السيناريو الأسوأ.. ما مصير العلاقات الأمريكية الأوروبية بعد عودة “ترامب”؟
بعد سباق انتخابي حاسم، يعود الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، محققًا انتصارًا تاريخيًا على منافسته الديمقراطية “كامالا هاريس”، وهو السيناريو الذي كانت تخشاه القارة الأوروبية؛ نظرًا لتداعياته السلبية المحتملة على القارة التي لم تتمتع بعلاقات جيدة مع الرئيس المنتخب خلال ولايته الأولى. ولكن بما أن وجوده لأربع سنوات قادمة بات حقيقة لا مفر منها، يبدو أن أوروبا على موعد لتقديم تنازلات للتعامل مع “ترامب” خلال الفترة القادمة.
قضايا متشابكة
عادةً لا يعلق المسؤولون والزعماء داخل الاتحاد الأوروبي على الانتخابات الأمريكية، ولكنهم إن فعلوا، فإن ذلك يكون على شكل تأكيد بأن القارة الأوروبية على أهبة الاستعداد لأي سيناريو قادم، مع عودة الحديث عن الشعارات الداعية للاستقلال الاستراتيجي الأوروبي عن الولايات المتحدة، وأهمية إنشاء جيش أوروبي أو مظلة نووية أوروبية.
ولكن الحقيقي هو أن أوروبا كانت تميل إلى فوز الديمقراطية كاميلا هاريس بالانتخابات أكثر من عودة “ترامب” مجددًا للبيت الأبيض؛ إذ تميزت ولايته الأولى بانسحاب الولايات المتحدة من مجموعة من الاتفاقيات الدولية، أبرزها اتفاق باريس والاتفاق النووي مع إيران، بل وحتى التهديد بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي، وعزمه الصارم على وضع مواجهة الصين فوق الأولويات العالمية الأخرى. ويبدو أن المخاوف الغربية تدور حول ملفات حساسة من شأن عودة ترامب أن تبقيها بلا يقين واضح أو أن تشهد تراجعًا ملحوظًا، ومن أبرزها:
- الالتزام بدعم أوكرانيا
كان دعم أوكرانيا في حربها الممتدة لأكثر من عامين مع روسيا هدف القارة الأوروبية تحت مظلة الولايات المتحدة المانح الأكبر تحت إدارة الرئيس السابق جو بايدن. وكان القادة الأوروبيون يخشون من عودة “ترامب” بشكل كبير لأنها قد يصاحبها تغييرات في الموقف الموحد تجاه أوكرانيا، خاصة وأن “ترامب” يعتقد أن الرئيس الأوكراني هو السبب في بدء الصراع، وأنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي لم تتجرأ روسيا بغزو أي دولة في عهده.
هذا بجانب تعهداته بإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية في غضون 24 ساعة من إعادة انتخابه، دون توضيح كيفية فعل ذلك، وربما يكون عبر التفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تجمعه به علاقة وطيدة، وربما بدون موافقة كييف، وهو ما يحمل في طياته الضغط على أوكرانيا لإيقاف الحرب بوضعها الميداني الحالي، ما يعني مكافأة بوتين، وهزيمة أوروبا التي ساعدت أوكرانيا عسكريًا بميزانيات ضخمة للفوز في هذه الحرب، وزيادة التهديد الروسي لأوروبا عبر السماح بانتهاك الحدود المعترف بها دوليًا بقوة.
أما في حال استمرار الحرب، فقد تعهد “ترامب” بأن يمنع أو يقلل من ميزانية دعم أوكرانيا لصالح الداخل الأمريكي الذي يعاني اقتصاديًا جراء تكلفة هذه الحرب، وأنه سيلقي بتكلفة إعادة مخزونات الولايات المتحدة من الأسلحة والذخيرة المرسلة لكييف على الدول الأوروبية، وبالطبع إجهاض محاولات كييف الانضمام للناتو.
وللتعامل مع هذا التهديد، تم اتخاذ خطوات على جانبي المحيط الأطلسي لتوفير الدعم لأوكرانيا في مواجهة “ترامب” قبل الانتخابات الأمريكية، وتزويدها بالقدر الكافي من المساعدة المالية والعسكرية حتى تتمكن من الاستمرار في مقاومة التعدي الروسي في الأمد البعيد، كما أعلن حلف شمال الأطلسي هذا الصيف عن تأسيس “بعثة الناتو للمساعدة الأمنية والتدريب لأوكرانيا”، وهي بعثة خاصة سيكون مقرها ألمانيا، ويعني إنشاء هذه البعثة بشكل أساسي أنه من الآن فصاعدًا سيكون حلف شمال الأطلسي نفسه، وليس أكبر مساهم فيه الولايات المتحدة، هو الذي سيتولى تنسيق تدريب القوات الأوكرانية وتوفير المعدات العسكرية لكييف.
كما أبرمت مجموعة الدول السبع قرضا طويل الأجل بقيمة 50 مليار دولار لأوكرانيا، والذي سيتم تمويله إلى حد كبير من خلال الفائدة على الأصول الروسية المجمدة في أوروبا، هذا بجانب الخطوات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي لتعزيز العقوبات على روسيا حال عودة ترامب، ولكن هذه الخطوات تلقى معارضة واسعة من قبل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان المؤيد لبوتين وترامب معًا. ولكن المجهودات الأوروبية السابقة لا تلغي حقيقة أن أوكرانيا لن تكون قادرة على مواصلة القتال لفترة أطول بدون دعم الولايات المتحدة، وأن الاتحاد الأوروبي بمفرده لن يكون قادرًا على سد تلك الفجوة.
- الالتزام بحلف شمال الأطلسي
هناك أمر آخر يتخوف منه القادة الأوربيون، وهو التهديد المستمر من قبل “ترامب” بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي بعكس إدارة “بايدن” التي كانت ملتزمة بالتحالف مع بناء وتعزيز التحالفات والشراكات الأخرى، حيث قال “ترامب” إن الولايات المتحدة سئمت مما وصفهم بالـ “مستغلين” الأوروبيين الذين يستفيدون من الحماية الأمريكية بالرغم من عدم التزامهم بهدف الناتو بإنفاق 2% من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاعات. وعلى الرغم من تحسن الإنفاق الدفاعي داخل الحلف ونجاح 23 عضوًا في الالتزام بالهدف عقب الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن “ترامب” لا يزال غير راضٍ، مهددًا بتقليص مشاركة الولايات المتحدة في الناتو وكذلك الردع النووي وسحب جميع القوات.
والجدير بالذكر أنه من غير الممكن لرئيس الولايات المتحدة أن يسحب بلاده من حلف شمال الأطلسي من جانب واحد، خاصة وأن الكونجرس قد أقر قانونًا ينص على أن مثل هذا القرار يحتاج إلى موافقة مجلس الشيوخ، إلا أنه لا يمكن تجاهل تهديد “ترامب” في ظل استمرار تشككه بشأن الدفاع المتبادل، خاصة وأنه بالرغم من كل الاستثمارات الأمنية التي قامت بها أوروبا في السنوات الأخيرة، فإنها تظل تعتمد بشكل كبير على المظلة العسكرية التي توفرها واشنطن.
- المصالح التجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا
تبلغ التجارة بين أمريكا والاتحاد الأوروبي 1.3 تريليون دولار، وهي أكبر علاقة تجارية واستثمارية ثنائية في العالم، بل وأكبر بنسبة 40% من تجارة الاتحاد الأوروبي مع الصين. وقد تعهد “ترامب” حال عودته بفرض تعريفات جمركية باهظة على الواردات الأوروبية تتراوح بين 10%- 200% في بعض الحالات خاصة على الشحنات والسيارات المستوردة، وذلك في محاولة منه لإنعاش الاقتصاد الأمريكي وحماية الوظائف الأمريكية، الأمر الذي يهدد باحتمالية حرب تجارية شاملة قد تهدد أوروبا بخفض صادراتها إلى الولايات المتحدة بنحو 150 مليار يورو سنويًا، وتحثها على إبرام اتفاقيات تجارية جديدة مع دول أخرى وأسواق إقليمية لمحاولة التخلص من الاعتماد على المستهلكين الأمريكيين.
وقد أعلن “ترامب” أيضًا أنه سيفرض ضريبة تعريفية على الصين، المنافس الأكبر للولايات المتحدة، والتي قد تصل إلى 60% أو أكثر على الواردات، وهو الأمر الذي يرى فيه الخبراء الاقتصاديون أنه سينعكس بالسلب على الأسر الأمريكية المتوسطة والفقيرة التي ستواجه ما يقدر بنحو 1700 دولار في شكل تكاليف إضافية؛ كون الشركات الأمريكية دائمًا ما تمرر تكاليف التعريفات الجمركية إلى المستهلكين الأمريكيين، إلى جانب أن الشركات المصنعة في الداخل سترفع أسعارها محليًا لزيادة الطلب عليها.
ولمواجهة هذا التحدي، أعلنت المفوضية الأوروبية عن صياغة استراتيجية تجارية من خطوتين بتقديم صفقة سريعة لترامب بشأن زيادة الواردات الأمريكية إلى الاتحاد الأوروبي حال فوزه، واتخاذ إجراءات عقابية إذا اختار فرض رسوم جمركية على وارادات الاتحاد الأوروبي من خلال إعداد قائمة بالواردات الأمريكية التي قد يفرض عليها الاتحاد الأوروبي رسوم جمركية بقيمة 50% أو أكثر.
على صعيد آخر غير متوقع، يعتقد بعض المسؤولين الأوروبيين، وإن لم يعلنوا ذلك، أن فوز الرئيس السابق دونالد ترامب قد يكون ما يحتاجه الاتحاد الأوروبي لتعزيز دفاعه والتعامل بصرامة مع الصين، هذا بجانب أن عودته ستكون بمثابة صدمة مفيدة من شأنها أن تمكن الاتحاد الأوروبي من المضي قدمًا في ملفات أرهقت القارة الأوروبية بالفعل مثل وباء كورونا وأزمة الطاقة التي أعقبت الحرب في أوكراني، وذلك عبر تعزيز قطاع التكنولوجيا، وتوضيح سياسة أوروبا تجاه الصين.
شكل التحالفات الأوروبية بعد عودة ترامب
يبدو أن ولاية “ترامب” الثانية من شأنها إما أن تقدم “الدواء المر” الذي يحتاجه الاتحاد الأوروبي المنقسم للتغلب على انقساماته والمضي قدمًا ككتلة واحدة، أو أن تنطوي على توترات دبلوماسية مع بعض حلفاء واشنطن التقليديين، وتجعل من السهل أن تغلب الولايات المتحدة التعامل الفردي مع كل دولة أوروبية على حدة، ما يزيد الضغط الأمريكي عليها بما يتعارض مع المصالح الأوروبية.
وبالنظر للفترة الماضية، نجد أن أوروبا استعدت بالفعل لعودة “ترامب”، وحاولت تخفيف تأثير ذلك على المستقبل الأوروبي من خلال افتراض سيناريوهات عدة، فالسيناريو الأول تمثل في التواصل الشخصي من قبل الحكومات الأوروبية مع “ترامب” ومستشاريه، وذلك على أمل بناء علاقات قد تقلل الصراع المستقبلي، وقد أثبت هذا الأمر فاعليته خلال ولاية “ترامب” الأولى، والتي نتج عنها علاقة وطيدة بين “ترامب” ومجموعة منتقاة من الزعماء.
وفي هذه الحالة قد نشهد أن تميل التحالفات الأوروبية مع “ترامب” خلال ولايته الثانية نحو اليمين الصاعد بقوة في بعض الدول الأوروبية، خاصة وأن زعماء اليمين المتطرف – كالمجر وهولندا- يشاركون بايدن في كثير من الأفكار، خاصة تلك المتعلقة بالشعبوية الانقسامية المتشككة في أوروبا أو بالحرب الأوكرانية والمناخ والمهاجرين والوقوف أمام النفوذ المتنامي في جنوب شرق آسيا، وهو الأمر الذي قد يسهم في إضعاف المؤسسات الأوروبية وتسريع تحول أوروبا نحو اليمين.
أما السيناريو الثاني هو من خلال التحولات في السياسات بهدف إرضاء “ترامب” وائتلافه السياسي، ويمكن رؤية ذلك ما شهدته الفترة الماضية من اجتماعات عدة أجراها وزراء كبار من ألمانيا مع حكام جمهوريين في محاولة لتعزيز العلاقات مع اليمين الأمريكي، وكذلك بريطانيا لإصلاح العلاقات المتوترة عقب الاتهامات التي وجهها “ترامب” لحزب العمال البريطاني بالتدخل في الانتخابات عبر دعم بعض أعضائه ماديًا لحملة هاريس الانتخابية، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء البريطاني ورئيس حزب العمال كير ستارمر إلى توضيح موقف حزبه، والتأكيد أن هذا الأمر تم من قبل بعض أعضاء الحزب بالفعل ولكن على سبيل “التطوع” وليس بصفتهم الرسمية كأعضاء في الحزب.
السيناريو الثالث يمكن رؤيته من خلال التدابير الدبلوماسية والقانونية الموضوعة قيد التنفيذ حاليًا لحماية أولويات حلف شمال الأطلسي من تدخلات “ترامب” في المستقبل، ولهذا قد يكون من الصعب على “ترامب” أن ينشئ علاقات جيدة مع الحكومتين الألمانية أو الفرنسية بتشكيلهما الحالي، خاصة وأنهم كانوا يفضلون فوز هاريس كونها ستضمن التماسك والتعاون عبر الأطلسي.
وبما أن فوزه أصبح أمرًا واقعًا، فقد نشهد تقاربًا في العلاقات- على مضض- بين زعماء تلك الدول وبين ترامب، كنوع من أنواع التعايش لتعزيز المصالح المتعلقة بالناتو، والمصالح بين هذه الدول وبين الولايات المتحدة، وقد يسهِّل هذه المهمة الزعيم الجديد لحلف الناتو “مارك روته”، الذي لديه فرصة للتفاهم مع “ترامب”؛ فرئيس الوزراء الهولندي السابق كان قد طور علاقته بالرئيس المنتخب خلال ولايته الأولى، كما أنه معروف بقدرته على التعامل معه في اللقاءات الثنائية وخلال قمم الناتو، ولهذا سيكون من السهل عليه إقناع “ترامب” بسحب تهديداته بالانسحاب من التحالف مع اقتراب وتجاوز 23 دولة من الدول الأعضاء، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا، هدف الإنفاق على الدفاع هذا العام، فضلًا عن تطلع روته إلى الحصول على ضمانات بشأن مساعدات أوكرانيا.
أما إيطاليا، فقد تكون رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية المتشددة جورجيا ميلوني حليفة مهمة وحلقة وصل بين الولايات المتحدة ومؤسسات الاتحاد الأوروبي؛ إذ يتوافق حزبها اليميني مع الحزب الجمهوري الأمريكي، ولكنها مع ذلك قد أثبتت منذ توليها منصبها أنها وسطيّة بامتياز عبر موقفها الداعم لأوكرانيا والتأكيد على التهديد الروسي، هذا بجانب علاقتها الوطيدة والمستقرة مع إدارة بايدن، ولهذا تحظى بزخم كبير في بروكسل. ولكن يبدو أن معضلة انخفاض الإنفاق الدفاعي في إيطاليا ستكون الشرارة التي ستندلع بين “ترامب” وميلوني، هذا بجانب أن “ميلوني” بالتأكيد ستقف بجانب أوروبا حال قرر “ترامب” شن حرب تجارية ودفاعية على القارة العجوز.
وختامًا، تحقق السيناريو الذي تخوفت أوروبا من حدوثه وبات أمرًا واقعًا، ومن شأن عودة “ترامب” للبيت الأبيض أن تجعل القارة الأوروبية تساوم من أجل مصالحها بذكاء عبر تقديم العديد من التنازلات، ووضع استراتيجيات وتدابير سياسية للتعامل مع الوضع الراهن بما يقلل من الاعتماد الأوروبي على أمريكا، وذلك على مستوى الأمن والدفاع وعلى المستوى الاقتصادي، في ظل احتمالية نشوب صراعات داخلية تتمحور حول “تضارب المصالح الأوروبية” حول تلك القضايا، الأمر الذي قد يحقق لترامب الانقسام الأوروبي الذي يريده.