ما هو واقع أزمة نقص الدواء بمصر؟
ليست صناعة الأدوية مجرد قطاع اقتصادي مساهم في الناتج المحلي الإجمالي، بل هي ركيزة أساسية للأمن الصحي والاقتصادي والاجتماعي بل والقومي لأي دولة. والقدرة على توفير الأدوية محليًا تساهم في تحسين الصحة العامة، ودعم الاقتصاد، وتعزيز الأمن الوطني. وتطوير صناعة دوائية محلية قوية يعد استثمارًا استراتيجيًا على المدى الطويل، ويضمن استدامة الرعاية الصحية للأجيال القادمة. ورغم الرؤية الاستراتيجية للدولة لتوطين التصنيع الدوائي في مصر، إلا أنه خلال الأشهر القليلة الماضية مرت رحلة صناعة وتجارة الدواء في مصر بعثرات قوية انعكست على توافر بعض أصناف الأدوية في الصيدليات العامة. وخطورة التحدي الأخير -المتمثل في نقص أصناف دوائية أساسية كالأنسولين- يدفعنا إلى التطرق لجذور الأزمة ومحاولة الوصول إلى سبل الحل الممكنة.
التحدي الراهن
تشهد سوق الدواء المصرية، منذ أشهر، اختفاء عدد من أصناف الدواء وبخاصة أصناف تتعلق بالأمراض المزمنة كالضغط والسكري والأمراض المناعية. وتشير تقديرات شعبة الأدوية بالاتحاد العام للغرف التجارية إلى أن النقص في حجم المعروض بالأسواق يبلغ حوالي ألف نوع من أصل 17 ألف صنف، وسط مخاوف من أن تمتد الأزمة من عدم التوافر في صيدليات القطاع الخاص لتصل إلى المستشفيات أيضًا. خاصة أن أزمة نقص الأدوية طالت عددًا من أصناف الأدوية الأساسية وعلى رأسها الأنسولين المستورد والمحلي من الصيدليات التابعة للقطاع الخاص.
فقد قل تداول صنف الأنسولين المستورد من الأسواق بعد ارتفاع ثمنه نتيجة لارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه، ولم يتبق سوى بديله المحلي، ويتم صرفه من خلال الصيدليات التابعة للحكومة، وفق قيود إدارية محددة لمنع صرف الدواء دون وجه حق وإعادة تداوله مرة أخرى في السوق السوداء، والحفاظ على المخزون المتاح لمستحقيه، فيتم صرف جرعة أسبوعية لكل مريض وفق وصفة طبية حديثة (روشتة) موقعة ومختومة من الطبيب المعالج، وبطاقة الرقم القومي، إلى جانب تحليل سكري حديث. إلا أن هذه الآلية تشكل ضغطًا على النظام الصحي والصيدلي الحكومي؛ حيث أدت إلى تكدس عدد كبير من المواطنين أمام الصيدليات العامة وقد تمتد معاناة وقوف المريض فيها إلى أكثر من ساعة.
في الآونة الأخيرة، لوحظ وجود العديد من الشكاوى بشأن عدم توافر عدد من الأصناف الدوائية الضرورية الأخرى لأصحاب الأمراض المزمنة في الصيدليات، على الرغم من الإعلان الحكومي المتكرر بضخ كميات إضافية من بعض أصناف الدواء. الأمر الذي استغله البعض لخلق سوق سوداء للكثير من الأدوية المهمة والمنقذة للحياة، خاصة مع سوء توزيع الأدوية في مختلف أنحاء الجمهورية.
أبعاد الأزمة
وبنظرة أشمل، يؤثر نقص الأدوية بشكل مباشر على الصحة العامة للمواطنين. ولا تنحصر أزمة نقص الدواء في مصر في نقص الأنسولين فقط، فقائمة الأدوية التي تضم أصنافًا غير متوفرة تضم ما يزيد عن ألف صنف مرشحة للزيادة مع استمرار أسباب الأزمة دون علاج جذري. ويعاني سوق الدواء بمصر من بعض العقبات التي تقوض استمراره ونموه، رغم نوايا وخطى الدولة لتوطين صناعة الدواء بمصر، كبناء مدينة الدواء “جيبتو فارما” بمنطقة الخانكة لتصبح مركزًا لصناعة وتصدير الأدوية لدول الشرق الأوسط، إلى جانب زيادة عدد مصانع الأدوية المرخصة في مصر من 130 مصنعًا بإجمالي 500 خط إنتاج في عام 2014 إلى 191 مصنعًا تمتلك 799 خط إنتاج في الفترة الحالية، بنسبة نمو 37% في عدد المصانع، و60% بخطوط الإنتاج، حسب هيئة الدواء المصرية، إلا أن معدلات الزيادة هذه لا تكفي حتى لتغطية احتياجات السوق المحلي لدولة بحجم مصر، ولديها سوق متنامٍ بما يزيد عن 2 مليون نسمة سنويًا.
فبحسب شعبة الأدوية في اتحاد الغرف التجارية، تنتج مصر 94% من الدواء المطروح في الأسواق محليًا، في حين تستورد 6% فقط. لكن في الوقت نفسه، تعتمد مصانع إنتاج الأدوية المصرية على استيراد 95% من الخامات الدوائية من الخارج، إذ تأتي 85% من مدخلاتها من الخارج، بدءًا من المواد الفعالة ومرورًا بالورق والكرتون والأحبار والألومنيوم. ولا توجد استراتيجية معلنة لتصنيع المواد الخام محليًا. وأي تعطل في سلاسل التوريد العالمية، سواء بسبب أزمات اقتصادية أو سياسية، يمكن أن يؤدي إلى نقص كبير في قطاع الأدوية.
وعلى الجانب الآخر، يُعتبر تسعير الدواء أحد القضايا الأصيلة في أزمة الدواء المتكررة، فالدواء إحدى السلع المسعرة جبريًا في مصر كالمواد البترولية والخبز، باعتبارها سلعة استراتيجية مهمة، لا يجوز التخلي عنها، أو تركها لقوى العرض والطلب، مما يجعل الشركات غير قادرة على رفع أسعار بعض الأدوية لتغطية التكاليف المتزايدة، وبالتالي قد تُفضل إيقاف الإنتاج بدلاً من الاستمرار في الخسارة.
تعاني سوق الدواء المصرية منذ قرابة العامين من اضطراب مخزون وإنتاج الأدوية نتيجة أزمة توافر العملة الأجنبية اللازمة لفتح اعتمادات لاستيراد المواد الخام اللازمة للإنتاج. ومنذ مارس الماضي- بعد تحرير سعر الصرف -والذي وصل إلى حوالي 48 جنيهًا/دولارًا، شهدت صناعة الأدوية تراجعًا إنتاجيًا نتيجة إحجام عدد من المصانع عن التصنيع بالمعدلات الطبيعية نظرًا لارتفاع تكاليف الإنتاج لارتفاع سعر الصرف من حوالي 31 جنيهًا/دولارًا إلى حوالي 48 جنيهًا/دولارًا، مع عدم وجود ضمانات إن مع تحريك أسعار الأدوية أن يستقر السوق ولا يتم تحريك سعر صرف الجنيه مرة أخرى، خاصة أن أصحاب شركات الأدوية ترى أن زيادة أسعار بعض الأصناف –قرابة 700 مستحضر دوائي– إلى حوالي 50% فهو بمثابة تعويض عن الخسائر الناتجة عن تحريك سعر الصرف ولا تصب في صالح أرباح الشركات. إلى جانب إحجام بعض شركات الأدوية عن إعطاء نسب خصم للصيدليات- تمثل عادة هامش الربح المُحتَمل للصيادلة- ما أدى إلى إغلاق عشرات الصيدليات الصغرى، بسبب تراكم المديونيات، وتآكل رأس المال.
ومن ثم، أثر توافر الدولار على توافر بعض الأدوية الأساسية كمخفضات الحرارة والمضادات الحيوية، إلى جانب العقاقير الخاصة بمعالجة الأمراض المزمنة، كالضغط والقلب والسكري، وأيضًا على توافر بعض الأدوية المساعدة الأخرى، كالفيتامينات والمكملات الغذائية، التي لا تخضع للتسعيرة الجبرية الحكومية، باعتبارها أدوية غير أساسية، لذا شهدت هذه الأدوية مؤخرًا ارتفاعات متوالية دون رقيب، رغم أهميتها القصوى لبعض الحالات المرضية.
وعلى صعيد آخر، أثر اتساع رقعة الصراع بحرب غزة في تفاقم أزمة الدواء في مصر، حيث تعتمد الكثير من شركات الأدوية على شركات الشحن البحري باعتباره أقل تكلفة من الطيران، لكن الاضطرابات في مضيق باب المندب جعلت سفن الشحن التابعة للهند والصين، اللتين تستورد مصر منهما مواد خام لصناعة الدواء، تلجأ إلى طريق رأس الرجاء الصالح؛ فأصبحت رحلة وصولها للموانئ المصرية تستغرق نحو ثلاثة أشهر وبتكلفة أعلى من الشحن الجوي الذي أصبح الحل الوحيد المتاح أمام الشركات، لكونه أسرع في زمن الوصول، وهي مضطرة لتحمل تكلفته العالية، والتي انعكست وستنعكس بدورها على أسعار الدواء.
وبخلاف التأثيرات الصحية لأزمة نقص الدواء التي أصابت عددًا كبيرًا من الأدوية الأساسية، فهناك تأثيرات اقتصادية ولعل أهمها لجوء المواطنين لشراء الدواء من السوق السوداء بأسعار مضاعفة مما يزيد من الأعباء المالية على الأسر، ويؤثر على هيكل إنفاق الأسرة، خصوصًا في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، ويحرم الدولة من موارد ضريبية كان يمكن تحصيلها من المصارف الرسمية لبيع الدواء.
خطى نحو الحل
إجمالاً، فقد تأثر سوق الدواء بعدة عوامل متشابكة ومعقدة كتعطل سلاسل الإمداد والتوريد، وأزمة شح الدولار لبعض الوقت، وتحريك سعر الصرف، والتقيد بتسعير جبري للأدوية الأساسية، وغيرها من الأسباب التي أدت إلى عدم توافر عدد من الأصناف الدوائية في الصيدليات. ما استوجب تنفيذ حلول آنية للأزمة إلى جانب علاج مواطن القصور المتجذرة في قطاع صناعة الدواء.
وفي إطار حرص الحكومة على حل الأزمة الراهنة من خلال حلول تراعي التوازن بين مصالح المواطن واستدامة ونمو صناعة الدواء في مصر، اتخذت عدة إجراءات من شأنها حل الأزمة الحالية، وكان من أهمها: ضخ كميات إضافية تقدر بحوالي 364 مستحضرًا بإجمالي 133 مليون عبوة من العديد من المستحضرات الدوائية المهمة أبرزهم أدوية الضغط والقلب والسكر والأورام والمضادات الحيوية، منذ بداية أغسطس حتى 16 سبتمبر الجاري.
على الجانب الآخر، سمحت هيئة الدواء، في يونيو الماضي، لشركات الأدوية العاملة في السوق المحلية بزيادة أسعار الدواء في مصر بنسبة 20-25% لأدوية الأمراض المزمنة، وبنسبة تصل إلى 50% لأدوية الفيتامينات والمكملات الغذائية. على أن يتم تطبيق زيادة أسعار الأدوية على دفعات، تبدأ بزيادة أسعار 150 صنفًا، وبعدها سيتم زيادة أسعار ما بين 80-100 صنف كل 3 شهور، على أن يتم تشكيل لجنة حكومية تتولى مراجعة أسعار الدواء كل 6 شهور بناءً على تغير سعر الصرف وأسعار الخامات المستوردة، وذلك لتحسين سياسات التسعير بما يسمح للشركات بتغطية تكاليف الإنتاج وتحقيق أرباح معقولة، دون الإضرار بالمستهلك.
كذلك أجرى رئيس هيئة الدواء عدة اجتماعات مع رئيس وممثلي شعبة المستلزمات الطبية بغرفة صناعة الأدوية، لمناقشة التحديات التي تواجه قطاع صناعة المستلزمات الطبية، وسبل تحسين القوة التنافسية للمنتج المصري، والعمل على توطين صناعة الدواء والمواد الخام للمستحضرات الطبية اللازمة للصناعة، وزيادة حجم الصادرات الدوائية حيث تتوفر لمصر فرصة الدخول إلى السوق الأفريقي للاستفادة من الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة بين مصر والبلاد الأفريقية، حيث تسهم تلك الصناعة في زيادة مساهمة قطاع المنتجات الطبية في الناتج المحلي القومي من خلال النهوض بمعدلات النمو الصناعي وتوسيع الاستثمار؛ مما يعزز قدرة الدولة التصديرية، ولا سيما مع الاستمرار في العمل على جودة المنتجات المصرية طبقًا للمعايير العالمية. فيُعتبر تعزيز الصناعة المحلية للأدوية أحد الحلول المستدامة للأزمة الراهنة، وقد يسهم تقديم حوافز ائتمانية وضريبية موجهة لشركات القطاع، وتسهيل الحصول على المواد الخام في تشجيع الصناعة.
على الجانب الآخر، قد يكون حان الوقت لتحسين التخطيط الاستراتيجي للدواء، من خلال تأمين احتياطيات كافية من المواد الخام للدواء وبخاصة للأدوية الأساسية والمنقذة للحياة. مع تعزيز وتفعيل آليات الرقابة على سوق الأدوية لرقابة مخزون الاحتياطيات، ومخازن الأدوية ومراجعة دفاتر الشركات المنتجة لها، وخطوط الإنتاج الخاصة بها. ولضمان عدم تسرب الأدوية إلى السوق السوداء وضمان توفرها بأسعار عادلة، كذلك ضمان عدالة توزيعها على المحافظات والصيدليات المختلفة، ولمنع حالات الغش التجاري وتداول أدوية مجهولة المصدر تضر بسمعة وجودة الدواء المصري.
وكجزء من حل أزمة نقص الأدوية وأصناف تجارية بعينها، من الضروري أن تتبنى الدولة مبادرة تعمل على تغيير ثقافة المريض والطبيب تجاه استهلاك الدواء، والتوجه نحو تعميم كتابة الاسم العلمي أو المادة الفعالة للدواء وليس الاسم التجاري، خاصة أن مصر تُعد من أكبر مستهلكي الأدوية في المنطقة، مع وصول عدد سكانها إلى ما يزيد عن 106 ملايين مواطن.
أخيرًا، تحقيق الأمن الدوائي المصري واستدامة الخدمة الطبية، أمر حيوي ويعد جزءًا من الأمن القومي المصري، ويتطلب تكاتف الجهود بين الحكومة والقطاع الخاص لضمان حل مستدام. وقد تأثر قطاع الأدوية، كأي سلعة بها مكونات دولارية، خلال الفترة الأخيرة في ظل وجود أزمات عالمية، لكن يمكن الاستفادة من التكنولوجيات الحديثة وجهود تحسين المناخ الاستثماري لخلق فرص استثمارية جيدة بقطاع صناعة المستلزمات الطبية، وخلق المزيد من فرص العمل مما يسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية للدولة.