كوكلاء لحفظ المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.

● العمل على تحقيق “اختراق” في العلاقات الأمريكية – الإيرانية، مشابه لما حدث سابقًا بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، وهو توجه يرى مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، جون بولتون، أنه مترسخ في ذهنية “ترامب”، لدرجة قد تجعله يطرح زيارته إلى طهران في مرحلة لاحقة.

● العمل على وقف العمليات العسكرية في قطاع غزة ولبنان، في نقطة تمنح لإسرائيل اليد العليا في أي تفاوض، وتوفر لها حماية في المدى المنظور، وفي نفس الوقت تمنح الإدارة الأمريكية الجديدة “إنجازًا” في بداية فترة حكمها. وهو إطار يعني عمليًا أن الإدارة الأمريكية ستضع ما يشبه “جدولًا زمنيًا” للعمليات العسكرية في قطاع غزة وجنوب لبنان، وبعد انتهائه قد تعلن تل أبيب انتهاء عملياتها العسكرية. لكن في نفس الوقت لا يمنع هذا الجدول تل أبيب من تنفيذ “عمليات محدودة هنا وهناك”. وهذا الهدف يبدو ممكن التحقق في قطاع غزة، في حين يستلزم تحقيق هذا في لبنان التوصل إلى اتفاق مع الحكومة اللبنانية قد تتوفر فرص جيدة حوله خلال المدى المنظور.

● يعد ملف المحتجزين في قطاع غزة من الملفات الأساسية بالنسبة لإدارة” ترامب”، والذي في حالة إيجاد صيغة حل له سيمثل إنجازًا يحسب لإدارة “ترامب” والحزب الجمهوري من خلفها. وبالتالي يتوقع أن تعلن إدارة “ترامب” في وقت قريب طرحًا بهذا الخصوص، ربما يتضمن مسارًا منفصلًا يتعلق بالمحتجزين الحاملين للجنسية الأمريكية.

● لا يتوقع أن تعيد إدارة “ترامب” طرح خطة “كوشنر” للسلام في الشرق الأوسط؟ ولو تم هذا سيتم تعديل الخطة بشكل جذري لمواكبة المعضلات الحالية المتعلقة بمستقبل إدارة قطاع غزة وملف إعادة الأعمار والترتيبات المرتبطة بمسألة الدولة الفلسطينية المستقلة. وهي جميعها نقاط يحتفظ كلا الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني بتحفظات جذرية حولها. كما أن هذه الملفات ترتبط أيضًا بمسار التطبيع الذي تريد إدارة “ترامب” تفعيله بشكل أكبر، حيث تطرح معظم الدول المرشحة للدخول في هذا المسار شرطًا أساسيًا يرتبط بإيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية.

خلاصة القول، إن أدارة “ترامب” الجديدة ستجد نفسها في الـ20 من يناير المقبل أمام حالة متدهورة على المستوى الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ستتعامل معها مبدئيًا بشكل يسعى إلى تحقيق إنجازات على الأرض خلال المرحلة الأولى، ثم طرح سلسلة من المشاريع “الجذابة” على الأطراف الإقليمية؛ بهدف منح الجميع “هدنة” من التوتر الحالي، وهو ما سيعود بالفائدة على “ترامب” وإدارته شعبيًا ودوليًا وسيسمح له بالاستفادة على المستوى الاقتصادي من تحسن الأوضاع الاستراتيجية.

ستطرأ معضلة أساسية ترتبط بالإرث الذي تركه “ترامب” في ولايته السابقة، خاصة فيما يتعلق بعلاقاته مع دول الخليج وإيران، خاصة أن الطرفين الخليجي والإيراني باتا ينتهجان مقاربات مختلفة وأكثر “نوعية” مقارنة بما كان الحال عليه في ولاية “ترامب” السابقة، وبالتالي سيكون من الضروري انتظار تشكل إدارة “ترامب” الجديدة والتي ستحمل الشخصيات الحاضرة بها، خاصة في ما يتعلق بالأمن القومي ووزارة الخارجية، ملامح التوجهات التي ستُتخذ في هذا الإطار. لكن الأكيد أن اليمين الإسرائيلي سوف يشهد تصاعدًا في الدعم الأمريكي المقدم له، وهو مسار قد يعكر صفوه بروز تباينات بين رؤية كلا الجانبين حيال العلاقات مع إيران، وهذا ما سيتضح بشكل أكبر من خلال نطاق وشكل ومجريات الهجوم الإيراني المرتقب على إسرائيل.

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى