لبنانإسرائيل

حتمية التصعيد.. الجبهة اللبنانية بين الاشتعال التدريجي ومخاطر الانفجار

منذ أوائل العام الجاري، ومع تصاعد أنشطة حزب الله على خط الحدود بين إسرائيل ولبنان، بدأت المستويات العسكرية والسياسية في النظر بشكل جدي لضرورة تنفيذ عملية عسكرية هجومية ضد حزب الله، وهو ما ترسخ بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة، نظرًا لعوامل عدة تتراوح بين العوامل الميدانية والعوامل السياسية.

حقيقة الأمر أن سلسلة الأحداث المتعاقبة أخيرًا على الجبهة اللبنانية، سواء على مستوى العمليات الإسرائيلية التي تستهدف جنوب لبنان، أو التفاعلات الأخرى المرتبطة بالأنشطة الإسرائيلية في لبنان، باتت تشير إلى استراتيجية إسرائيلية رئيسية، تسير في مسارين متلازمين؛ الأول ميداني بحت تم فيه توسيع مدى ونطاق الاستهداف الجغرافي ليدخل ضمنه مناطق بعيدة جدًا عن خط المواجهة وفي العمق اللبناني، مثل منطقة البقاع التي تعتبر “عمقًا استراتيجيًا ولوجستيًا” لحزب الله، وكذا تعديل طبيعة بنك الأهداف الإسرائيلية، من خلال توسيع دائرة الاستهداف لتشمل إلى جانب “حزب الله” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي”، كل القوى والأحزاب اللبنانية الأخرى، مثل حركة أمل والحزب السوري القومي الاجتماعي والجماعة الإسلامية، كذلك أصبحت المعادلة الحالية تقتضي استهداف منطقة البقاع اللبنانية، في كل مرة يستهدف فيها حزب الله مناطق في هضبة الجولان المحتلة، أو مناطق بعيدة نسبيًا عن الحدود.

أما المسار الثاني فهو مسار تكتيكي، بدأ بشكل مبدئي منذ عملية اغتيال القيادي البارز في قوة الرضوان التابعة لحزب الله، وسام الطويل، في يناير الماضي، مرورًا باغتيال طالب سامي عبد الله، قائد المنطقة الوسطى في جنوب لبنان بحزب الله في يونيو الماضي، وبعده بشهر واحد اغتيال أحد القيادات الميدانية الأساسية في حزب الله بالمنطقة الجنوبية، وهو محمد نعمة ناصر، وصولاً إلى عملية اغتيال الرجل الثاني في حزب الله، فؤاد شكر، في يوليو الماضي، وعملية الاغتيال التي تمت أمس لقائد قوة الرضوان، إبراهيم عقيل، والتي يقول حزب الله إنها أسفرت أيضًا عن مقتل قائد بارز آخر بالحزب، وهو أحمد محمود وهبي. الغرض الأساسي من هذا المسار كان تمهيد الطريق أمام عملية عسكرية إسرائيلية ضد حزب الله، تحت عنوان إنهاء أو تحجيم التهديد الذي يمثله الحزب انطلاقًا من جنوب لبنان، وهو نفس المسار الذي يمكن من خلاله قراءة عمليات التفجير التي تمت لأجهزة اتصال حزب الله، على مدار يومين متتاليين.

عوامل التحول الإسرائيلي نحو الجبهة اللبنانية

يمكن إجمال العوامل التي تجعل الذهنية الإسرائيلية في المرحلة الحالية تدفع في اتجاه نقل التصعيد من قطاع غزة إلى الجبهة اللبنانية فيما يلي:

  • التصعيد الكبير في حجم ومستوى عمليات الاستهداف الصاروخي من جنوب لبنان في اتجاه مستوطنات الجليل، وكانت البداية في الرابع عشر من فبراير الماضي، عبر استهداف عدة مناطق في أطراف مدينة “صفد”، منها مقر القيادة العسكرية الشمالية، وقاعدة “ميرون” للمراقبة الجوية، ومن ثم لوحظت زيادة مطردة في عمق الهجمات الصاروخية لحزب الله، التي وسعت دائرة الاشتباك من 4-5 كيلومترات داخل الحدود الإسرائيلية، إلى نحو 10-15 كيلومتراً، عبر إدخال أنواع جديدة من الصواريخ بجانب صواريخ “جراد” وصواريخ المدفعية الصاروخية من عيار 107 ملم، مثل الصاروخ الإيراني الصنع المضاد للدروع “الماس”، الذي يتم توجيهه تلفزيونياً، والاستخدام المتزايد لصواريخ “كورنيت” المضادة للدروع، وصواريخ “بركان” الثقيلة قصيرة المدى.
  • وقد أشارت تقديرات جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “شين بيت”، إلى أن شهر أغسطس الماضي، قد شهد أكبر عدد من الصواريخ التي أطلقت من لبنان، بواقع 1307 صاروخًا تم إطلاقها من لبنان وسوريا، أي ما يزيد قليلاً عن 40 صاروخًا يوميًا، مقارنة بنحو 746 صاروخًا تم إطلاقها خلال شهر مارس الماضي، وهذا في مجمله يؤكد على وجود زيادة مطردة وتدريجية في حجم ومستوى عمليات الإطلاق الصاروخية من جنوب لبنان نحو شمال إسرائيل.
  • على مستوى عمليات الطائرات المسيرة، باتت الرحلات الاستطلاعية التي تنفذها طائرات حزب الله، مقلقة بشكل متزايد للجيش الإسرائيلي، خاصة بعد نجاح الحزب في استطلاع مواقع حساسة مثل منشآت ومواقع قرب وداخل مدينة حيفا الساحلية، ومرافق ومحيط قاعدة رامات ديفيد الجوية في الجليل الأدنى.
  •  يُضاف إلى ما سبق، تحول استخدام حزب الله للطائرات المسيرة، ليصبح مرتكزًا على عدة طرق، حيث لم يعد استخدامها مقتصرًا على العمليات الاستطلاعية، بل باتت تشمل العمليات الهجومية بعدة طرق. فمن جهة استخدم الحزب المسيرات الانتحارية بشكل ناجح، وحقق بها خسائر مهمة على الجانب العسكري الإسرائيلي، خاصة في ظل تكرار فشل المقاتلات والدفاعات الجوية الإسرائيلية في اعتراض هذه المسيرات، وهو ما مثل في حد ذاته استنزافًا مستمرًا للقدرات الدفاعية الإسرائيلية. كما أن حزب الله استخدم المسيرات في تنفيذ الهجمات الأعمق في شمال إسرائيل، وعلى رأسها هجوم على القاعدة العسكرية الإسرائيلية في منطقة مفرق الجولاني غرب بحيرة طبريا، وتبعد نحو 35 كيلو مترًا عن الحدود.
  • تجدر الإشارة إلى أن الحزب استخدم للمرة الأولى طائرات مسيرة “مسلحة بالصواريخ”، حيث نفذ هجومًا بطائرة مسيرة على مستوطنة المطلة، كانت تحمل صاروخين من فئة الصواريخ السوفيتية حرة التوجيه “S5“، لتصبح هذه الغارة التي اعترفت بها إسرائيل، أول غارة جوية تتعرض لها الأراضي الإسرائيلية منذ عام 1973.
  • كذلك تكررت محاولات حزب الله في التعمية على قدرات المراقبة لدى الجيش الإسرائيلي، حيث قام في عدة مناسبات بإطلاق عدد كبير من الصواريخ على قاعدة المراقبة الجوية في جبل ميرون، وفي الوقت نفسه، يداوم على استهداف أنظمة المراقبة والتصوير والرصد في المستوطنات والمواقع العسكرية الحدودية، وكذلك أنظمة المراقبة الجوية “مناطيد – مسيرات”، وهو تكتيك مكلف على المستوى الإسرائيلي.
  • دخول عمليات الدفاع الجوي لحزب الله في طور التفعيل المتزايد، مثل أيضًا عامل قلق للجيش الإسرائيلي، خاصة بعد إعلان الحزب استهداف المقاتلات الإسرائيلية بصواريخ دفاع جوي، وهو ما يجعل العمليات الجوية الإسرائيلية في الأجواء اللبنانية أو انطلاقًا منها في اتجاه سوريا، مشوبة بمخاطر جدية، بالنظر إلى أن الحزب سبق وكشف عن امتلاكه منظومات “سام-6” الروسية للدفاع الجوي المتوسط، بجانب امتلاكه صواريخ إيرانية التطوير، تم استخدامها بنجاح في لبنان واليمن، ناهيك عن تمكنه حتى الآن من إسقاط خمس طائرات مسيرة تابعة للجيش الإسرائيلي، بواقع ثلاث مسيرات استطلاعية من نوع “هيرميس-900″، وطائرتين استطلاعيتين من نوع “هيرميس-450”.
  • رصد محاولات من جانب حزب الله لتنفيذ عمليات خاصة في العمق الإسرائيلي، من بينها عملية أعلن جهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشين بيت”، صباح الثلاثاء الماضي – وهو نفس اليوم الذي بدأت فيه التفجيرات التي طالت أجهزة اتصالات حزب الله، عن إحباطه محاولة للحزب، كان يخطط خلالها لاغتيال مسؤول أمني إسرائيلي كبير سابق – يرجح أنه وزير الدفاع السابق موشيه يعلون – باستخدام عبوة ناسفة. وأضاف الجهاز أن الشبكة التابعة لحزب الله التي تقف وراء هذه المحاولة، كانت مسؤولة أيضًا عن تفجير تم في حديقة اليركون في تل أبيب العام الماضي. المحاولة التي تم إجهاضها تم اكتشاف العبوة الناسفة التي كان سيتم تنفيذها بها، وهي عبارة عن لغم مضاد للأفراد من نوع “كلايمور”، تم تزويده بنظام تفجير عن بعد، مما كان سيسمح لحزب الله بتفعيلها من لبنان. عقب هذا الإعلان.
  • يُضاف إلى ذلك إعلان الجيش الإسرائيلي منذ يومين، عن إحباط محاولة تفجير عبوة ناسفة ضد قواته على الحدود مع لبنان، ونشر تسجيلاً من كاميرا كان مزود بها أحد المسلحين التابعين لحزب الله، والذي كان جزءًا من خلية مكونة من فردين، حاولا الاقتراب من الحدود قرب نقطة “تسيبورين” في الجليل الأعلى، لزرع عبوة ناسفة، فرصدهم جنود المراقبة من وحدة جمع المعلومات القتالية 869، واشتبك معهم جنود لواء جولاني وأطلقوا النار عليهم، وتم استهدافهم بالمدفعية، ما أدى إلى مقتلهم.

حسم تل أبيب خياراتها في الجبهة اللبنانية

تسبب تصاعد العمليات العسكرية في المنطقة الشمالية لإسرائيل إلى تثبيت لواءين على الأقل في هذا النطاق، وهو ما خلق معضلة ترتبط بطول الفترة التي يتواجد فيها جنود هذين اللواءين على الجبهة وفي حالة الاستنفار الدائمة، وهو الوضع الذي استمر حتى بعد تعزيز هذين اللواءين، بلواء المشاة الاحتياطي السادس “إتزيوني” في أبريل الماضي، وبات يوجد الآن على هذه الجبهة 4 ألوية (3 إقليمية، و1 احتياطي)، بجانب لواء واحد إقليمي على الحدود مع سوريا. هذا الوضع يضاف إلى معضلة أخرى ترتبط بتصاعد الغضب في سكان المستوطنات الشمالية نتيجة استمرار تعرض هذه المناطق لصواريخ حزب الله، وتزايد حجم الأضرار التي لحقت بالمساكن والبنى التحتية، وتأثر الأنشطة الاقتصادية في هذه المناطق بشكل كبير.

في يونيو الماضي، صرح رئيس الأركان الإسرائيلي، برأي “متحفظ” حول احتمالات القتال في الجبهة اللبنانية، حين رأى أن أوان اتخاذ “قرارات حاسمة” فيما يتعلق بالجبهة اللبنانية، أصبح قريبًا. حقيقة الأمر أنه يمكن اعتبار هدف نقل القتال إلى جبهة لبنان، والتعامل بشكل فعال مع التهديدات التي يمثلها حزب الله انطلاقًا من جنوب لبنان، بمثابة أحد الأهداف الأساسية في هذه المرحلة بالنسبة لإسرائيل، خاصة أن وضعًا مماثلاً كان سائدًا سابقًا في ثمانينيات القرن الماضي، وأدى إلى تنفيذ الجيش الإسرائيلي عملية اجتياح شاملة لجنوب لبنان – ثم بيروت – عام 1982، وهو ما يرجح حدوثه في المدى المنظور، ما لم يتم التوصل إلى موائمة سياسية بين واشنطن وبيروت.

وتشير بعض التقديرات إلى وجود نوايا وخطط لبدء عملية عسكرية في اتجاه نهر الليطاني خلال شهرين أو ثلاثة، عبر الدفع بـ 12 لواءً قتاليًا ضمن ثلاث فرق هي الفرقة 146 والفرقة 36 والفرقة 98. هذه التقديرات تضع في اعتبارها التوقف التام للعمليات في قطاع غزة، وهو شرط أساسي من دونه لن تتمكن إسرائيل من حشد القوات اللازمة لتنفيذ عملية اجتياح كبيرة، لذا يمكن القول أن العمليات في قطاع غزة تبقى لها الأولوية الأساسية في المرحلة المعاشة حاليًا.

الواقع أن المستويات العسكرية والسياسية في إسرائيل تجمع بشكل كبير على ضرورة نقل الزخم القتالي إلى الجبهة اللبنانية في المدى المنظور، وتحجيم النشاط القتالي في قطاع غزة، وهذا يشمل قائد القيادة الشمالية، أوري جوردين، ورئيس مديرية العمليات، عوديد باسيوك، الأكثر تحمسًا لشن عملية عسكرية في لبنان وأقر بشكل كامل في يونيو الماضي، الخطط العملياتية لهجوم محتمل على لبنان، وقد صرح أوري جوردين مؤخرًا، بأنه يوصي بعملية حدودية سريعة، لإنشاء منطقة عازلة في جنوب لبنان.

فيما يتعلق برئيس الأركان ووزير الدفاع الإسرائيلي، فتبدو آراؤهما في هذا الصدد أكبر تحفظًا، فقد صرح وزير الدفاع الإسرائيلي عدة مرات خلال زياراته السابقة لمقر القيادة العسكرية الشمالية في صفد، أن الهدف الرئيسي لإسرائيل في الجبهة الشمالية، هو إعادة عشرات الآلاف من النازحين الإسرائيليين إلى منازلهم، وقد أبلغ جالانت مؤخرًا نظيره الأمريكي، بأن الفرص تتضاءل أمام حل دبلوماسي للمواجهة مع حزب الله، في حين تبدو وجهة نظر رئيس الوزراء الإسرائيلي، مشجعة بشكل كبير على تنفيذ هجوم حاسم على جنوب لبنان.

لكن هناك خلاف أساسي على المستوى التكتيكي بين كل من وزير الدفاع ورئيس الوزراء الإسرائيليين، حيث يتفق كلاهما على أن هدف إعادة النازحين من مستوطنات الشمال إلى منازلهم هو هدف له أولوية قصوى، وهو ما يتطلب بالضرورة إما خوض مواجهة عسكرية مع حزب الله أو التوصل إلى اتفاق ما، لكن يختلف كلا الرجلين في شكل وكيفية تحقيق هذا الهدف، فنتنياهو يدفع لإطلاق عملية عسكرية واسعة ضد حزب الله، في حين يطالب جالانت بالتريث وإعطاء الوساطة فرصة إضافية قبل شن هجوم قد يتحول إلى حرب شاملة، ويرى أن توسيع القتال الحالي إلى الجبهة الشمالية قبل استنفاد التحركات في غزة هو خطأ استراتيجي، وهو رأي يرتبط أيضًا بالخلافات بين الرجلين على ملف التواجد الدائم في محور فيلادلفيا في قطاع غزة.

الخلافات بين الجانبين حول مسألة الهجوم الموسع على لبنان، دفعت رئيس الوزراء الإسرائيلي، بالتهديد مجددًا بإقالة وزير الدفاع، علمًا أن العلاقات بينهما قد دخلت إلى مسارات متوترة منذ شهر مارس 2023، على خلفية عدة ملفات، منها انتقاد جالانت لقانون الإصلاح القضائي، وهو ما دفع نتنياهو لإقالته من منصبه في نفس الشهر، قبل أن يتراجع عن هذه الخطوة بعد نحو أسبوعين. هذا التوتر شمل أيضًا علاقة أعضاء الحكومة بجالانت، حيث يطالب الجزء الأكبر منهم بإقالته، بسبب معارضته لمشروع قانون تجنيد الحريديم الذي تدعمه الحكومة، ومعارضته العلنية لموقف نتنياهو بشأن صفقة الرهائن والسيطرة على محور فيلادلفيا.

خلال الأيام الماضية، بحث نتنياهو بشكل جدي في إمكانية تعيين رئيس حزب “الأمل الجديد”، جدعون ساعر، بديلاً لجالانت، لكن عدة عوامل أدت إلى تراجعه بشكل مؤقت عن هذه الخطوة، من بينها الخشية من تأثيرات ذلك على المؤسسة العسكرية، وكذا عدم تفاعل واشنطن بشكل إيجابي مع هذا الطرح، لكنه في نفس الوقت بات ينظر لجالانت بشكل سلبي، وبات من الواضح أن نتنياهو يعمل ويخطط للحفاظ على حكومته حتى الرمق الأخير، ووجود جالانت كوزير للدفاع يزعزع ذلك، ولكن إقالة جالانت في هذا التوقيت قد تُخرج مئات آلاف الإسرائيليين للشوارع وتفتح بابًا لم يتوقعه نتنياهو.

لذلك يمكن القول إن الظروف على المستوى الداخلي في إسرائيل تبدو مهيأة لتفعيل تحرك هجومي في اتجاه لبنان، وهي خطوة يرغب فيها معظم الطيف السياسي والعسكري الإسرائيلي منذ ما بعد السابع من أكتوبر، من زاوية أنها تمثل فرصة أخرى لبقاء نتنياهو ودعم سياساته الأمنية، وفي الوقت نفسه تمثل فرصة لإنهاء خطر حزب الله أو تحجيمه، وهو تحرك لن يكون هناك من يعارضه في الداخل الإسرائيلي بقوة، مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية وعدم استطاعة واشنطن في الظروف الحالية، بذل ضغط كبير على تل أبيب في هذا الشأن. هذا التوجه في مجمله، يجعل قرار الحرب في لبنان، قرارًا جماعيًا داخليًا يتصدره نتنياهو، ويبدو صوت جالانت ورئيس الأركان فيه، أقل ظهورًا، ويرجح بشدة أن يؤدي التصعيد بشكل أكبر مع حزب الله، إلى تأخير مسألة إقالة جالانت.

ما بين “البيجر” و”الضاحية” … دفع حزب الله نحو عملية “أرجوف”

بالنظر إلى السياق السابق، يمكن القول إن هجمات أجهزة الاتصالات الخاصة بحزب الله، وعملية اغتيال إبراهيم عقيل، تُعتبر بمثابة تطبيق آخر من جانب إسرائيل لتكتيك “طنجرة الضغط”، الذي تستخدمه خلال عمليات الاقتحام التي تقوم بها في الضفة الغربية، والذي يقتضي الاستهداف المكثف للغرف والمناطق المحيطة بالشخص المراد القبض عليه، بهدف تضييق الخناق عليه وإجباره على الخروج من مكمنه لملاقاة مصيره.

واقع الأمر أن عملية اغتيال قائد قوة الرضوان ورئيس عمليات حزب الله إبراهيم عقيل، إلى جانب عدد آخر من كبار المسؤولين في قوة الرضوان، والمسؤولين عن مخططات السيطرة على الجليل، تُعتبر مفصلية في تحديد ماهية النوايا الإسرائيلية تجاه لبنان، فقد تمت هذه العملية في نفس اليوم الذي حلت فيه الذكرى الأربعون لعملية تفجير السفارة الأمريكية في بيروت عام 1984، والتي تتهم واشنطن عقيل بالتورط فيها، وكذلك في تفجيرات مقر مشاة البحرية الأمريكية في بيروت العام الذي سبقه.

وقد عرضت الولايات المتحدة الأمريكية – التي تعتبر عقيل إرهابياً دولياً منذ سبتمبر 2019، مكافأة قدرها 7 ملايين دولار عام 2023، لمن يدلي بمعلومات عنه. من هذه الزاوية لوحظ أن تل أبيب راعت أن يكون لاغتيال عقيل رمزية ترتبط بالولايات المتحدة الأمريكية، ضماناً لعدم تأثر العلاقات معها بهذه العملية التصعيدية.

يضاف إلى ذلك أنه بمقتل عقيل، باتت المستويات القيادية الأساسية في حزب الله شبه فارغة من القياديين ذوي الخبرة والمكانة الميدانية والتنظيمية، وهو ما يمكن النظر إليه من زاوية تكتيك “طنجرة الضغط”، بما يخدم هدفين أساسيين، الأول هو التأثير بشكل جدي على القوة البشرية لحزب الله بجانبيها القيادي والميداني، سواء عبر عمليات الاغتيال المستمرة أو عبر الغارات الجوية التي تستهدف عناصره ومنصات إطلاق الصواريخ في جنوب لبنان، وكذا عملية استهداف أجهزة الاتصالات التابعة للحزب، والتي كانت لها أهداف تتعدى مسألة إلحاق أضرار مؤثرة بعدد كبير من عناصر وكوادر الحزب، لتصل إلى ضرب الحزب في منظومة اتصالاته الميدانية، وتعطيل أية خطط له لتنفيذ عمليات عابرة للحدود في المدى المنظور، نتيجة لعدم اتضاح مستوى وحجم الاختراق الإسرائيلي داخل حزب الله حتى الآن.

ولعل الجانب النفسي هنا، يبدو خاضعًا لاهتمام إسرائيلي خاص، سواء عبر تحليق المقاتلات الإسرائيلية على ارتفاع منخفض، في أجواء العاصمة اللبنانية، بالتزامن مع بث خطاب الأمين العام لحزب الله منذ يومين، والذي تم بعد أقل من 24 ساعة من بثه، تنفيذ عملية اغتيال عقيل، في اختبار واضح لمعادلة “العمق – بالعمق” التي تحدث عنها الأمين العام لحزب الله مرارًا، وهي نقطة هامة نظرًا لأن تل أبيب تحاول في هذه المرحلة إيصال رسالة مفادها أن حزب الله مقيد بالتزاماته نحو “محور المقاومة”، وبالتالي لن تتوافر له فرصة للرد بشكل “موازٍ” على العمليات العسكرية الإسرائيلية المتتالية، وهنا يجدر القول إن حديث إيران في هذا التوقيت، عن قرب الانتقام لعملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس “إسماعيل هنية”، ربما يرجح أن طهران ستعمل على تنفيذ هذا الرد خلال المدى المنظور، لرفع الضغوط الحالية عن حزب الله.

في الخلاصة، تشير المؤشرات الميدانية المتوفرة، سواء العمليات الإسرائيلية الأخيرة في بيروت، أو عمليات النقل الكثيفة للدبابات والمدرعات الإسرائيلية نحو الحدود اللبنانية، أو رصد تواجد سفينتي الإنزال اللتين حصلت عليهما إسرائيل مؤخرًا، في نطاق جزيرة كريت، بجانب إحدى سفن البحرية البريطانية، وهو ما قد يشير إلى احتمالية إجراء تدريبات على تنفيذ عمليات برمائية، أو الدفع مؤخرًا بكتائب الفرقة 98، التي كانت تقاتل في أوقات سابقة في قطاع غزة، نحو الحدود اللبنانية، أو حتى التصريحات الحديثة لقائد القيادة الشمالية، اللواء أوري جوردين، التي أفاد فيها بأن الجيش الإسرائيلي عازم على تغيير الوضع الأمني ​​على الحدود اللبنانية، “في أقرب وقت ممكن”، جميعها تبدو مؤشرات تصب في صالح بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية قريبًا في الجبهة اللبنانية.

ذلك حتى لو كانت عمليات محدودة، حيث أن إسرائيل تصعّد بكافة الوسائل العسكرية والاستخبارية، وحزب الله يتلقى ضربات مؤثرة، وهذا ربما كان سببًا رئيسيًا في إعلان واشنطن عن إرسال المجموعة القتالية لحاملة الطائرات “هاري ترومان” إلى شرق المتوسط، علمًا أن واشنطن ترى في التصعيد الحالي، إما فرصة للتوصل إلى اتفاق “تحت النار”، يوقف التدهور في الجبهة اللبنانية، بالتزامن مع توقف مرتقب للعمليات في قطاع غزة، أو مقدمة لتصعيد ميداني يمكن السيطرة عليه عبر التواجد البحري والجوي الأمريكي في المنطقة.

وربما تذكرنا التطورات الحالية في لبنان بالإرهاصات التي سبقت الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، والتي كان محركها “الشكلي”، محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، شلومو أرجوف، حيث تبدو التحركات الإسرائيلية الحالية في إطار استدراج رد فعل “غير منضبط” من جانب حزب الله، لبدء عملية عسكرية إسرائيلية في لبنان، تستهدف تحقيق ما عجزت عنه إسرائيل منذ ثمانينات القرن الماضي، ألا وهو “سلامة الجليل”، لكن الفارق هنا أن تل أبيب تريد تحقيق ذلك بالحد الأدنى من التحركات العسكرية، أي أن يظل الوضع ما دون “حرب شاملة” في المنطقة، وبالتالي تضع حزب الله أمام ثلاثة خيارات جميعها صعبة، الأول هو الإقرار بعدم القدرة على مواصلة المواجهة مع تل أبيب، وبالتالي الدخول في تسوية “سياسية”، تتضمن تنفيذ كامل بنود القرار الأممي 1559، وهو خيار له مخاطره على المستوى الداخلي في لبنان، أو مجاراة التصعيد الإسرائيلي بتصعيد مماثل، والمخاطرة بالتعرض لضربات أكبر في ظل “قبول” غربي بالنهج الإسرائيلي المتبع في قطاع غزة وجنوب لبنان، أو تجاهل التصعيد الإسرائيلي، والعمل على إدامة الضربات الصاروخية والمسيرة للجليل والجولان، وهو خيار له تكلفته، خاصة أن تل أبيب بتحركاتها الأخيرة في بيروت، جعلت الرد المقابل من جانبها على تصعيد عمليات استهداف الجليل، أكبر قوة بكثير من ردودها السابقة التي كانت تقتصر على قصف محيط مدينة بعلبك.

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى