نهج مغاير: ماذا تعني عودة “ترامب” إلى البيت الأبيض لإيران؟
مع فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة لفترة ثانية، يُتوقع أن تواجه إيران على الأغلب سيناريوهات غير مبشرة على عدة مستويات داخلية وخارجية؛ انطلاقًا من رؤية الرئيس السابق لمسار علاقات واشنطن مع طهران وما يجب أن تفعله الأخيرة فيما يخص عددًا من الملفات ذات الصلة أبرزها ملف البرنامج النووي الإيراني والانتشار العسكري لطهران في منطقة الشرق الأوسط.
وقد عكست التصريحات الرسمية التي صدرت من جانب طهران فور التأكد من فوز ترامب بالرئاسة يوم 6 نوفمبر 2024 حالة داخلية من عدم التفاؤل، ظهرت في بيانات المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية، فاطمة مهاجراني، التي قالت إن “أرزاق الإيرانيين لن تتأثر بالانتخابات الأمريكية”، وهي تقصد نتيجة الانتخابات، حيث جاءت تصريحاتها بعد فوز ترامب صبيحة 6 نوفمبر.
وفي الوقت ذاته، مثّلت تصريحات نائب قائد الحرس الثوري قائد القوات البحرية، علي فدوي، في اليوم نفسه تعبيرًا أكثر واقعية عما يدور في أذهان صناع القرار بطهران بشأن سيناريوهات ومستقبل ملفات البلاد المتعددة ذات الصلة بالتوجهات الأمريكية بعد اتضاح نتيجة الانتخابات الرئاسية في واشنطن. فقد قال فدوي إن “إيران مستعدة للمواجهة مع إسرائيل ولا تستبعد توجيه ضربة استباقية من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل”، مضيفًا أن “الإسرائيليين لا يملكون القوة لمواجهتنا وعليهم انتظار الرد”.
فقد كانت الجمهورية الإسلامية تتوقع وتأمل في الوقت ذاته عدم فوز دونالد ترامب وتولي المرشحة الديمقراطية، كامالا هاريس، رئاسة البلاد؛ حتى تواصل الأخيرة نهج سياسات الإدارة الأمريكية الحالية للرئيس جو بايدن إزاء إيران، والتي شهدت في الواقع تقدمًا إيرانيًا واضحًا في البرنامج النووي والصاروخي وملف الطائرات المسيرة، على الرغم من التراجع النسبي في الانتشار العسكري الإيراني في الشرق الأوسط خلال تلك الفترة، وإن كان ذلك قد مثّل نتيجة مباشرة لعوامل وتطورات إقليمية ودولية أخرى من بينها تراجع مساحة انتشار الجماعات المسلحة في سوريا وبدء إسرائيل موجة من الضربات الشديدة للجماعات المسلحة الموالية لإيران في المنطقة، إلى جانب اهتمام إيران بالتطورات الحاصلة في أفغانستان بعد سيطرة “طالبان” على السلطة في 2021.
وفي الواقع، عكست تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي الجديد، يسرائيل كاتس، هو الآخر جانبًا من السيناريو المتوقع للسياسات الأمريكية إزاء طهران خلال الأعوام الأربع المقبلة لولاية “ترامب”، حينما دعا الأخير إلى “العمل معًا على تعزيز التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل” والتعاون لـ “هزيمة” الجماعات الوكيلة التي تقودها إيران في المنطقة.
نهج مغاير
مع تولي “ترامب” فترة رئاسية جديدة ستبدأ بدخوله البيت الأبيض في 20 يناير 2025، يصبح من المتوقع بشدة أن يتغير النهج الأمريكي في التعامل مع الملفات الإيرانية المتنوعة عما كان عليه خلال ولاية الديمقراطي جو بايدن، وهو ما سنلقي الضوء عليه فيما يلي.
- برنامج إيران النووي في عهد ترامب ما بين توقعات الضربة الحاسمة والاتفاق النووي المشروط أمريكيًا:
يُتوقع أن يستحوذ المستوى المتقدم الذي وصل إليه البرنامج النووي الإيراني على أبرز اهتمامات إدارة “ترامب” القادمة. فقد عبّر السياسي الجمهوري في أكثر من مناسبة عن انتقاده الشديد لما وصلت إليه طهران نوويًا، وتعهد في مراتٍ عديدة بالعمل على عدم منح إيران الفرصة لامتلاك سلاح نووي، بل كان خروجه بالأساس من الاتفاق النووي لعام 2015 تعبيرًا عن رفض بنوده التي رأى أنها تقدم خدمات نووية لإيران.
وقد دعا “ترامب” إسرائيل قبل يوم 26 أكتوبر الماضي إلى مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية وانتقد دعوة جو بايدن لها بعدم فعل ذلك. وقال في تصريحاته آنذاك “اضربوا النووي أولًا واهتموا بالباقي لاحقًا”. وأضاف تعليقًا على عدم موافقة بايدن على ضرب منشآت إيران النووية، إن “لدينا الخطر الأكبر الممثل في السلاح النووي (لدى طهران)، وبشأن تصريح إدارة “بايدن” بمطالبة إسرائيل بترك المنشآت النووية دون قصفها، أود أن أقول إن هذا ليس الجواب الصحيح، إنهم قريبًا سوف يحصلون على سلاح نووي وبعدها ستكون لدينا مشكلة كبيرة”.
لذا، يُتوقع أن يعمل “ترامب” هذه المرة بشكل أكثر حزمًا ويتخذ إجراءات أكثر صرامة تجاه الملف النووي الإيراني لا تُستثنى من بين سيناريوهاتها مشاركته ودعمه وتعاونه مع إسرائيل لشن هجوم موجه ومركز ضد مواقع نووية إيرانية تؤثر بشكل حاسم على البرنامج النووي الإيراني أو تقوم بتعطليه لسنوات طوال. وهنا، يمكننا أن نعود إلى تصريحات “ترامب” المذكورة وتشجيعه إسرائيل على القيام بذلك قبل ضربتها الأخيرة في 26 أكتوبر 2024.
إن التقدم اللافت للغاية الذي وصل إليه البرنامج النووي الإيراني، والمخاوف الأوروبية بشأنه والتهديد الذي تراه إسرائيل أيضًا في هذا الملف قد يشكلون معًا ضغوطًا ومحفزات دولية غربية إسرائيلية لاتخاذ “القرار الأكثر حسمًا” فيما يخص برنامج طهران النووي. وفي السياق نفسه، قد يشكل نقل إسرائيل لنهج الصراع الاستراتيجي مع طهران منذ اليوم الأول في شهر أبريل 2024، عبر استهداف مقر القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق وما تلاه من هجمات عسكرية متبادلة ومباشرة لأول مرة بين الطرفين، عاملًا مشجعًا للقوى الغربية على استهداف المنشآت النووية الإيرانية مباشرة.
فقد كسرت إسرائيل مع تلك الهجمات المباشرة على الأراضي الإيرانية حاجز “القلق” لدى الغربيين الذي طال لسنوات بشأن توجيه أية هجمات مباشرة على مواقع عسكرية أو نووية إيرانية، وهو في الواقع ما سعت إسرائيل للعمل عليه منذ هجوم القنصلية في دمشق. فقد حققت إسرائيل مكسبًا جوهريًا استراتيجيًا للغاية من خلال ضرباتها العسكرية على إيران بين شهري أبريل وأكتوبر 2024 تمثل في كسر ذلك الحاجز المُشار إليه.
ومع ذلك، يبرز هنالك سيناريو آخر فيما يخص التعامل المحتمل من جانب إدارة ترامب المقبلة مع البرنامج النووي الإيراني، وهو إبرامه معها اتفاقًا نوويًا يفرض فيه ترامب شروطه التي يريدها والتي لا تمنح إيران، من وجهة نظره، الفرصة لتحقيق تقدم نووي أو امتلاك سلاح نووي في نهاية المطاف. ولا يرفض “ترامب” مثل هذا الاتفاق، وهو ما عبر عنه كثيرًا سواء في إدارته السابقة أو بعد رحليه عن البيت الأبيض خلال السنوات الثلاث الماضية، إلا أنه يرى أهمية ضمانه لبنود وشروط بعينها تضمن المصالح الأمريكية ومصالح إسرائيل.
وفي الوقت نفسه، لا ترفض إيران أيضًا، خاصة في عهد حكم الإصلاحيين برئاسة مسعود بزشكيان، التوصل إلى اتفاق نووي مع الولايات المتحدة؛ إذ إن خلافها مع “ترامب” كان حول البنود وليس الاتفاق ذاته. كما أن طهران، المثقلة اقتصاديًا في الوقت الراهن والمنهكة عسكريًا بعد عمليات الاغتيال الواسعة لقادتها في الحرس الثوري والجماعات الوكيلة في المنطقة وعلى رأسها “حزب الله” اللبناني فضلًا عن ضربات إسرائيل العسكرية لها، يُتوقع أن تفضل التوصل إلى اتفاق نووي مع الإدارة الأمريكية المقبلة برئاسة “ترامب” حتى لو ناورت بعض الشيء من أجل الحصول على بعض المكاسب ولتجنب انتقادات الداخل وصورتها في الخارج.
كما أن من الجدير بالقول إن إيران قد تُقدم على التوصل لهذا الاتفاق مع إدارة “ترامب” من أجل تجنب ضربة محتملة لمواقعها النووية بالتعاون الأمريكي الأوروبي الإسرائيلي؛ خاصة وأن مواقف الدول الأوروبية ذاتها قد شهدت تغييرًا ملحوظًا تجاه البرنامج النووي الإيراني خلال سنوات حكم “بايدن” للولايات المتحدة عبرت عن مخاوفها إزاءه. بل كانت الدول الأوروبية في طليعة الدول الغربية التي أبرزت ردود فعل “انتقادية” للبرنامج النووي الإيراني خلال السنوات الثلاث الماضية.
وعلى أي حال، فإن ما يرجح أحد السيناريوهين هو الضغوط الإسرائيلية المستقبلية على “ترامب” ومدى التقدم في البرنامج النووي الإيراني وقرب توصل طهران لسلاح نووي، علاوة على نطاق الصراع العسكري، خاصة المباشر، بين إيران وإسرائيل خلال الأشهر القادمة.
- تقييد محتمل لبرامج الصواريخ الباليستية والمسيرات:
على النقيض من “بايدن”، يُبرز السياسي الجمهوري الرئيس المنتخب حديثًا دونالد ترامب إصرارًا على التعامل مع الملف الصاروخي لطهران وملف المسيرات. فخلال إدارته السابقة (2017 – 2021)، اتخذ ترامب خطوات عملية في هذا الصدد كان من بينها اتجاهه لتفعيل برنامج تخريب ضد جهود إطلاق الصواريخ الإيرانية بتسريب أجزاء معطلة من خلال شبكات التجهيز التي توظفها إيران لذلك.
ويرى “ترامب” أن التعامل مع برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، والمسيرات، يسير جنبًا إلى جنب مع مسألة تقييد القدرات النووية الإيرانية، أي أنه يأخذه على محمل الجد. ومن المتوقع أن يُدرج “ترامب” ملف الصواريخ الإيرانية في أية تسويات سياسية دبلوماسية مستقبلية بشأن الأنشطة النووية الإيرانية، أو أن يقوم، عن طريق دعم إسرائيل لوجستيًا، باستهداف المواقع والمصانع التي تقوم على هذه الصناعة العسكرية مثلما حدث في الضربات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة يوم 26 أكتوبر الماضي.
- مستقبل الانتشار العسكري الإيراني في الشرق الأوسط في ظل تراجع قدرات الجماعات الموالية لإيران في الإقليم:
يرتبط مستقبل رد فعل إدارة دونالد ترامب المحتملة إزاء الانتشار والنفوذ العسكري الإيراني في منطقة الشرق الأوسط مع التحولات الجارية التي تقودها إسرائيل بشأن توجيه ضربات وإضعاف للوكلاء العسكريين الإيرانيين في الإقليم، خاصة “حزب الله” اللبناني. حيث يبدو أن إسرائيل أطلقت “مشروعًا” وخططًا لتقييد النفوذ العسكري الإيراني في المنطقة من خلال إضعاف القدرات العسكرية للجماعات المسلحة الموالية لطهران بها وأبرزها “حزب الله” اللبناني الذي تؤكد إسرائيل أن ضرباتها الموجهة ضده تهدف إلى القضاء على قدراته العسكرية.
- الاقتصاد الإيراني وعودة سياسات “الضغط القصوى”:
جاءت التصريحات المعنية بمستقبل الاقتصاد الإيراني بعد فوز دونالد ترامب على رأس اهتمامات الحكومة الإيرانية وما يشغلها بعد هذا التطور، وهو ما عبرت عنه تصريحات المتحدثة باسم الحكومة الإيراني، فاطمة مهاجراني، المُشار إليها آنفًا. وتعزز هذه التوجهات والتوجسات الإيرانية بشأن مستقبل اقتصاد البلاد مع قرب دخول “ترامب” البيت الأبيض، والسياسات التي انتهجها “ترامب” في هذا الخصوص خلال فترة ولايته الأولى التي انتهت في 2021 والتي شهد خلالها الاقتصاد الإيراني فترة كساد وركود وتدهور غير مسبوق من حيث مستويات التضخم العالية والبطالة المرتفعة وتراجع قيمة العملة لمستويات تاريخية.
وتتبلور سياسة “ترامب” الاقتصادية تجاه إيران فيما يُعرف باسم “الضغوط القصوى”، أي ممارسة أكبر قدر من الضغوط على الاقتصاد الإيراني، عبر آلية فرض العقوبات الاقتصادية الواسعة النطاق، من أجل إجبار طهران على القبول بالتزامات وقيود معينة في مجالات وملفات عدة أبرزها الملف النووي والصاروخي والانتشار العسكري في المنطقة.
وعليه، يصبح من المحتمل بشدة أن يعيد “ترامب” في ولايته القادمة التي ستبدأ في يناير 2025 سياسة الضغط القصوى الاقتصادية مرة أخرى عبر إعمال حزم عقوبات اقتصادية متتالية، ما ينذر بسيناريو غير مبشر للاقتصاد الإيراني.
وختامًا، تجيء مسألة الضربات العسكرية الإيرانية المتوقعة تجاه إسرائيل؛ بعد هجمات الأخيرة في 26 أكتوبر الماضي ضد مواقع عسكرية تابعة للحرس الثوري في الأراضي الإيرانية، كذلك كأول التحديات والملفات البارزة أمام الحكومة الإيرانية بعد الإعلان عن فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. حيث سيمثل توقيت الضربة عاملًا مهمًا للغاية أمام صانع القرار العسكري والسياسي في طهران؛ ذلك لأن الأخيرة سيكون من الصعب عليها تنفيذ مثل هذه الضربة في ولاية “ترامب” المقبلة أو حتى تكرارها مرة أخرى، ما قد يدفع إيران إلى التعجيل والتسريع بتنفيذ هذه الضربة إذا ما كانت تنوي القيام بها بالفعل.كما أن صانع القرار الإيراني سوف يخشى في الوقت نفسه من أن تنفذ طهران الضربة ثم تنتظر إسرائيل الرد عليها لحين قدوم “ترامب”، ما يعني منح إسرائيل الفرصة لتحقيق الأهداف التي كانت تريدها في الهجوم الأخير وهي ضرب منشآت نووية ونفطية إيرانية.
ومن ثم، يُثار تساؤل مهم بشأن التوجهات المستقبلية للتعامل الإيراني مع إدارة ترامب المحتملة، وهو “هل ستحاول طهران تحمل فترة 4 سنوات من إدارة “ترامب” الجمهورية وعدم تقديم تنازلات نووية وعسكرية أو سياسية لحين انعقاد الانتخابات الرئاسية القادمة في الولايات المتحدة عام 2028؟”، على غرار ما وصفه المرشد الأعلى، علي خامنئي، خلال فترة ترامب الأولى بـ “اقتصاد المقاومة”، وتتحمل إيران بالتالي التداعيات الشديدة لتلك المواجهات المحتملة والمتوقعة مع الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الأوروبية. وستجيب الأيام المقبلة على هذا التساؤل، إلا أن “دبلوماسية طهران في الأوقات الصعبة” وأوضاعها الاقتصادية المتدهورة ومخاوف النظام السياسي من إثارة المزيد من الاضطرابات الاقتصادية حالة واسعة من عدم الاستقرار السياسي سوف تؤخذ بالاعتبار في طهران حين التفكير في هذه القضايا.