التسريبات الأمنية الإسرائيلية: السياق والتداعيات
بعد العثور على جثث الرهائن الإسرائيليين الستة في قطاع غزة في سبتمبر الماضي، اندلعت حالة من الغضب العارم في المجتمع الإسرائيلي، مما أدى إلى تنظيم احتجاجات كبيرة في تل أبيب استمرت لعدة أيام والتي انضمت إليها نقابات العمال بما في ذلك اتحاد “الهستدروت”، والذي نتج عنه شلل في قطاعات العمل والخدمات في مختلف أنحاء البلاد، كما واجهت الحكومة الإسرائيلية ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أزمة بسبب هذه الضغوطات الداخلية. عقب هذه الأحدث، نشرت صحيفة “بيلد” الألمانية و”جويش كرونيكل” البريطانية معلومات تشير إلى أن السبب الرئيس وراء تعطل الوصول إلى صفقة لتبادل الأسرى هو حماس، وتحديدًا يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي للحركة الذي اغتيل في أكتوبر الماضي، وقد استغل نتنياهو هذه المعلومات بشكل يظهر أن الاحتجاجات المطالبة بالإفراج عن الرهائن قد تكون جزءًا من خطة لحركة حماس.
ومع تقدم الأحداث، تبين أن المعلومات المتداولة صحفيًا هي وثائق استخباراتية إسرائيلية مسربة يُشاع أنها مفبركة وسرية للغاية، مما أثار شكوكًا حول ما إذا كان “نتنياهو” وأعضاء مكتبه متورطين في تسريب هذه الوثائق لأغراض تتعلق بمصالحهم السياسية أو بما يسمى بعملية “احتيال الرهائن”، وتساؤلات حول تأثيرها على المشهد الداخلي الإسرائيلي من الموقف الشعبي وتأثيره على موقف “نتنياهو” السياسي، وهو ما تحاول الورقة تسليط الضوء عليه.
الوثائق المسربة المفبركة.. ما مضمونها؟
برزت تسريبات مثيرة للجدل في صحيفتي “جويش كرونيكل” البريطانية، و”بيلد” الألمانية، والتي أشارت الصحف أنه تم العثور عليها من قبل الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة على حاسوب تعود ملكيته ليحيى السنوار رئيس حركة حماس تعود إلى ربيع 2024، والتي تحتوي على وثائق تعكس عدم اهتمام حماس بالصفقة وأن “السنوار” ينوي تهريب الرهائن إلى إيران. [1]
في وقت لاحق، تمكن جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “الشباك” من الوصول إلى أن المعلومات تم تسريبها من مستوى رفيع داخل إسرائيل، مما أثار تساؤلات حول احتمال تورط مكتب رئيس الوزراء في تسريب هذه المعلومات بشكل متعمد لاستغلالها ضد حماس، حيث تشير التحقيقات العسكرية الراهنة إلى أن هذه التسريبات قد تكون جزءًا من استراتيجية مدروسة تهدف إلى إبعاد المسؤولية عن “نتنياهو” فيما يتعلق بفشل المفاوضات، ويبدو أن الحكومة كانت تسعى -من خلال هذه الحملة الإعلامية- إلى تحويل الأنظار عن الإخفاقات التي تعرضت لها في إدارة الأزمة، في وقت تصاعدت فيه الاحتجاجات الشعبية ضد سياساتها[2]. كما تدور الشكوك حول مدى علم بعض أعضاء فريق نتنياهو بالتسريبات، ومدى تدخلهم في التلاعب بالمعلومات لتحقيق مكاسب سياسية.
الإجراءات المتخذة للتعامل مع التسريبات على المستوى الأمني والسياسي
من الناحية الأمنية، بدأ جهاز “الشاباك” تحقيقات موسعة بشأن عدة أفراد متهمين بتسريب المعلومات الاستخباراتية الحساسة بعد اعتقالهم، من بين هؤلاء كان إيلي فيلدشتاين، المتحدث السابق باسم مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إلى جانب ضابط كبير في قسم أمن المعلومات التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية الذي كان مكلفًا بمنع التسريبات[3]. من جهة أخرى، أثيرت شكوك حول قيام بعض المسؤولين الدفاعيين بالاستخراج غير المصرح به لمعلومات استخباراتية من جيش الاحتلال والذي يعد ضررًا جسميًا بالأمن القومي، وأدى إلى مخاوف من تعرض مصادر الاستخبارات للخطر والتسريب.
وكإجراءات إضافية تعكس خطورة القضية وحساسيتها الأمنية، طلب جهاز “الشاباك” من المحكمة تمديد فترة الحظر المفروض على المشتبه بهم فيما يتعلق بحقهم في طلب المشورة القانونية كإجراء صارم للتعامل مع المتهمين، وفي وقت لاحق أيضًا ضيقتمحكمة في ريشون لتسيون التي أصدرت حكم الاعتقال، نطاق أمر حظر النشر المرتبط بالقضية. وهذه الإجراءات كانت تهدف إلى ضمان استمرار التحقيقات وحماية المعلومات الحساسة التي قد تتأثر إذا تم نشر التفاصيل قبل اكتمال التحقيق.
وحول المتهمين الأساسين، يعد إيلي فيلدشتاين أهمهم، والذي تم تجنيده في الخدمة الاحتياطية بعد أسبوعين من بداية الحرب في غزة، كما كان المتحدث باسم مكتب رئيس الوزراء، وهو جزء من الدائرة المقربة من “نتنياهو”، ورافقه في زيارات عسكرية واجتماعات حساسة، وهو ما يتناقض مع التصريحات الرسمية التي نفت أن يكون له دور في المناقشات الدفاعية أو في تلقي معلومات استخباراتية سرية.[4]
وكاستجابة لما سبق وفي محاولة للتنصل من المسؤولية وإبعاد التهمة عنه؛ أصدر مكتب رئيس الوزراء بيانًا رسميًا ينفي أي علاقة له بالقضية، مشيرًا إلى أن موظفيه لم يتم التحقيق معهم أو اعتقالهم، والذي يعكس نفيه الرسمي لانتماء “فيلدشتاين” لمكتبه، بالإضافة إلى أنه قدم طلبات قضائية لرفع حظر النشر بشكل جزئي لتقليل حجم الأضرار الإعلامية الناتجة عن هذه التسريبات، ومحاولة للتحكم في تداعيات هذه القضية على المستوى الإعلامي والسياسي[5].
أهمية القضية في السياق الراهن وتداعياتها على الصعيدين السياسي الشعبي
تكمن أهمية القضية في السياق الحالي في أن “نتنياهو” بالأساس يواجه صراعًا من أجل البقاء في السلطة، وذلك في ظل الحرب الجارية وتداعياتها السياسية على موقفه. ولم يبدأ هذا الصراع فقط وقت الحرب، بل بدأ بالتزامن مع محاكمته بتهمة الفساد في عام 2021 والانقلاب القضائي في عام 2023، ولذلك تأتي قضية التسريبات هي الأخرى لتشكل ضغطًا إضافيًا عليه وعلى حكومته للتعامل معها، ويحاول “نتنياهو” تبرئة نفسه من كافة التهم المرتبطة به في هذه القضية، وتحويل كل النيران إلى كبار قادة الجيش و”الشاباك” بعيدًا عنه.
ولذلك يمكن القول إن أهمية القضية تأتي في إطار التوقيت الحرج للغاية بالنسبة “لنتنياهو” المرتبط بالحرب على الجبهتين في لبنان وفي غزة من ناحية ومحاولته تحقيق أهدافه الاستراتيجية وإرساء أسس اليوم التالي على أرض الميدان، وأيضًا في ظل محاولاته للحفاظ على استقرار وبقاء ائتلافه الحاكم، والسيطرة على الغضب الشعبي المطالب بصفقة لإعادة الرهائن في غزة. ذلك على الرغم من أن استقرار الحكومة أكثر أهمية من حياة الرهائن بالنسبة له، والذي أصبح واضحًا في دور التسريبات المتكررة من مكتب رئيس الوزراء لإعاقة أي تقدم في المفاوضات.
وانطلاقا مما سبق يمكن القول إن الحديث عن نتائج لتلك القضية يمكن أن يكون على مستويين، مستوى مستقبل نتنياهو السياسي، ومستوى المكون الشعبي بشكل عام في إسرائيل.
فيما يتعلق “بنتنياهو”، فتجدر الإشارة إلى أنه إذا ثبت تورطه في هذه القضية قد تتجاوز نتائج ذلك شخص رئيس الوزراء أو حكومته، بل قد يصل الأمر إلى حد التأثير على سمعة إسرائيل الدولية والتشكيك في الخطاب الدولي الإسرائيلي، خاصة وأن التحقيقات تشير إلى تورط مجموعة من المسؤولين السياسيين والأمنيين والإسرائيليين. وعلى الرغم من أنه لا توجد أي معلومات تربط “نتنياهو” مباشرة بالتسريب فإنه أنه تبنى التقرير الذي اعتمد على المعلومات المسربة واستخدمها للزعم بأن المتظاهرين الذين يطالبون بالإفراج عن الرهائن “يقعون في فخ حماس”، مما يرفع من احتمالية أن يكون طرفًا في القضية.
من ناحية أخرى، تأتي هذه القضية في وقت حرج للغاية في ظل التحقيقات الجارية بشأن المسؤولية عن الإخفاقات التي مكنت من وقوع أحداث 7 أكتوبر أيضًا، والتي يحاول “نتنياهو” أيضًا التنصل من المسؤولية عنها عن طريق إلصاق التهمة بمنافسيه، كان آخر تلك السياسات التي اتخذها لإبعاد التهمة عنه هو إقالة وزير الدفاع يوآف جالانت. وبالتالي فإن كافة المعطيات السابقة تشير إلى أنه يمكن على المدى القريب أن يتمكن “نتنياهو” من إبعاد التهمة عن نفسه، لكنه قد يواجه أزمة مستقبلية في ظل تراكم القضايا والأزمات التي ترتفع احتمالية أن يكون متورطًا بها.
وعلى المستوى الشعبي؛ فكما سبق الذكر أدى خطاب نتنياهو في سبتمبر الماضي الذي استخدم فيه هذه المعلومات إلى هدوء الاحتجاجات وتراجع قضية الرهائن مرة أخرى في ترتيب أولويات الرأي العام الإسرائيلي. لكن بعد الكشف عن هذه الوثائق، عادت الضجة مرة أخرى ونظرت حملة “إعادة الرهائن إلى ديارهم” إلى القضية بأنها مزيج من التخلي عن المختطفين وانتهاك الثقة وتقويض أمن الدولة[6]. من ناحية أخرى، أدت إلى انتقادات شديدة من جانب عائلات الرهائن الذين أصبحوا يشعرون بإحباط متزايد إزاء فشل الحكومة في تأمين إطلاق سراح الأسرى[7]. وفي بيان صادر عن مجموعة تمثل عائلات الرهائن، دعت إلى إجراء تحقيق كامل في مزاعم التسريب، محذرة من أنها قد تعرض الرهائن للخطر، وتقوض فرص عودتهم، وتعريضهم للأذى من قبل حماس. بالإضافة إلى تنظيم بعض العائلات احتجاجًا في تل أبيب، تحت شعارات تتهم نتنياهو بتنظيم “عمليات نفسية ضد شعبها”.[8]
لكن على الرغم من ذلك، يظل الضغط الشعبي محدودًا في الوقت الحالي، ولا يُتوقع أن يفضي إلى ضغوطات واسعة على حكومة “نتنياهو”. لكن تجدر الإشارة إلى أن القضية الأخيرة قد تؤدي إلى زعزعة الثقة في خطاب الحكومة بشكل عام و”نتنياهو” بشكل خاص.
خلاصة القول؛ قد يكون تأثير الموقف الشعبي على نتنياهو محدودًا في الوقت الحالي، لكنه يعتمد على تطورات القضية والموقف العام، ورغم أن الغضب الشعبي تجاه الحكومة قد يؤدي إلى تزايد الانتقادات ويعكس أيضًا تراجع الثقة تدريجًا في خطاب الحكومة فإن نتنياهو يظل يمتلك قاعدة دعم قوية من بعض فئات المجتمع خاصة الغالبية المتدنية، بالإضافة إلى مؤيديه في الائتلاف الحكومي، وهو ما تعكسه استطلاعات الرأي الأخيرة التي توضح أن 47% يرونه الأنسب لتولي منصب رئيس الوزراء، وحصول ائتلافه الحاكم -لو جرت الانتخابات الآن- على 33 مقعدًا في الكنيست[9]. علاوة على ذلك، فإن التحديات الأمنية الكبيرة التي تواجهها إسرائيل، بما في ذلك الحرب المستمرة في غزة ولبنان، قد تسهم في تعزيز موقفه لدى بعض الجمهور الذي يفضل الاستقرار السياسي في هذه الظروف الاستثنائية. لكن في نفس الوقت، إذا استمرت التسريبات في إثارة القلق بشأن مسؤولية الحكومة في ملف الرهائن وتزايد الإحباط الشعبي، فقد يظهر تأثير ضاغط على نتنياهو في المستقبل، وقد تواجه شعبيته تراجعًا تدريجيًا لا سيّما وأن 52% يرون أنه يعرض أمن البلاد للخطر[10]. لكن في المدى القصير قد يكون التأثير محدودًا نظرًا للظروف السياسية والأمنية.
[1] Haaretz, leaked ‘Hamas Documents’ Suggest Netanyahu Ran Influence Campaign. Target: Israelis, 2 November 2024, https://www.haaretz.com/israel-news/2024-11-02/ty-article/.premium/leaked-hamas-documents-suggest-netanyahu-ran-influence-operation-target-israelis/00000192-ee9c-d6ee-ab9a-effe9d770000
[2] محمد وتد، 8 نقاط توضّح قضية التسريبات الأمنية بمكتب نتنياهو وتداعياتها، 5 نوفمبر 2024، الجزيرة، https://www.ajnet.me/politics/2024/11/4/8-%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%B7-%D8%AA%D9%88%D8%B6%D8%AD-%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B3%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%86%D9%8A%D8%A9
[3] Financial Times, Israeli secret services make arrests after leak probe in Netanyahu’s office, November 1 2024, https://www.ft.com/content/bfa16784-02a6-4616-9041-a1a7c3362c58
[4] JERUSALEM POST, Netanyahu’s office in crisis: Inside the leaked document scandal, NOVEMBER 2, 2024, https://www.jpost.com/israel-news/article-827273
[5] Haaretz, BibiLeaks: Everything You Need to Know About Netanyahu’s Latest Scandal, Nov 4, 2024. https://www.haaretz.com/israel-news/2024-11-04/ty-article/.premium/bibileaks-everything-you-need-to-know-about-netanyahus-latest-scandal/00000192-f6a1-d05a-aff6-fee929630000
[6] The New York Times, Case of Document Leaks Roils Israel, Nov. 4, 2024, https://www.nytimes.com/2024/11/04/world/middleeast/israel-netanyahu-leaked-documents-hamas-gaza.html
[7] Bbc, Netanyahu aide leaks may have harmed hostage talks, court says, 4 November 2024, https://www.bbc.com/news/articles/cd9n02xxexko
[8] Washington post, Netanyahu ally accused of leaking documents to derail hostage deal, November 5, 2024, https://www.washingtonpost.com/world/2024/11/05/israel-leak-documents-idf-netanyahu-hamas/
[9] [9] Jns, Poll: Netanyahu maintains majority after Gallant firing, Nov. 7, 2024, https://www.jns.org/poll-netanyahu-maintains-majority-after-gallant-firing/
[10] [10] דשות 13، סקר חדשות 13: רוב העם נגד פיטורי גלנט – ומי מתאים לתפקיד?، https://13tv.co.il/item/news/politics/politics/yvohv-904326645/?pid=62&&cid=902992386